الاثنين، 25 فبراير 2013

الثبات .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة

الثبات .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة



الخميس، 21 فبراير 2013

’’ الثبات’’ .. معجزته صلى الله عليه وسلم بقلم السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي

’’ الثبات’’ .. معجزته صلى الله عليه وسلم بقلم السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي



على كثرة ما كتب المفكرون عن المناحي الإعجازية فى شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبقى سيرته نهرًامغداقُا، يغترف منه يراع صاحب كل فكر ليخرج منه برؤيةٍ جديدة، وزاوية يرى منها ملمحًا إعجازيًا بشريًا ونبويًا يلفت الأنظار، ويدهش العقول.

ومع كثيرٌ ممن تناولوا معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرحمة والأخلاق وغيرهما، يقف الثبات شاهدًا آخرعلى هذا الإعجاز، حين يرصده خالد محمد خالد فيقول (1) : (ومع الصدق، تجيء معجزة أخرى من المعجزات الأصيلة، والخليقة بالتقدير، متمثلة فى هذا القدرالباهر من الثبات والمثابرة.. ثبات الرسول وثبات أصحابه العُزل والمستضعفين .. كان ثبات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان إصراره ومُثابرته .. ثم من بعد ذلك كله أو معه ، كانت تضحياته المتألقة ، والمتفوقة ، تصنع وتصوغ وتكتب تاريخاً جديداً لشرف الإنسان .. وشرف الإيمان .. و لقد يبلغ رجل ما من الرجال أعلى وأسمى آفاق الثبات والتضحية والمُثابرة نتيجة احتوائه على قدرات عقلية و نفسية هائلة .. أما أن ينتقل نفس القدر من التضحية والثبات والمثابرة إلى الآخرين الذين لايمتلكون مثل قُدرات نفسه وعقله وروحه.. والذين لايدفعهم من دوافع الدنيا و طموحاتها أى دافع ، والذين يرسلون خواطرهم نحو المجهول ، فلا يجدون على جانبيه إلا أخطاراً محدقة .. وشدائد مبرحة.. ومحناً تزحم الطريق الطويل، أقول : أمَّا أن يحدث ، فالأمر إذن أمر إعجاز فريد، بقدرما هو مجيد..أقول : أمَّا يتصدر صفوف المبكرين بالإسلام ثُلةٌ من صفوة قريش وحكمائها .. معرضين شرفهم الرفيع و جاههم العريض ، وزعامتهم ، و مكانتهم لإسفاف المشركين و سفالاتهم ، وكيدهم الأحمق ، وأذاهم المسعور .. دون أن يكون هناك مغانم ينتظرونها ، وأمانىَُّ يترقبون مجيئها ، واثقين ـ لاغير ـ بكلمة واحدة واعدة همس بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى آذانهم : الجنَّة .. !! .. فهذا إعجاز آخر.. ولن يكون الأخير ..!!"

وهذا الثبات هو مايعول عليه أبو عبد الرحمن سلطان عليّ (2) فيثبت أن إعجازالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في كماله الأخلاقي الذى بلغ ذروته في توازنه الأخلاقي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيقول : (بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذروة الكمال الإنساني في سائر أخلاقه وخصاله وفي جميع جوانب حياته، وهو وجهٌ آخر من وجوه إعجازه الأخلاقي أما أهم مايميز كماله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهو التوازن في أخلاقه.. فهو رحيم دون ضعف، متواضع بغير ذلة، محاربٌ لا يغدر، سياسيٌّ لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب ولكن لا ينقض العهود والمواثيق، آمن خصومه بصدقه وأمانته، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والحرب).

والمقصود أن صفات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصائصه تعمل ضمن منظومة متناسقة متناغمة، تتشابك جميعها لتأدية أغراضها، فلا تتوسع صفة أو تقوى على حساب أخرى، ولا تعمل إحداها ضد الصفة التي تقابلها. ووجه العظمة يتجلى من خلال الموازنة مع الناجحين في الحياة كالمشاهير والأبطال والحكماء والمصلحين على سائر الأزمان واختلاف المكان، حيث يقتصر نجاحهم ونبوغهم على مجالاتٍ وميادين معينة، فهذا في السياسة، وذاك في الأدب، والآخر في الرياضة مثلاً، ولكنهم يفشلون في غيرها، وقد تكون أكثر أهمية منها، وقد تجد الرئيس الناجح في إدارة شؤون دولته المترامية الأطراف غير إنه فاشل في إدارة بيته مثلاً.

