الأربعاء، 23 أغسطس 2023

انهيار الحركة الإنسانية: بين رؤية "بلوك" وسيولة "باومان"..

 



    انطلقت الحركة الإنسانية من إيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي، باعتبارها حركة فكرية وثقافية انتشرت متأخرة نسبيا في عواصم أوروبا في انجلترا، وفرنسا، وهولندا والعديد من العواصم في القارة الأوروبية، وكان هدفها تمجيد عقل وقوة الإنسان وإعادة الاعتبار إليه، فكان شعارها الإنسان وتمجيد شخصيته واحترام فرديته، وكان من أشهر من حملوا لواءها: "بيترارك"، و"بوكاتشو"، و"بيكو دي لا ميراندولا" تلتها أسماء أخرى ومنها بل أهمها: الهولندي "دسيدريوس إراسموس" وهو أشهر من مَثَّلَ وتَزعم الفكر الإنسي.

        غير أنه يجب العدول عن إطلاق مصطلح "إنسانية عصر النهضة"، ذلك أن "النزعة الإنسانية" بدأت بشائرها في أواخر العصر الوسيط، كما أنها امتدت زمنا طويلا حتى ما بعد عصر النهضة خاصة في مجال الأدب.


    كما يجب العلم أن الحركة إنما جاءت لعامل التأثير والتأثر بين الحضارات ومدلوله التاريخي الهام في تعرف أوروبا على حضارات في الشرق كانت متفوقة عليها وتعلي من شأن الإنسان ومن شأن العقل والعلم، وقد تركت آثارها على كافة المجالات وذلك من خلال الاقتصاد، والفكر السياسي، والمدارس الفنية التي انحازت إلى الفن الإغريقي في الاعتناء برسم ونحت الإنسان في شكله المجرد من الملابس، وهي نظرة فيها من التمرد على الفن السائد في العصور الوسطى الذي حرص على رسم الإنسان متجهما وبصورة منافية للواقع الإنساني.


     وقد نجحت الحركة في دعم عصر التنوير من خلال الاعتناء بالعقل والعقلانية والعلمية ونبذ التفسيرات الخرافية، وتدعيم الطبقات الاجتماعية المقهورة في المناداة بحقوقها، والمطالبة بوضع الدساتير لحكم الدول، والعودة إلى الهوية القومية المتمثلة في الآداب واللغة والفنون، والعودة إلى إحياء التراث، كما دعمت الدراسات الإنسانية حتى أبعدت كثيرا الدراسات اللاهوتية التي كانت سائدة كأساس معرفي في القرون الوسطى.


    إلا أن الحركة لم تمضِ في طريقها يكللها النجاح ويحفها القبول غير المشروط، دون أن تتعرض لكثير من الاتهامات باعتبارها من نتاج عصر التنوير الذي وُجهِتْ له سهام النقد في كونه ساهم مساهمة مباشرة في قيام الثورات السياسية والاضطرابات الاجتماعية في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، بل أن كارل ماركس قد ندد بتلك الحركة لكونها في تصوره ليست إلا "أيديولوجيا برجوازية" تكمن وظيفتها في إخفاء حقيقة الواقع الاجتماعي.


       اهتم الشاعر والكاتب الروسي وأحد أهم أقطاب المدرسة الرمزية "اليكسندر بلوك" بالحركة الإنسانية معتمدا في ذلك على أقوال المؤرخ النموذجي "هونيغر" وهو عالم من علماء القرن التاسع عشر وواحد من باحثيه حاول أن يلتقط السمات العامة لهذا القرن في العقد السادس منه، وهو يرى أن القرن المشار إليه يمثل من وجهة نظر تاريخ الثقافة قرن متصل الاضطراب، ويمثل فترة انتقالية أقل وضوحًا من كل ما سبقها؛ فظواهره تذهلنا بتنوعها، عندما يصيب الدول التمزق المقرون بسعي عام إلى الوحدة، حيث تسود المجتمع فردية حادة معادية لذاتها تأخذ شكل منافسة: الجماهير تتذمر، والكتَّاب ينبئون بانهيار محتم لأوروبا الهرِمة، المنهكة؛ وتطور التجارة والصناعة يدل على هِرم الحضارة، ويصيب الحركة الإنسانية بالضرر لتميزه بمادية فائقة؛ فدخول الآلة واحد من شرور عصرنا الرئيسة بالإضافة إلى الإنقلابات، التي تحدثها الثورات والثورات المضادة.


     عايش "بلوك" الحرب العالمية الأولى غير أنه لم يدرك الثانية حيث مات عام 1921م، وهو الذي تنبأ بقيام الثورة الروسية بعامين قبلها، مثلما تنبأ بمصير الحركة الإنسانية وانهيارها، وذلك لانصراف أقطابها الجدد عن روح الموسيقى؛ لأن كل حركة تولد من روح الموسيقى، وتعمل مشبعة بها، وبمضي بعض الوقت تنحط هذه الحركة وتخمد، لأنها تفتقد الرطوبة الموسيقية التي نبتت فيها، وبهذا تحكم على نفسها بالموت، فتصبح حضارة بعد أن كانت ثقافة، هذا ما حدث للعالم القديم .. لم تنشأ ثقافة المستقبل من جهود متفرقة قامت بها الحضارة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، لبعث الأموات ولإعادة الوحدة إلى الحركة الإنسانية بل من الجهود الموحدة للثورة، من تلك الإيقاعات المرنة، من تلك التموجات الموسيقية.


      يعول "اليكسندر بلوك" على الإنسان الفنان فهو وحده القادر على أن يحفظ الحركة الإنسانية من الانهيار، مثلما يعول على الموسيقى حتى في تعامله مع الثورة التي قامت في بلده ومع المثقفين الروس أيضا حين يخاطبهم: (لم تكن فيكم موسيقى الحب هذه، لقد أهنتم الفنان وليس الفنان وحده، بل أهنتم روح الشعب ذاتها من خلال الفنان).


    لذا فهو يقرر أن الحقيقة الرئيسة التي لا يمكن إنكارها: أن الحركة التي تحدث الآن في العالم، يستحيل قياسها بأي من مقاييس الحركة الإنسانية، وتفسيرها بأي من طرائق الحضارة، لقد قامت الحضارة بجهود يائسة في السنوات الأخيرة كلها للتكيف مع هذه الحركة، وواضح أن ترميم الحركة الإنسانية سيجر وراءه سفكا للدماء أشد هولا من كل ماسبقه ـ وهذه نبؤة منه أيضا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي لم يشهدها.