ومظهرٌ آخر للتوازن هو ثبات أخلاقه، فرسول الله محمد هونفسه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رضاه وغضبه، وفي سلمه وحربه، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وفي بيته وسوقه ومسجده، مع أزواجه وأولاده، ومع أصحابه، وفي جميع أحواله وشؤونه. وهذا الثبات قليلٌ في الناس أو نادر، فترى الشخص في رضاه فإذا ما غضب صار شخصًا آخر كأنه ليس هو، وترى الشخص ضحَّاكًا بسَّامًا بين زملائه فإذا دخل بيته عبس وبسر، وتتعرف على الرجل في الحضر فتراه في وجه، ويجمعك به السفر فيسفرُ لك عن وجه آخر، وترى زعيمًا ما يفيض في السلم رقة وحنانا فإذا ما اشتعلت الحرب تحول إلى وحشٍ فاتك! وترى السخي الجواد في الرخاء فإذا أصابته شدة ضنَّ بماله، وأمسك عن الإنفاق، أما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان سخيًا نديًا في سائر أحواله، وكان رحيمًا في سائر أحواله، وعلى ذلك فقسْ بقية الشمائل المحمدية، وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ غنية بالأمثلة والشواهد التي تدلُّ على توازنه الخلقى.

أن الثبات الأخلاقى للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزة لأنه فرعُ من الثبات العام فى شخص الرسول النبي القائد والذي به استطاع أن يؤثر في كل من تبع الرسالة الخاتمة وأخلص في السير على نهجها. و تتبدى أهمية الثبات من خلال تلك النقاط (3):

‌أ- الثبات دلالة سلامة المنهج وداعية إلى الثقة .
‌ب- الثبات مرآة لشخصية المرء ومطمئن لمن حوله .
‌ج- الثبات ضريبة الطريق إلى المجد والرفعة في الدنيا والآخرة .
‌د- الثبات طريقٌ لتحقيق الأهداف .

فمن ثبات القائد تتعلم الرعية الثبات وقد ظهر ذلك جليًا فى حياة النواة الأولى من المسلمين بمكة حين تَحَالَفَتْ قُرَيْش ٍوَكِنَانَةَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

ورغم كل هذه الضغوط فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يربي المسلمين في الحصار على ضرورة الثبات ويقودهم لدعوة الوافدين في مواسم الحج مؤكدًا تربيته لأصحابه على ضرورة استمرار الدعوة مهما ضاقت الظروف، وقلَّت الموارد (4).

نعم .. لقد كان الحصار وسيلة الضغط على المسلمين بقيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى المتعاطفين معهم كانت مؤلمة إلا أن الثبات والصبر على المبدأ وقوة إيمان المسلمين ثبتهم أمام هذه المقاطعة العامة(5). .
ويشهد على ثباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفضه لما عرضه عليه رؤساء قريش، ذات يوم عند ظهر الكعبة، وهم عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبو سفيان بن حرب ورجلٌ من بني عبد الدار، وأبو البختري أخو بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد و زمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابني الحجاج السهميين فقالوا : "يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وأنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علي قومه مثل ما أدخلت علي قومك، لقد شتمـت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمرقبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نُسَوّدُك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًاملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك – وكانوا يسمون التابع من الجن رئيًا – فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ’’مَا بِي مَا تَقُولُونَ مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُب أَمْوَالكُمْ وَلَا الشَّرَف فِيكُمْ وَلَا الْمُلْك عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّه بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُون لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَات رَبِّي وَنَصَحْت لَكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لِأَمْرِ اللَّه حَتَّى يَحْكُم اللَّه بَيْنِي وَبَيْنكُمْ ’’ أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقد سبقت تلك المحاولة الفاشلة محاولات أخرى من سلسلة الإغراءات والعذابات التي لقيها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا غيرمحاولة أبى جهل قتله وهو ساجد يصلي، ولم يَفُتَ في عضده.