     اشتهر عالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" باهتمامه بالحداثة الغربية، حيث كان تخصصه في دراسات الحداثة والتحولات التاريخية التي مرت بها، والظواهر المرتبطة بها في العالم المعاصر واضعًا نصب عينيه البحث عن مفهومها ومدلولاتها، فانصب جهده في كشف بنيتها، وتحليل جوهرها، خاصة أن المشروع الحداثي هو نتاج للعقل الأنواري كما يرى الفيلسوف رينيه ديكارت. وضح في ذهن باومان التصاق الحداثة بعصر التنوير وما انبثق عنه العديد من التصورات الفكرية والتحولات الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية، وما أسفر عنه من ظهور الحركة الإنسانية التي جعلت من الإنسان مركزًا للكون ومركز نفسه في ذات الوقت، ويؤكد أن العقل الحديث لم يكن ملحدًا بالضرورة، بل سعى فقط إلى تهميش الإله فيما يتصل بالأمور الدنيوية، وتولى العلم مهمة التحديث، وحقق نجاحات كثيرة، ولكن تلاشت سلطة المقدس وفكرة الأبدية؛ وذلك بسبب تعليق القضايا الكبرى أو تهميشها أو استبعادها من مشروع الحياة.


   لقد استبدل "زيجمونت باومان" مفهومي "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" بمفهومي "الحداثة الصلبة" و"الحداثة السائلة"، وذلك في محاولة منه لتجنّب الفوضى المحيطة بمصطلح "ما بعد الحداثة"؛ حيث أشار مفهوم الحداثــة العــام إلــى عصــر النهضة في أوج مجده الزاخر بالإنجازات الضخمة والصلبة، وهو ما یؤكده باومـان فـي قوله: (الحداثـة الصـلبة هـي تلك التي دشنها عصر التنویر في القرن الثامن عشر تأسیسا على إرهاصات تنامت وتحولات منذ إنتهاء العصور الوسطى وتصلبت فـي عصـر العقلانیـة المعروف).


      لقد أسس مفهوم "الحداثة الصلبة" بإقرار سیادة الإنسان الحداثي التنويري، بل وسیطرته العقلانية المتحررة من إرث التراث الخرافي وغير العقلاني على الطبیعة التي سخرها لتكون خادما مطيعا لأوامره وإملاءاته بما يلبي متطلباته، وهو ما يدور في إطار مفاهيم ومعطيات الحركة الإنسانية.


     يرى باومان أن الركائز الثلاثة: "الذاتية، العقلانية، الحرية" التي قام عليها البنيان الحداثي للإنسان العقلاني الأنواري في ضوء حركته الإنسانية والتي ظن أن تقيم له كيانا صلبا ضد التحول والانتقال قد انحرف عن مساره وخلف وعده له، بل صدمه بواقع تمخض عن وقائع أفقدته حلاوة الانتصار على ما ثار عليه وانقلب وأعلن هيمنته عليه في نشوة الديمومة دون الصيرورة، والثبات بديل عن الانتقال، لذا فهو قد أصبح يكرس لحداثة صلبة طويلة المدى.


     عند هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الحركة الإنسانية رأى "باومان" أن صلابة "مرحلة الحداثة" قد ذابت أو سالت، ولم تعد قائمة بل حل بديلا عنها ما يُعرف بـ "الحداثة السائلة"، وقد بدأ باومان كتابه "الحداثة السائلة" بمقولة بول فاليري: (الانقطاع والتفكك والمفاجأة في السمات العادية لحياتنا، بل صارت حاجات واقعية لكثير من الناس الذين لم يعد يغذي عقولهم أي شئ سوي التغيرات المفاجئة والمثيرات المتجددة علي الدوام .. لم يعد بوسعنا أن نطيق أي شئ يدوم. لم نعد نعلم كيف يمكننا أن نفيد من الملل).


    والتصور القائم عن الحداثة السائلة أن مهمتها تذويب لكل ما هو صلب، ومنه: محاولة التحرر من الدين والعادات والتقاليد وكل ماهو صلب قديم واستبداله بمواد صلبة جديدة ستذاب أيضا، ولذا فقد رفضها باومان حيث رأى أن هذه الحداثة التي كان غايتها الإنسان هي أول من أبادته، كما أنها انتهت إلى جملة من الكوارث البشرية غير الأخلاقية؛ فقد عملت على تحييد الفعل الأخلاقي، وأخرجته من القانون الأخلاقي، بل كرست لتجريد البشرية من الحس الأخلاقي، كما جردت النفس البشرية من المسئولية الأخلاقية ومن تبعات أفعالها.


   لقد احتفت الحركة الإنسانية بركيزة العقل الذي أصبح هو أداة مهيمنة على الأفعال الإنسانية الذي جعلها فارغة من القيم، بل أن العقل ذاته في استجابته للسيولة قد انحرف عن مهمته وأصبح لا يميز بين القبح والحسن، بل فقد قدرته على إدراك الحقائق، وتحالف مع التكنولوجيا الحديثة المتجردة من القيمة، وهو ما يعني في النهاية نهاية الحركة الإنسانية.


    تلك الحركة التي لا تؤيدها الفيلسوفة المعاصرة والمنظرة النسوية "روزي بريدوتي" كما ذكرت هذا في كتابها "ما بعد الإنسان"، حيث ترى أن الشكوك بدأت تحوم حول نموذج الحركة الإنسانية بمركزيتها الأوروبية وميولها الإمبريالية، فنشأت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي معارضة من قبل حركات اجتماعية أنتجت نظريات اجتماعية وسياسية ونظريات معرفية تحدت ابتذال الشعارات الخطابية التي تركز على ديمقراطية الغرب والفردية والليبرالية والحرية التي يدًعون توفيرها للجميع، خاصة وأن تلك الحركات المعارضة قد عاشت الصدمة الناتجة عن التجارب السياسية الفاشلة خلال القرن العشرين، فقامت بمقاومة غطرسة الحركة الإنسانية.


    لقد وقفت رؤية "اليكسندر بلوك" على القنطرة الفاصلة عند نهاية الحداثة الصلبة وبداية الحداثة السائلة مستندًا على أقوال "هونيغر" الذي رصد نهاية تلك الحركة أيضا مبكرا، وقد كتب "بلوك"هذا الفصل المعنون "انهيار الحركة الإنسانية" في كتابه: "دراسات أدبیة وفكریة"، بينما أورد عددا من مقولات "هونيغر" في كتابه: "الأدب والثقافة في القرن التاسع عشر"، وقد عاين "زيجمونت باومان الحداثة بداية من عصر التنوير إلى يوم مماته عبر مؤلفاته: "الشرّ السائل"، "الحياة السائلة"، "الحب السائل"، "الحداثة السائلة"، "الخوف السائل"، "المراقبة السائلة"، واستعرض خلالها انهيار الحركة الإنسانية باعتبارها ثمرة من ثمرات ذلك العصر الذهبي التي ذبلت في العصر الحديث.


الخميس، 10 أغسطس 2023

فلسفة المعاني في قصائد وأغاني جلال مصطفى

  





لا يختلف من له علاقة بالثقافة أو الفكر أو الإبداع في أن "المعنى" أهم غاية مبتغاة وأكبر الأهداف المرتجاة من القراءة في كل العلوم والفنون والفلسفات والآداب، ويحتل مكانة رئيسة في الدراسات المهتمة بفلسفة اللغة واللسانيات وغيرها، ولم يستقر الفصل في تعريفه لغة واصطلاحا. ويرى الدكتور صلاح إسماعيل في كتابه "نظرية المعنى في فلسفة بول جرايس"، إن المعنى اللغوي يقع في صميم الصميم من الفلسفة المعاصرة، حيث شغلت قضية المعنى مؤلفات أئمة الفلسفة في وقتنا الحاضر واستأثرت بها حتى وقعت منها في مكان الصدر والمحراب، وهي القضية التي شغلت حيزا كبيرا بين اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم.


    ومما لا شك فيه أن القصيدة الشعرية يمكن أن تنطوي على فلسفة كامنة، وأن تعبر عن الحقائق الكبرى في الكون والحياة من خلال طبيعتها الشعرية الخاصة، كما يرى الدكتور عبد الغفار مكاوي في كتابه "شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة"، على الرغم من التباعد بين لغة العقل ولغة الوجدان ظاهريًّا، إلا أن هناك انسجامًا وتناغمًا في مضمونهما.


     ولا يقتصر الأمر على القصائد المكتوبة باللغة الفصحى، بل ترتبط الفلسفة بالأغاني مثل ارتباطها بالشعر والرواية والفيلم والكثير من مظاهر الحياة، الفنية وغير الفنية، ذلك أن علاقة الفلسفة بالأغنية بعامة، والأغنية الشعبية بنحو خاص، إنما هي علاقة وطيدة جداً، لأن الأغاني تعبير مباشر وعميق عن الحياة والإنسان، والفلسفة، خلافاً لما هو شائع، لا تنفصل عن هموم الإنسان وحياته، خاصة اليومي منها الذي يعكس تطوراً لحظياً في علاقاته بالبشر والعالم دون أن يدرك ذلك. كما أورد هذا الرأي ماهر عبد المحسن في مقاله عن "الفلسفة والأغنية الشعبية".


     مارس الشاعر جلال مصطفى كتابة شعر العامية المصرية، والأغنية بتنويعاتها، وإن غلبت عليها الشعبية، في منطقة القناة التي تضم محافظات السويس، والإسماعيلية، وبورسعيد، وتغنى بها مشاهير الفنانين على آلة السمسمية المعروفة، وغيرهم من مطربي الأغنية الشعبية في مصر، وإن من يطالع قصائد ديوانه "يا بنت طين الأرض" ويستمع إلى مضامين أغانيه سيكتشف أن مكونه الفكري والثقافي يشكل حجر الزاوية في إنتاجه الإبداعي مما يستحيل أن يغيب عن الناظر أن الرجل قد شكل ليس فقط صورته الشعرية، ومعجمه اللغوي والبلاغي، بل كسا المعاني التي يجلبها في النصوص بسلاسة وتلقائية بخبراته الزمنية والفكرية التي تراكمت داخل وعائه المكنون بين جوانحه، حتى شكلت فلسفته التي استقرت في شطرات أبياته.


      من المؤكد أن الصورة الشعرية من أهم العناصر التي يوليها كل الشعراء اهتمامهم، باعتبارها هي الصورة النهائية المُثلى التي تُظْهِر للمتلقي عما يدور بخاطره، ولا يخرج جلال مصطفى عن سرب الشعراء في الاعتناء الدقيق بصوره، والبراعة في تشكيلها لكونه يعلم أنها خير الوسائل التي تضفي الخصوصية على المعنى الذي يبتغيه، وأنها الأمينة على احتواء الفلسفة التي يضخها في شرايين وأوردة كلمات قصائده وأغنياته ليس فقط لكي تُكسبها القدرة على التأثير في المتلقي، وإنما تشكل ولادة بل انطلاقة وانعتاق للفكرة الكامنة في تلافيف عقله، ونتاج معاناته التي أرهقها الارتحال في مضماره الباطني، وآن له أن يفرح بمرآها ثم بإعلانها على الملأ في سعادة.


     استوعب الشاعر جلال مصطفى الحركة الكامنة في الفعل: "لف، يلف، لفا"، فصاغه في حركته الدائرية التي استوعبتها المعاجم اللغوية، واللغة الفصيحة واللهجات العامية العربية بفهم المراد منه بعقلها وخبرتها في الحياة، فأتى بأغلب صوره ـ إن لم يكن كلها ـ التي تشكل صورته في الحياة والناس، فيقول:


طول ما لسه الدنيا لفه

واحنا جينا يا دوب في لفه

وبعد لما خدنا لفه

أخدنا لفه من القماش

ما بدهاش....


    يقول نجيب محفوظ في أصداء السيرة الذاتية: (قال الشيخ عبد ربه التائه: جاءني قوم وقالوا أنهم قرروا التوقف حتي يعرفوا معني الحياة، فقلت لهم: تحركوا دون إبطاء فالمعني كامن في الحركة")... "اللفة" عند مصطفى زاوجت بين حركة الكون في مساره ومداره الفضائي، وحركة الإنسان في ميلاده وحياته القصيرة، وإن طالت، وموته، كلها في فلسفة الشاعر ليست إلا لفة، هذا هو المعنى المراد من قريب أما فلسفته فتكمن في كلمته "مابِدِّهاش" باللجهة المصرية ومقابلها في الفصحى "لابد" أو "لا مفر" أو قد تكون في معناها النفسي الكامن في صدر اليائس أن الأمور أو الغايات قد تساوت في النهاية، ولابد بعدها أن يتخذ الفرد قراره إما بالمضي أو التوقف.