يقول أبو الحسن الندوي (6) معلقًا على عروض أهل الشرك السخية : "…أما قالوا له علي لسان عتبة وهم ما عرفوا الإغراء السياسي: إن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت".

نعم.. هم لم يعرفوا الإغراء السياسي، ولكن عرفوا ضعف النفس البشرية ومطامعها فحدثوه باللغة التي يجيدون التعامل بها كتجار في بلد حرفته المساومات والمزايدات التجارية، حدثوه عن أمرين يعرفون تمامًا من خـــلال معرفتهم بإنسان الحضارات السابقة المجاورة لهم وإنسان البلدان التي يسافرون إليها صيفًا وشتاء أنه يُقاتــل ويُقْتل من أجلهما ألا وهما : المال والسيادة، تتحارب حـولهما الدنيا فكانت الثورات، والإنقلابات والاغتيالات، والدسائس، والفتن، والمؤامرات، من قديم الأزل وحتى الآن، إلا عند المال والسيادة أي السلطة هو الإنسان كما هو لم يتغير، منذ العصر البدائي حتى عصر التكنولوجيا، وثورة المعلومات وحـرب النجوم ، وأسلحة الدمار الشامل.

المال والمنصب أي الغني والسلطة "السيادة" سلاحان لهما بريق السحر يخطفان العقول والعيون ويحركان لعاب المطامع في الحلوق ويُنسيان طالبهما أجَلَّ المبادئ والقيم حتى أنه ليؤثر السلامة عائدًا إلى بيته ليلتحف بالخـز والدمقس وكافة الأزياء اليمانية والشامية شأنه في هذا شأن أصحاب الزوابع السياسية التي تموت في مهدها بعد التفاوض على المكاسب الشخصية، أي بعد أن استأنس أصحاب الثروات أصحاب الثورات.

قد كان المتصور من باب الحكمة والسياسة الشرعية أن يقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم الزعامة والملك، ثم يتخذها وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، ولكن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرض مثل هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مباديء الدعوة نفسها ومبادئه أيضًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

يقول المستشرق الإيطالى ميخائيل إيمارى (7) : "وحسب محمد ثناءً عليه أنه لم يساوم، ولم يقبل المساومة لحظة ً واحدة فى موضوع رسالته على كثرة فنون المساومة واشتداد المحن ..عقيدة ً راسخة، وثبات لايُقاس بنظير، وهمةٍ تركت العرب مدينين لمحمد بن عبدالله .. إذ تركهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر".

لقد عاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ المحاولات القرشية كلها وبنوعيها سواء الأذى والاضطهاد والإتهام والغمز بالقول والتمادي لمحاولة إيذاءه بدنيًا، أدناها قومتهم عليه قومة رجل واحد وأعلاها التخطيط لقتله أكثـر من مـرة وهو الأب والزوج ولديه بناته يخاف عليهنَّ أن مسه أذي فلمن سيتركهنًّ؟.. والدعوة في مهدهـا، وأمامه محاولات إغراءه بالمال والسيادة وتأمين أسرته ماديًا ومعنويًا في سبيل دعوة يعلم أنه سيعاني أشد العناء لتعلو كلمة الله في مكة وما حولها.

جن جنون قريش بعد أن صدمها ثباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم تلن عزيمته، ولم تضعف قوته، ولم يستسلم!

يقول توفيق الحكيم (8): "فوسيلة النبي الأولىَ وخطوته التى نزل بها الميدان هى إقناع ذلك الخصم الصاخب من الخلق أنه مجرد عن الغايات الدنيوية، وهنا كانت قوته .. فإن أمضىَ سلاح فى يد رجل يريد أن يقارع البشر، هو أن يواجه البشر بيدٍ خاليةٍ من مطامع البشر".