    اختار الشاعر جلال مصطفى أن يقوم بالعديد من الأدوار بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن البشرية في عمومها، عندما يحاكم الدنيا العنيدة، والأقدار الصلبة الشديدة، والحظوظ المخيبة للآمال التي دوما ما تخطئ في توزيع هباتها ومكافآتها بسخاء على من لا يستحق، وتحرم منها بقوة وقصد من يحتاج ويستحق، وعندما يقوم بدور المُستفهم والمتسائل لوطنه الذي يرفع من لم يضحي من أجله، وعمل لنفسه، في الوقت الذي تدوس قدماه الثقيلة صدور وهامات وعظام وقلوب من ضحوا من أجله، اختار مصطفى أن يقف في صفوف فقراء الأرض، وأصحاب المبادئ والقيم، مع كونه يعلم أنه أبدُا لن يربح القضية، ولن ينتصر للضعفاء، ومع هذا آثر أن يموت معهم كما تموت أحلامهم، ويحيا معهم عند شقشقة أول عصفور يهلل لبصيص الأمل.


   قدره أن يحب مصر، الوطن، التي يناديها: (يا بنت طين الأرض)، وهو يتلاعب بالجملة التي جردها من ألفاظ السب، ليكسوها بكل معاني الحب، ويثبت لها نسبها المدون في تاريخ الأقدمين وتاريخ وجغرافية المكان أنها "بنت الأرض" التي سكنته وسجنته وسقته حبها:


آه ياني أنتي اللي ساكناني

ولا أنا اللي مسكونك

ومين يا أمي سَجَّاني

سَجَاني فوق تراب عشقك

خلاني مسجونك؟!.. [قصيدة: "يا بنت طين الأرض"]


    لقد أصبح جلال مصطفى غرسة في طين الوطن، ولهذا فهو يستصحب لفظة "الطين" في أغنية من روائعه "يوسف الصديق"، التي روى فيها قصة يوسف عليه السلام وقد ضمنها بعض الألفاظ القرآنية بعد أن كسا بعضها باللهجة المصرية/القاهرية المعروفة لكل عربي، ولم يكن المغزى الحقيقي أن يروي القصة الشائعة، بل قصد ـ ربما ـ أن يوسف النبي المؤمن بقدر الله في صباه، حين جلبه ربه لمصر، وصان عرض من آواه، ولم يقع في سرقة اللحظات الحرام، هو الأمين على ثروات مصر وشئونها، وهو المعنى الغالب تحت النسق الإنساني الكامن في تصور الشاعر، ويدل عليه ما صاغه في نهاية موقف يوسف عليه السلام من سيدته التي تعرضت له، وأعرض عنها، فيقول: (نزلت آيات الله .. نِجِي اللي عاصم نفسه).. ثم يُنهي الأغنية بقوله:

سبحانه اللي مغير ...... في حال الناس وشجونها

يوسف صبح وزير ....حارس على مصر وشئونها

حَب فيها الطين ................ والناس الطيبين

وحلف ميت يمين........ يصون ترابها ما يخونها


     إن الشاعر جلال مصطفى مذهبه الحرية، ومن مناصري صرخات التعبير عن الرأي، ومقاوم عنيد للقهر، لا يرحم الساكتين، المستذلين، الخاضعين؛ إذ يراهم شركاء لمغتصب الحياة من بين أيديهم، وسارق النور من مستقبل أيامهم، لذا.. فقد دأب على طرق هذه المعاني في كثير من قصائده دون مواربة، وكل كلمة تنبع من بئره ممهورة بتوقيع فلسفته في الحياة التي لا يقلد فيها من سبقه من أحرار الكلمة في ميدان العامية، بل هي وهج من نوره وناره ممزوجة بأنفاسه:


الصمت ليل مجنون

ساكن بيوت الخوف

الصمت نفسه يكون

عيون ف بحر الشوف

يعفق يقول الغُنا

يا صمت بور عطشان

اشرب وقربع صوت

وارجع لا تبقى شيطان

يقتل كلام الموت

وتبقى تلميذ خايب

في جامعة الممنوع

أول دروسك هُس

وآخرها... كاتم صوت.. [قصيدة: "الصمت"]

واجعل ف بوحك ندي

فصوص كلام

عنقود في كرمة الأيام

هتنام من غير ما تحس

بالأضغاث علي فرشك المكبوت

وان يوم بريت القلم

أمانة سِنْ الناب

وإياك بحرف الكلمة

تتشعلق اللبلاب

دي الكلمة كانت طوق

ليونس في بطن الحوت.. [قصيدة: "عشان تفهم"].


زرعة الظلم ليه؟

ما بتترويش غير من دموع

المقهورين.. المطحونين

جوه دايرة العذاب؟!

وفي النهاية.. مبتلاقيش

اللقمة إلا من طابور الانكسار

والحل إنك تموت

أو تعيش الاحتضار

وانت مِتْلَتِم سكوت

بضهر نايم ع التراب

وشط حلمك

فوق رصيف الانتظار.. [قصيدة: " زرعة الظلم"].


تتوحد قصائد وأغنيات الشاعر جلال مصطفى في حديثه عن ذاتيته بشكل عام، والتي يتحدث فيها نائبا أيضا عن قطاع عريض من البشر على خريطة الجغرافية الإنسانية من الذين عضتهم الدنيا بنابها، ومن الخائفين من اقترابها منهم، ومن الذين حفرت الدموع أخاديد في وجناتهم، وغضبا عميقا سكن أعينهم، وكلمات مريرة سجينة حلوقهم، وتعكس كلمات مصطفى صوره الشعرية الحافلة بألوان المعاني المضمخة بعبق التجارب وخبرات الحياة التي كونت فلسفته التي جاء بها من حياته اليومية عموما، دون أن يجعل منها نظرية بل تطبيقا في كلماته:


أنا عمري يا دنيا

ما قلبي ارتاح لك

وحاطط بيني

وبينك باب

وكل ما ييجي

عشان يفتحلك

يفتح يلقى دموع وعذاب


يسأل مصطفى دنياه متعجبا دهشًا من مواقفها المتحولة والمصطنعة معه حتى ولو ضحكت له:


ليه يا دنيا ليه كده

دايما عليا منكده؟!