وهذا سر قوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسر إعجازه كذلك، أن يشعر قاريء سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أمام قوة وجبروت قريش كان دائمًا هو الأقوى، بل من سر إعجازه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى هذا الموقف هو مايرصده غير المسلم فيلفته إلى حقيقة وعظمة هذا الرسول فيكون سببًا فى هدايته وعودته إلى الحق فيقول الدكتور م. ج. دُرّاني(9) عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجبًا ومشدوهًا : "لم يتزحزح شعرة عن موقفه، وكان صامدًا، رابط الجأش، صلبًا في أهدافه وموقفه. عرض عليه قومه أن ينصبوه ملكًا عليهم وأن يضعوا عند قدميه كل ثروات البلاد إذا كف عن الدعوة إلى دينه ونشر رسالته. فرفض هذه الإغراءات كلها اختار بدلاً من ذلك أن يعاني من أجل دعوته. لماذا؟ لماذا لم يكترث أبدًا للثروات والجاه والملك والمجد والراحة والدعة والرخاء؟ لا بد أن يفكر المرء في ذلك بعمق شديد إذا أراد أن يصل إلى جواب عليه".
وتشهد "حُنَيْنٍ" ثباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سبق إلى موقع النزال مالك بن عوف وكمن بجيشه لجيش المسلمين في الشعاب والمداخل، لينقضوا عليهم في مفاجأة روعت جحافل المسلمين الذين أقفلوا راجعين، وكادت هذه المعركة تشهد نهاية الإسلام والمسلمين، لولا أن ثبتَ لها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين انحاز جهة اليمين وهو يقول‏:‏ ’’هَلُمُّوا إليَّ أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد اللّه‏’’ ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار، ثم بدأ يركض بغلته مقبلاً على الكفار وهو يصيح قائلاً‏:‏ ’’‏أنــا النبي لا كَذِبْ .. أنا ابن عبد المطلب’’ .. لتدور الدائرة على من ظن أن النصر حليفهم، وأن البحر نهاية هزيمة المسلمين، وما كان‏ ذلك كذلك إلا بفضل ثباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، ووقوفه أمام جيش الكفاروحده.
ولعل من هذا الثبات يتعلم المسلم سر دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ’’اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ’’(10).. والذي كان يقوله في صلاته(11)، وأوصى به أصحابه ومنهم شداد الذي خاطبه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ’’يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ، إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدِ اكْتَنَزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ’’.
هذا هو نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى جمع زبدة الفضائل الإنسانية، واستجمع جميع مؤهلات قيادة البشـرية، الآية في صفاته النادرة، النموذج الكامل للفضيلة والخير، رمز الصدق والإخلاص.

ولن يسعَ من يدرس حياته ورسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهل الفكر من شتى الأجناس، وعلى اختلاف المشارب ـ دون تحيّزـ إلا أن يشهد أنه حقًا رسول من عند الله، وأن القرآن الذي جاء به للناس هو كتاب الله حقًا. بل أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم شخصية، عرفتها البشـرية؛ فحياته وأفكاره وصدقه واستقامته، وتقواه وجوده، وعقيدته ومنجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقف براهين فريدة على أنه بحق معجزةٌ : فى نبوته، فى أبوته، فى قيادته، فى رحمته، فى عزمه، في ثباته ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) خالد محمد خالد، الإسلام ينادى البشر إلى هذا الرسول ص 144.

(2) أبو عبد الرحمن سلطان على ، رياض النعيم في ظل الرحمن الرحيم ص 27.

(3) الدكتور محمد حسن موسى ، الثبات ص 25-27
(4) الدكتور راجح الكردى ، شعاع من السيرة ص 146.
(5) الدكتور محمد أبو فارس ، السيرةالنبوية دراسة تحليلية ص 166.
(6) أبى الحسن الندوى ، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص111.
(7) ميخائيل اماري Amari . ولد في بالرمو بايطاليا عام 1806 م ، وتوفي في فلورنسا عام 1899 م. مستشرق ايطالي تعلم اللغات الشرقية ومن ضمنها العربية في باريس وتخصص بالعربية وآدابها وتاريخها: ( تاريخ المسلمين في صقلية ) .
(8) توفيق الحكيم ، تحت شمس الفكر ص 34.

(9)الدكتور م. ج. دُرّاني Dr. M. H. Durrani سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانيًا في فترة مبكرة من حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية، وقضى ردحًا من حياته في كنيسة إنكلترا، حيث عمل قسيسًا منذ عام 1939 وحتى عام 1963 حيث جاءه الإسلام "كما يأتي فصل الربيع"، فعاد إلى دين آبائه وأجداده.