وان يوم ضحكتي

في يوم كدا

بتضحكيلي.. كدا.. وكدا


يُكمل جلال مصطفى هذه الحوارية مع الدنيا، التي بدأها من طرف واحد، بصراحته المعهودة في الحياة وفي الإبداع، ويعلن عن مخاوفه منها، وعدم اطمئنانه من اقترابها منه، وهو يعلن قلقه الوجودي النابع من خوفه الدائم والقابع في ذاكرته من علاقات متقاطعة بينه وبينها لم يجنِ منها سوى أن يكون مجنيًا عليه منها، وهدفا منصوبا لسهامها التي لا تخطئه، فيقول:


وعارفه يا دنيا

لما تجيني بالحنيه

أنا بأمانة بقلق منك

ما أنا من كتر ما جيتي عليا

لا أنا باطمن ولا بأمنلك

واتعلمت كتير علي إيدك

أول حاجة كانت هيَّ

اللي يموت

من نار تنهيدك

بيموت ياللا ومن غير دية


من خلال الانتقال بين نصوص الديوان والأغاني تتمركز نفس المعاني القلقة في تعامل الشاعر مع الدنيا والحياة والقدر، حتى أصابته دوما بالقلق وعدم التسليم المطلق لها بأن ما بينهما سينتهي إلى توقيع معاهدة سلام دائم، وهو يعلم يقينا بأن الدنيا لا أمان لها ولا عهد صادق، لذا فهو يعلن تحفظه فيما لو صدقها، وينادي على الناس ليكونوا شهودا بينهما، بل وشهود صدق على تنبؤاته وتوقعاته التي لن تخيب فيها عندما تغدر من جديد وتنكل به:


أنا لما همسح دموعي

وأقول خلاص ارتحت

هرجع يا ناس مرجوعي

وانزل لسابع لتحت

وكأن مكتوب ليا

الجرح يفضل فيا

وما خدشي منك حاجه

يا دنيا غير الفحت


لم يجد الشاعر سوى أن يطلب من دنياه متوسلا الرحمة، والراحة، ووسيلة للتواصل والتفاهم، أو القطيعة بينهما، وإن بيتت نيتها في الغدر به من جديد والإصرار على ضربه، فلتكن رحيمة به فلا تعجل بنهايته، أو من الممكن أن يعلن الجلاء عنها وفي ذلك راحة لهما معا:


وحياة عذاب سنيني

آه يا دنيا تريحيني

لا أنا عايز حلو منك

ولا عايزك تجرحيني

أنا نفسي تفهميني

وتحني وتبقي راضيه

وان كنتي هتضربيني

متكونشي الضربة قاضيه

ولو انتي شايفه إني

آه يا دنيا انا مستاهلشي

هسيبها ليكي وامشي

وارتاح... وتريحيني


لا تنتهي الأسئلة في انتظار الأجوبة، ولا تأتي الأجوبة لتشفي غليل الشاعر الذي يمثل الإنسان، ذلك الألعوبة في يد القدر ومفاجآته التي لا تكاد تنتهي في ناحية حتى تبدأ في ناحية أخرى، لذا عاش قلقا، مترددا، خائفا، متلفتا، متسائلا: أيبدأ من جديد، أم يكتفي، أو يستزيد؟!:


قبل ما ابدأ خطوة تاني

والبداية من جديد

نفسي أعرف ليه زماني

معايا دايما ليه عنيد؟!


ينضم الشاعر جلال مصطفى إلى قافلة الشعراء الذين يتسائلون عبر التاريخ من خلال قصائدهم: عن جدوى الحياة، غير أنه صاغها في لغة هي أبعد عن التعالي من جهة وعن التدني من لغة الشارع من جهة أخرى، لتحمل معانيها في يسر فلسفة الألم الوجودي، دون أن يخرج قلبه يخرج من عباءة الإيمان، أو الكفر بالوجود والحياة، بل هو التساؤل الإنساني المشروع لمن أنهكته الحياة بضرباتها المتتالية، وهو صابر، قانع غير أنه لم يحصد سوى الهشيم، وحار عقله في انتقاء الأجوبة المقنعة المسكتة، والرضا بحياة تنتهي بالموت، فصار يرى الوجود عبث ولا جدوى منه، غير أن هذا الاتجاه في يشكل أحد روافد شعر مصطفى، لأننا نجد على الجانب الآخر بعض الأغنيات التي تدعو إلى ترك الهموم لله، والرضا بالنصيب، وهو ما يعني أن قلقه وألمه الوجودي وسؤاله عنه ليست إلا نفثة مصدور أطلقها في غضبه، لكنها أيضا من فلسفته:


كان إيه لزوم الجيه

والعيشه في الدنيا دي

ومادام دفعنا الديه

نعيشها ليه وندادي

ع الصبر وصبرناه

وعَبينا منه كؤوس

وفي اللقمة غمسناه

ودقنا طعم السوس

وسناننا قالت عادي


تأتي الفلسفة أو الحكمة من الأمثال الشعبية السائرة في كل شعوب الأرض، وقد أحسن الشاعر جلال مصطفى حين حمَّلها معانٍ يقصدها وأسكنها بين ألفاظه دون الإفصاح عنها، وترك للقارئ الحصيف أو العليم استشفاف المثل واستخلاصه، وتبقى له الحنكة في سرده شعرا:


وحياة عذاب سنيني

آه يادنيا تريحيني

لا أنا عايز حلو منك

ولا عايزك تجرحيني


وقد نجح الشاعر في جلب معنى المثل القائل: "يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل"، والتي لعب فيها على الإتيان بألفاظ مغايرة وإن أدت فلسفة المعنى الكامن فيها.


في المقطع التالي أتى الشاعر بالحديث الشريف والأمثال الشعبية، أما الحديث فهو، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنما الْأَعمال بِالنِّيات وإِنما لِكل امْرِئ ما نوى). والمثل الأول: "من يزرع الشوك لا يحصد إلا الشوك"، والمثل الثاني: "من حفر حفرة لأخية وقع فيها"، وقد صاغ الشاعر كل ما أورده بصيغة الدعاء:


يارب تِدي.. كل واحد

علي قد قلبه ونيته

واللي يزرع شوك لواحد

يدوق مرارة زرعته

واللي يحفر لغيره حفرة

لجل يكسر رجله فيها

يمشي يلقى ألف حفرة

وحفرة يقع هو فيها


تبدو قصائد الشاعر جلال مصطفى أجمل وأتم وأكمل في المعاني وفلسفتها، والألفاظ ومناسباتها لكل موضوع، والتماسك النصي، عندما تُقرأ كل واحدة منها مكتملة، دون قطف بعض المقاطع منها، كما تزداد جمالا حين يلقيها الشاعر بصوته المتهدج النازف بالجراح والمعاناة في غير تصنع، مما يعني أن شعره مطبوع، وأنه شاعر يحمل هم الإنسانية مجتمعة، قرن بين الشعر وفلسفة المعاني كشعراء العامية والفصحى الكبار من قبل، وكم كان عازفًا عن أن يتناول أحد شعره بنقد، غير أن أمثاله من الذين أثروا المكتبة العربية بالأغنية والقصيدة كان على الناقد أن يسعى إليه، وأن يحفظ له مكانته في تاريخ الشعر والأغنية المصرية والعربية.


الاثنين، 7 أغسطس 2023

الثورة في شعر خالد الكيلاني..

 



يحتل الشاعر خالد الكيلاني مكانة متميزة على خريطة الشعر في مدينة السويس إحدى المدن المصرية الهامة في التاريخ والسياسة والثقافة، وهو بحق شيخ وعميد شعرائها عمرًا وإبداعًا؛ إذ امتلك ناصيتي الفصحى والعامية وله فيهما دواوين شتى، ولا يقدح في كونه أسيوطي المولد أن لا نعده سويسيًا، فهذه سمة تلك المدينة حين أطلقت لقب "شاعر السويس" على الراحل محمد فضل إسماعيل وهو المولود بمحافظة الشرقية، ذلك أن العرف الذي ساد أن من عاش تحت سماء هذه المدينة جل عمره صار من مواطنيها.

أصدر الشاعر خالد الكيلاني دواوينًا وكتبًا عديدة في مناحي شتى، فأما دواوينه الصادرة بالفصحى، فهي: "حبيبي يا رسول الله"، "أنا والشعر"، "لماذا"، ومسرحية شعرية "سامية"، وديوان يجمع الفصحى والعامية "ولاد الشمس". ودواوينه التي كتبها بالعامية، فهي: "مسحراتي"، "الناس الغم". ومن حيث الكتب، فهي: "واعلموا أن فيكم رسول الله"، "كثير من التيسير في تفسير ابن كثير"، "رأيت الكون"، "خواطر كيلانية"، "على مصطبتنا".

من خلال مطالعتي للدواوين الثلاثة التي أهداني إياها الشاعر الكبير عن طريق صديقنا المشترك الشاعر والعروضي الكبير فوزي محمود، وجدت أن شعر الكيلاني في أغلبه تسيطر عليه روح السياسة، والوطنية، والثورة على المستعمر القديم/الجديد، والثورة على الحكام، وأيضًا الثورة على بعض تصرفات المحكومين، ومن ثم الدعوة إلى الثورة، والتنبوء بها، يستوي في هذا ما خطه بالفصحى، أو كتبه بالعامية، ولو أن القاريء استعرض القصائد على اختلاف أوقات كتابتها أو اختلاف مواضعها في الديوانين "مسحراتي"، "الناس الغم" لظن أنها نسيج واحد لقصيدة طويلة مكونة من مقاطع، كما سيلاحظ أن سخونة شاعرنا الكيلاني وحميته لم تهدأ جذوتها منذ أطلقها عند وقوع العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، مرورًا بقصائده عند وقوع العدوان الأمريكي على العراق عام 1991، وفي مختلف الحوادث التي تلت.

تتميز قصائد الكيلاني أنها ــ وخاصة العامية ــ تحوي داخلها موضوعات وقضايا عدة ليس من السهل فصلها عن بعضها لكونها متداخلة ومجدولة، حقيقية، غير تلفيقية أو مصطنعة، ينبض كل حرف فيها بصدق نبرة الشاعر في استعراضها والوقوف عندها كالنائحة الثكلى، ليس هذا فحسب بل يتناول القضايا السياسية والاقتصادية والداخلية والخارجية وتأثيراتها على الداخل من أرض ومواطن، مثلما يهتم بلقمة العيش عند العامل والفلاح، كما يهتم بالقضايا القومية التي تخص الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، وبالقضايا الوطنية التي تخص الكنانة وحدها، ولكنه لا ينسى القضايا المحلية التي تهم المواطن السياسي الذي يسكن معه في ذلك البلد الحبيب "السويس" كما يسميه، المحفور اسمه في التاريخ القديم والمعاصر.

أما أهم ما يميز قصائده هي تلك الروح المصرية التي صب فيها ليس اللهجات فحسب، ولكن حالة السخرية وخفة الدم عندما يتناول الفساد والرشاوي والمحسوبية والانتخابات وغيرها، ومن ثم سنضع أيدينا على طزاجة تلك القصائد التي كتبها في سنوات سابقة في أزمنة حكام رحلوا أو أحياء خلعهم الشعب وغيرهم حتى تاريخه، وكأنه رفع القلم لتوه عنها في دليلٍ دامغ فاضح على أن كل هذه الظواهر السلبية المتجذرة في مجتمعاتنا أقوى من أن يقضي عليها نظام أو تقتلعها عدة ثورات ناهيك عن ثورتين قامتا وطواهما التاريخ.

ولو تركت العنان لنقل الشواهد لما وسعتها تلك المقالة، ولكن يكفينا نقل بعضها للدلالة، ولو بدأت بتناول أبياته الناقمة على الغرب وسيدة العالم أمريكا التي خصها وحدها بقصيدة "العم سام"، غير الأبيات المنثورة والمبثوثة في ثنايا قصائد أخرى تدور حول معاني الهيمنة الغربية، والغطرسة الأمريكية، وهوان حكام العرب في انبطاحهم وطاعتهم لها في خذلان وخنوع مهين، والدعوة إلى الثورة عليهم بعد أن يستعرض ما فعلوه في بلاد العرب وما يفعلونه بمصر عبر شرذمة من الأفاقين المحسوبين على الوطن، فيخاطب المصري وهو يحرضه على الثورة:

انزع جدور الخوف من صدرك وأوعى تعيش عويل

دا اللي يوطي في الزمان دا يتركب ويعيش ذليل

واللي يطاطي أو يخاف يستعبدوه الأمريكان

وازعق بعلو الصوت ................. وقول

ملعون أبوك يا عم سام .... ملعون أبوك يا عم سام

كما يخاطبه في "خالطابيطا":

وانت يا مصري حرام لما تطاطي ولعدوك تنحني وتطلب معاطي

شد حيلك واتنصب أوعى تواطي مهما يعلا الموج لابد هاييجي شاطي

يوجه الكيلاني بوق غضبه إلى المواطن العربي الذي استلذ الذلة والهزيمة ورضي بفرض سياسة الواقع المفروض على الأرض وهو الغزو الأمريكي، ويسمي هذا المواطن "أبوح" في قصيدة تحمل ذات الاسم، وينهيها بدعوة إلى الثورة، فيستصرخه قائلًا:

شد اللجام واهجم هات سيفك البتار

اقطع رقاب الظلم والخاين الغدار

تقل قوي قلبك بايديك ناخد التار

يرى الشاعر خالد الكيلاني أن الخطب أفدح وأعم وأشمل من العرب والمسلمين؛ فخطره جاثم على شعوب بلاد العالم الثالث وغيرهم من سكان الكرة الأرضية، فيرفع عقيرته فيهم بكلام حاد اللهجة، ونعوت قاسية للغالب والمغلوب على السواء، فيقول في قصيدته "مؤتمر السكان والتنمية":