(10) أخرجه أحمد، والترمذي، كتاب الدعوات، والنسائي، كتاب السهو، ومصنف ابن أبي شيبة، والطبراني في المعجم الكبير بلفظه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وحسنه شعيب الأرنؤوط في صحيح ابن حبان، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد السابع، برقم 3228، وفي صحيح موارد الظمآن، برقم 2416، 2418، وقال: (صحيح لغيره).
(11) أخرجه النسائي، برقم 1304، والطبراني في المعجم الكبير، 7/ 294، برقم 7178، ورقم 7179، ورقم 7180، وابن حبان في صحيحه، 5/ 310، وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان : (صحيح لغيره).

الأربعاء، 13 فبراير 2013

سيظل رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أساءوا - السيد إبراهيم أحمد ~ مدونة الكتب الاسلامية المجانية

سيظل رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أساءوا - السيد إبراهيم أحمد ~ مدونة الكتب الاسلامية المجانية




                                        إهـــــداء


  إلى الذين عرفوا رســــول الله صلى الله عليــه وسلم
فوقروه وأحبوه .................

   إلى الذين جهلوه صلى الله عليه وسلم ، فهاجمـــوه
وسبوه ...........................

   وإلى من أدّعوا محبته ، وخالفوا سنته ، وانتصروا
لأعدائه ولم ينصروه ..........
   
    إليهم جميعاً وإليكم ، أهدى هذه الصفحات ، ليجد فيها من عَلِمَ الاستزادة ، ومن لم يعلمْ الاستفادة ...

المؤلف

المقدمة

   إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنـا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
  وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمــداً عبـده ورسوله ،أما بعـد :

       دأب الغرب على أن لا يتركنا وشأننا وديننا الحنيف ، ونبينا الكامل المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فلا نكاد نخرج من غمار إساءة حتى يدخلوننا فى غيرها ، رغم ما ظهر لهم من ردود الأفعال العنيفة من عامة المسلمين ، ومخاطبة العلماء لهم بالحسنى ، وإظهار جهلهم بشخصية من يسبونه صلى الله عليه وسلم .

    ولم يكلوا فى مسعاهم الدائب والخبيث ـ خيب الله مسعاهم ـ  فنوعوا فيه تارة بالرسم ، بعد أن أجهدوا أقلامهم بالكتابة ، وأخيراً وليس أخراً بفيلم مسىء لهم قبل اساءته لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ، تواطأت فيه حثالات من اليهود وبعض أقباط المهجر ، تدنوا فيه غاية الدناءة ، فبشعوا ، وضللوا ، وشوهوا .. فجاءت بعض الردود عنيفة إلى حد القتل ، ومازالت موجات الغضب تتوالى ، ولا يعلم مداها إلا الله ، لعلها تكون رادعاً لهم أن يكفوا .

     وهذه الصفحات التاليات تستعرض تاريخ الإساءات الغربية لنبينا خاصة وبعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والتسليم وخاصة السيد المسيح الذى يؤمنون به معبوداً لهم ولم يسلم من سفاهاتهم وسفالاتهم ، لنثبت فى النهاية أن حرية التعبير التى طالما تغنوا بأنها لا تعرف التمييز ، ولا التفريق فالكل سواء فى عدم قداسته أمامها ، إن هىِّ إلا سفسطة وخدعة كبيرة ، إذ أنها موجهة فقط لمن يريدون الإساءة له ،كما أثبتنا إنها حرية جبانة لا تستطيع مجاوزة الحد أمام من يقدسونه بسم الدين تارة ، وبسم القانون تارة أخرى ، وأن المستهدف أمامهم بشكل واسع هو الإسلام دين التوحيد الحق ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

    لكن الله عز وجل قد كفى نبيه صلى الله عليه وسلم أولئك الطغمة من المستهزئين فى كل عصر ومكان ، وهم وبضاعتهم الرخيصة الدالة عليهم ذاهبون .. وسيضل رسولنا ’’ رسول الله ’’ صلى الله عليه وسلم ، مهما تمادوا وأساءوا .
                