يا أيها العالم الثالث يا كل الناس أنتم عددكم يساوي أربعة أخماس

لكن أهل الشمال الغاصبين الانجاس بيقولوا عن جنسكم دا أحقر الأجناس

والأمريكان مع أوروبا صنعوا الهراس عاوز يدوسوكم لحد ما تقطعوا الأنفاس

أو يدبحكم في مجازرهم كما الأتياس أو كل غربي ها يعمل كل شرقي مداس

أو ترفعوا فوق رؤوسكم راية الإفلاس يا ناس هبوا وخلوا عندكم إحساس

حرام عليكم تعيشوا منكسين الراس

ولو استعرضنا القضايا العربية في تماسها مع الأنظمة الغربية والسيادة الأمريكية لوجدنا أن ديوان "لماذا" يحوي عددًا غير قليل من القصائد التي يتناول فيها الشاعر خالد الكيلاني توصيف الواقع كالمؤرخ، وتشخيص الداء ووصف الدواء الناجع كالطبيب الماهر لأمته التي يثور من أجلها تارات ويثور عليها تارات مستحثًا ومستنهضًا، غير أنه لا يجد سوى الأمل في أطفال الحجارة الذين بادأوا وبادروا بالفعل فكان مكانه خلف صفوفهم يحمسهم وينفخ في نار العزيمة لتتأجج أكثر في ضلوعهم كي لا يملوا أو يكلوا، فيقول في قصيدته "ثوار الحجارة":

وارموهم بحجارات مسوَّمة من عند ربي سجينا وسجيلا

خلوا الحجارة تهوي فوقهم شررا كالقصر يجعلهم عصفًا ومأكولا

لا تتركوا الرجس ينمو فوق أرضكم وحرقوا نبتهم بذرا ومشتولا

كما ينبه المواطن العربي بعامة والفلسطيني بالذات ألَّا يهادن اليهود فهم و"الأمريكان" وجهان لعملة واحدة، فينصحهم في قصيدته "رسالة من تحت المحيط" باللجوء إلى خيار الحرب دون السلام، لأنه لا سلام ولا أمان ولا موادعة مع اليهود، فيقول:

عمر سلاحك وخليه هوا يتكلم

خللي كلامك رصاص في الجمجمة يعلم

واهدم ديارهم وخللي شمسها تضلم

في عدة صرخات ثورية تشبه البيانات والنداءات، يخاطب الكيلاني على المستوى المصري ابن بلده عبر عدة قصائد التي ضمها ديوانه "مسحراتي" ذلك الذي يتمثل الشاعر فيه نفسه، ذلك المسحراتي/الثوري الذي جاء ليوقظ الغافلين، ويلكز بمهمازه تلك الأجساد الثقيلة التي استطابت للمذلة والقعود وإن نخرها السوس، فيقول مستنهضًا ذاته أمامهم بأن الدعوة إلى تلك الثورة ضرورة وحتمية، وسيبدأ بنفسه ولو مات شهيدًا دون ذلك، فيقول في قصيدته "الحوار":

لازم أقيدها نار ع الخاين الغدار

واعلنها صحوة شعب يرفض يعيش في العار

يرفض يعيش دلدول لمرابي أو سمسار

وان مت هابقى شهيد يحشر مع الأبرار

ولن يثنيه شيء سوى إعلان الثورة فهذا ديدنه كمصري، ليستحث في نفس الوقت نخوة كل مصري وتذكيره بأصوله العريقة التاريخية، وهذا سر تكراره وتنبيهه على المصرية وتشديده عليها كميراث ودم ونسب وحامض نووي يسري في العروق من الجد الثائر الغابر وحتى الحفيد الثائر المعاصر، فيقول في قصيدته "زمّلوني":

ها علن الثورة الكبيرة ع الحرامي ابن الحرام

مهما كانت أسلحتهم ها نتصر عند الصدام

أصلي مصري وابن مصري ومصر أبدًا لن تضام

وأخيرًا يخاطب الشاعر خالد الكيلاني الشعب، أي شعب في قصيدة رمزية حكائية لا تضعه تحت طائلة القانون بدعوى التظاهر والتجمهر والتحريض على الثورة، أو إهانة من يخاطب، يقول في قصيدته "البُكمْ" التي تحمل في طيات العنوان نعتًا مهينًا:

يا شعب يا اللي البردعة نحرت ضفاير ضهركم

يا اللي خشونة الأحزمة سلخت عصايب بطنكم

يا اللي الهموم من تقلها كسرت تراقي صدركم

يا عيانين بالقهر مش لاقيين دوا

يا مضروبين بالذل والقلب انكوى

ياللي الكبار خدوا منكم كل الهوا

فوقوا بقى من فضلكم وكفاية نوم على بطنكم

يختم الشاعر خالد الكيلاني ديوانه "الناس الغم" الصادر في 2015 بقصيدته النبوءة "جار السوء" والتي تعد منه بشارة من بشارات النذارة بأفول عهد الرئيس المخلوع مبارك، تلك التي كتبها في مارس 2009 ونذر لله نذرًا لو سحلوا ذلك المخلوع، ويقصد الثوار ومن ثم ستكون هناك ثورة، وحملت في النهاية اسم المخلوع بكلمة "مبروك" كما انتهت ببشارة أن الحياة بعد حكمه ستكون لذيذة:

ندر على لو سحلوك لاسقي الشارع كله قزوزة

واجري واغني واقول مبروك تو السحل ما بقى له عوزة

اجري واغني واقول مبروك بكرة حياتنا ها تبقى لذيذة

السبت، 5 أغسطس 2023

نصف وجه "سوزان هيل": بين النص والعرض






يقف القارئ خلف النص المكتوب، وهو وحده المتفاعل مع رؤية فردية من الكاتب فيما صاغه من إبداع، ويقف المتفرج أمام العرض، وهنا يبدأ التعدد في التلقي؛ فالنص صار محملا برؤية المخرج ومجموعة من المبدعين الذين ساعدوه في إخراجه بحسب خطته وبتوقيعه وحده، ومن هنا تحديدا تبدأ أهمية وجود المخرج الذي يقف وراء العرض المسرحي دون أن يلغي بالطبع وجود النص، وإن كان الإخراج في ذاته إبداعًا موازيا، وهو ما يعول عليه الفنان الراحل سعد أردش من كون المخرج المبدع يُعمِلُ قدراته الإبداعية بقصد التوصل إلى عرض يتميز بالجدة والابتكار.