  .. ولنبدأ معاً المسير فكلنا مطالبون باليقظة والوقوف صفاً واحداً ضد هذه الهجمات الخائبة والتى ستنقلب عليهم وبالاً بإذن الله .

 وأرجو أن يتقبل الله هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ليجعله فى ميزان حسناتى وحسنات من قرأه فعمل على نشره بلسانه أو بقلمه أوبترجمته أو بطبعه ، وكذلك أقدمه بين يدىًّ شفيعنا وقائدنا ورسولنا وسيدنا وسيد الأولين والآخرين بأمر رب العالمين محمدٍ صلى الله عليه وسلم لعلى أَشْرُفْ بلقائه فى الفردوس الأعلى نحن ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين أجمعين ... آمين .                                                  
                              
                                                         السيد إبراهيم أحمد                  
                                       











" صدقه " .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة نبوية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة

" صدقه " .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة نبوية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة



من جملة أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الكثيرة والكبيرة، يحتل "الصدق" ركنًا ركينًا فيها، استرعى انتباه زمرة من العلماء والمفكرين، وليس في هذا ما يدعو للاستغراب؛ فقد احتلت صفة الصدق في الدين الإسلامي مكانة كبيرة؛ فغير أنها مذكورة في القرآن الكريم بألفاظها "الصادقين - صدقوا - صدق"، إلا أن السنة المطهرة لم تغفل ذكرها في أحاديث كثيرة.

مرد هذا أن الصدق كصفة إذا تحلى بها إنسان تجاورت إلى جانبها صفات كثيرة محمودة، يؤكد هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أربعٍ من كن فيه ربح: الصدق، والحياء، وحُسن الخُلق، والشكر"، وما قاله لقمان الحكيم حين سأله أحدهم: ما بلغ بك ما ترى؟، فأجابه: "صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني".

ولهذا لم يكن غريبًا أن يتحلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصدق والأمانة، ولكن الأغرب في نظر بعضهم أن يتحلى ويُنادى بهما في الجاهلية، وهذا ليس غريبًا على المجتمع المكي؛ فهو مجتمع تجاري اقتصادي يقدر للصدق والأمانة مكانتهما، لما تمثلانه من موقعٍ هام في تعاملاتهم اليومية و الموسمية حال سفرهم في رحلتي الصيف والشتاء.

ذلك أن الصدق صفة شاملة يتصف بها رب العباد والعباد، ومحلها الباطن والظاهر؛ فالصادق يخلص لله في تعبده له، كما يصدق مع الناس في وعوده وعهوده وبيعه وشراؤه وسائر تعاملاته معهم، وهذا ما يبدو للناس من ظاهره، أما في باطنه فهو صادق تمام الصدق مع نفسه حين يقيمها على شرع الله لا تحيد عنه.

والمشركون على كثرة ما ادَّعوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم: ساحر، شاعر، مجنون. لم يتهموه بالكذب، يشهد بهذا ما قاله الترمذي عن علي أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به"، فأنزل الله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [1]

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون"، وكان أبو جهل يقول: "ما نكذبك؛ لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به". وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا"، فقال له: "والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة فماذا يكون لسائر قريش [2]؟"

ويؤكد النضر بن الحارث - أعدى أعداء قريش للإسلام - صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمانته حين قام خطيبًا في سادة قريش قائلًا لهم: "يا معشر قريشٍ، إنه والله قد نَزَلَ بكم أمرٌ ما أَتَيْتُم له بحيلة بَعْدُ، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً".

بل أن أنيس الغفاري مارس قبل إعلان إسلامه إجراء اختبار دلل به على صدق ذلك الرجل الذي خرج من مكة نبيًا، وورد ذلك في قصة إسلام أبي ذر الغفاري حين قال ابن عباس عنه: "كنت رجلًا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي: انطلق إلي هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره فانطلق أنيس حتي أتي مكة فراث علي[تأخر] ثم جاء فقلت: ما عندك؟ فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بخير وينهي عن الشر، وفي رواية لقد رأيت رجلا بمكة علي دينك يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله علي أقراء الشعر[قوافيه] فلم يلتئم علي لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون".

كما أنه ليس مستغربًا أن يشهد لصدق وبصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلةٌ من أتباعه من علماء المسلمين المبرزين رغم اختلاف عصورهم وجنسياتهم وألوانهم وألسنتهم، فإن الزمن بطبعه متغير لكن سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - تبارز الدنيا بثباتها في تقديم شمائل ودلائل نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا شهد بصدقه المعجز المتأخرين أمثال أبو الحسن الندوي ومحمد أحمد المسير، فقد شهد من المتقدمين أيضًا بذات الإعجاز كالإمامين الغزالي وابن حزم.

حين رأى الدكتور محمد سيد أحمد المسير[3] "إن الصدق - يقصد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام - هو المعجزة الأولى التي دفعت الناس إلى الإيمان بالرسالة لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -".

كان ابن حزم يرى أن السيرة العطرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقف وحدها دليلًا على صدق دعوته وثبوت نبوته، بما لا يحتاج معه لمعجزة، فيقول[4]: "فإن سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - لِمَن تدبرَهَا تقتضي تصديقَه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حقا فلو لم تكن له معجزة ٌ سوى سيرته - صلى الله عليه وسلم - لكفى".

نعم.. فقد كانت شمائله وأحواله - صلى الله عليه وسلم - شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القُح كان يراه فيقول: "والله ما هذا وجه كذاب، فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله"، كما قال الغزالي[5].

يُجمل أبو الحسن الندوي ما جاءت به روايات السيرة النبوية الصحيحة من شمائل محمد قبل البعثة: "وشبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - محفوظًا من الله تعالى، بعيدًا عن أقذار الجاهلية وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلُقًا، وأشدهم حياءً، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتى ما أسموه في قومه إلا الأمين، يعصمه الله تعالى من أن يتورط فيما لا يليق بشأنه من عادات الجاهلية، وما لا يرون به بأسًا ولا يرفعون له رأسًا. وكان واصلًا للرحم، حاملًا لما يُثقِلُ كواهل الناس، مُكرمًا للضيوف، عونًا على البرِّ والتقوى، وكان يأكل من نتيجة عمله، ويقنع بالقوت"[6].

والصدق والأمانة احتلتا في الدراسات الاستشراقية مكانةً واعتبار حين اطلع المستشرقون على سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوها معيارًا للقياس والتتبع في أموره كلها سواء بين أتباعه في السلم وآناء الحرب، وفي بيته، ومع نفسه، وبين المسلمين وبين أهله، وبين المهاجرين أهل موطنه ومرباه الأول، وبين الأنصار أهل مهجره وموطن إقامته، فلم يجدوا فيها عوجًا ولا انحيازًا منه في أدق الأمور وأعظمها، فسطروها معجزة ناصعة وهم الذين لا تخرج منهم الإشادة إلا بالكاد، ويعرفون ما يحمله مصطلح "المعجزة" من دلالات، فتتالت أقوالهم راصدة شاهدة صادقة مصدقة بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

بدأ المستشرقون بدراسة أحوال البيئة التي نشأ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كافة الأصعدة سواء السياسية والأخلاقية والتجارية والاقتصادية والثقافية، وقاسوا أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إلى أخلاق بني جلدته وبلدته، وكان نتاج هذا أن قال دون بايرون[7]: "لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينته أرق من معاصريه، وأنه يفوقهم جميعًا ذكاء وعبقرية، وأن الله اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازًا بين قومه بأخلاق حميدة، من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم".

وهو ما يأتي اتفاقًا مع جرسان دتاسي[8] حين قال: "أن محمدًا ولد في حضن الوثنية، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة، انزعاجًا عظيمًا من الرذيلة وحبًّا حادًا للفضيلة، وإخلاصًا ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين".

وفي نفس السياق يقول كليمان هوار[9]: "اتفقت الأخبار على أن محمدًا كان في الدرجة العليا من شرف النفس، وكان يلقب بالأمين، أي بالرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المثل الأعلى في الاستقامة".

وكذلك يقول هربرت وايل[10]: "بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد فأزال كل الأوهام، وحرم عبادة الأوهام، وكان يلقبه الناس بالأمين، لما كان عليه من الصدق والأمانة".