كما يعمل على تفسير العمل باعتباره المنطلق الأساسي للإبداع المسرحي الذي يكشف في النهاية عن كثير من عناصر المفارقة بين النص المقروء والعرض، وهو ما تعلمه ويؤمن به ويطبقه المخرج الأكاديمي الشاب أيمن مرجان منذ أن أخرج مسرحيته "قبل الإفطار" للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، ومسرحية "المنعطف الأخير" للكاتب المصري السيد إبراهيم، ومسرحيته الأخيرة التي نحن بصددها "نصف وجه" للكاتبة البريطانية سوزان هيل، والتي لم يسبق تقديمها في عرض مسرحي عربي ـ كما أعتقد ـ وإن كان قد تم تقديمها إذاعيا بالبرنامج الثاني المصري من إخراج أحمد سليم بعنوان "وجه مشوه"، وهو عنوان قد ضل طريقه.


وهو ما يُحسَب لصالح أيمن مرجان الذي يعي أهمية العنوان وأنه يمثل مكونا نصيا يبرز جوهر النص المعروض؛ لأنه الجزء الدال منه، بل يجعل المتلقي مؤهــلا للكشف عن طبيعة النص ومحاولة فك غموضه وهو ما يتأكد في صلاحية عنوان "نصف وجه" لعمل يحمل فكرا فلسفيا، اجتماعيا، نفسيا إنسانيا بل يعري تلك الإنسانية في تعاملها القبيح مع "الرجل الكسيح" الذي انفجرت فيه قنبلة أثناء دفاعه عن وطنه، ويعيره الأطفال والبعض بعاهته، ومع صبي أصابه حامض شوه بعض وجهه، فصار هدفا منصوبا للتنمر من الكبار والصغار.


قد يظن البعض أن مسرحية "نصف وجه" لم تعرفها المسارح العربية لكون كاتبتها مغمورة، وهو ما يخالف الواقع تماما؛ فالكاتبة "سوزان هيل" روائية بريطانية معروفة بغزارة مؤلفاتها، ومنها: "المرأة ذات الملابس السوداء" و"الضباب في المرآة" و"أنا ملك القلعة"، وحصلت عن تلك الرواية الأخيرة على جائزة سومرست موم، مما جعل السينما تختار بعض أعمالها التي حققت نجاحا كبيرا، وتم مسرحة بعض أعمالها أيضا وما يزال يتم عرضها منذ عقود، وذلك لما تتسم به إبداعاتها من عمق، وإنسانية، ونظرة نقدية للحضارة التي تعيش فيها، وهو ما يحسب لاختيار مرجان لها.


نجح مرجان في اختيار الديكور الأكثر إبهاجا بألوانه المتنوعة الزاهية، ليشكل معادلا نفسيا للمتفرج ينتزعه من كآبة العرض الذي يقدم شخصيتين كل منهما يشكو من عاهة، فجاء استغلال الفضاء المسرحي ببراعة استوعبت مشاهد المسرحية، وأضفت الأضواء بحركتها فوق الأشجار ديناميكية في الخلفية، مثلما انتقلت من التركيز الضوئي الانتقالي حول المتحدث، عاونها في ذلك اختيار الموسيقى المناسبة التي جاءت متناغمة مع الحوار الذي يشكل سجالا من الإقناع، والرفض، والثورة على المجتمع والذات، والتسامح معه، وقبول ذواتنا بل وقبول الآخرين.


على الرغم من قلة الإرشادات المسرحية من سوزان هيل، وهو قد يكون عند البعض أمر محمود أن لا يكون الكاتب مخرجا، إلا أنه أتاح للمخرج مساحة جيدة في التعامل مع النص وسياقه من خلال لغته، وحبكته، وقضيته التي يتبناها، كما أتاح له نفس الفرصة الذهبية في التعامل مع الشخصية الساكنة "السيد لام" والشخصية المتحركة "الصبي ديري" فكان لام مركز الدائرة وديري أقطارها التي تتحرك بعفوية وشقاوة الصبيان التي أضفت على العرض بهجة، وطردت عن المتفرجين الملل، والواقع يشهد أن اختيار الممثلين كان رائعا وأشعل حالة من الحماسة لهما عبر الصوت الحكيم العميق للسيد لام، والصوت الغاضب المعبر عن مرحلة المراهقة المعذبة بعاهتها للصبي ديري، ساهم في ذلك اختيار الأزياء المناسبة لشخصيات العرض.


جاءت إضافة أغنية للمسرحية، لم تكن موجودة في النص، بمثابة التدخل الرائع، واكبه اختيار موسيقى عالمية وهي أغنية "تيتينا" لحن شارلي شابلن من فيلم "الأزمنة الحديثة"، نجح الشاعر أحمد الشريف في وضع الكلمات المناسبة للحن وللمسرحية في ضربة مزدوجة، فصنعت استعراضا أو ما يشبه الاستعراض الذي أضفى على العرض حيوية وفكاهة افتقدها النص المقروء.


لقد جاء النص عميقا، مكتوبا بحرفية واقتدار، ويمتلك من العناصر الأدبية، والأخلاقية، والفلسفية، والنفسية، وكوامن خفية من الجمال الذي بين السطور، ومتكامل من حيث البناء النصي، والبناء الدرامي، والحوار فيه مصاغ بتقنية عالية من الفهم والوعي والإحساس بالكلمة المنضبطة دون سواها، كما أحس كل من قرأ النص ثم شاهد العرض بتغييرات أصابت بعض الجمل أو الكلمات التي أضفت نوعا من الحيوية على الحوار، مثلما أحس بتناغم فريق العمل وانسجامه واتفاقه وتوافقه على كافة التفاصيل التي تشكله، وهو الإحساس الذي سرى في أجواء المسرح سواء على الخشبة أو بين المتفرجين الذين تجاوبوا مع العرض وتقنياته، وحواراته.


من هنا يحق لي القول أن "نصف وجه" يشكل إضافة مسرحية هامة في مسيرة المسرح المصري خاصة والعربي عامة، ذلك أن المخرج أيمن مرجان قد سار على الطريق الصعب دون الدروب المأهولة في اختيار نصوص لم يسبق أن قدمها غيره، وهو ما يشكل تحديا لموهبته وأيضا التأكيد على إثبات ذاته، وجدارته بارتياد هذا الفن. وهو ما يعطينا أمل جديد وثقة في أجيال المسرح العربي القادمة التي ستحمل على عاتقها النهوض بهذا الفن الراقي والمحافظة على بقائه شامخا.