ويختتم السير ويليام موير[11] ركب من شهد بالأمانة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "إن محمدًا نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه، وحسن سلوكه. ومهما يكن هناك من أمر فإن محمدًا أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله. وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيد، وذلك التاريخ الذي ترك محمدًا في طليعة الرسل ومفكري العالم".

أما حين تفرغوا لصفة الصدق في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - أتت شهاداتهم منثالة ترصد بشيء من الانبهار مواقع هذه الصفة والقيمة خلال مجريات حياته كلها، فقد شهد بلاشير[12] بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كون أسلوبه الخاص في أحاديثه النبوية مفارقًا تمام المفارقة لأسلوب القرآن الكريم، حيث يقول: "الإعجاز هو المعجزة المصدقة لدعوة محمد الذي لم يرتفع في أحاديثه الدنيوية إلى مستوى الجلال القرآني".

وانطلاقًا من البيت النبوي مرورًا بالمقربين منه - صلى الله عليه وسلم - يرصد هربرت جورج ويلز[13]: "إن من أرفع الأدلة على صدق "محمد" كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به فقد كانوا مطَّلعين على أسراره ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به". ويقول في موضع آخر "أما الإنسان الذي أشعل ذلك القبس العربي، فهو محمد. اشتهر في شبابه بالأمانة والاستقامة".

ويؤكد المستشرق الفرنسي الكونت هنري دي كاستري[14] أن صدق الرسول نابع من صحة رسالته وعمق اقتناعه بها، يقول: "ولسنا نحتاج في إثبات صدق (محمد) إلى أكثر من إثبات أنه كان مقتنعًا بصحة رسالته وحقيقة نبوته. أما الغرض من تلك الرسالة بالأصل، فهو إقامة إله واحد مقام عبادة الأوثان التي كانت عليها قبيلته مدة ظهوره".

ويهمني أن أنقل قول إدوارد مونتيه[15] في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم[16] لأنه إنما صدر عن قول عالم متخصص، إذ يقول: "كان محمد نبيًا صادقًا، كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه".

لم يثبت مفكرو الغرب الصدق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحسب، بل نفوا عنه كل الصفات السلبية - وأولها الكذب - التي استشرت في الذهنية الغربية على مستوى الفرد العادي، والمستوى الأكاديمي أيضًا منذ دأبت الكنيسة ممثلة في أساقفتها وبابواتها ببث أكاذيبها متعمدةً تشويه صورته - صلى الله عليه وسلم - وكان من أوائل من نفوا توماس كارليل[17]، وجاء نفيه هذا ليشكل خطًا فاصلًا في الدراسات الاستشراقية المنصفة لمعظم من خلفه، إذ يقول:
"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى من يظن أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مئتي مليون من الناس[18] ".. وليس هذا فحسب بل يعلن محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لصدقه الذي ينافي الرياء أو التصنع، فيقول: "وإني لأحب محمدا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع[19] ".

وينهج هذا النهج من يخلفه من بني جلدته روم لاندو[20]، فيقول: "إنّ الإخلاص الّذي تكَّشف عنه محمّد - صلى الله عليه وسلم - في أداء رسالته، وما كان لأتباعه من إيمان كامل في ما أُنزل عليه من وحي، واختبار الأجيال والقرون، كلّ أولئك يجعل من غير المعقول اتّهام محمّد - صلى الله عليه وسلم - بأيّ ضرب من الخداع المتعمد. ولم يعرف التاريخ قط أي تلفيق (ديني) متعمّد، استطاع أن يعمّر طويلًا. والإسلام لم يعمّر حتّى الآن ما ينوف على ألف وثلاث-مائة سنة وحسب، بل إنّه لا يزال يكتسب في كلّ عام أتباعًا جددًا. وصفحات التاريخ لا تقدم إلينا مثلًا واحدًا على محتال كان لرسالته الفضل في خلق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم وحضارة من أكث-ر الحضارات نبلًا[21] ".

وكان بالإمكان إيراد أقوال جوستاف مينشينج أستاذ الأديان في جامعة بون، وريورند باسورث سمث في محاضرته عن "محمد والمحمدية" عام 1874 في الجمعية الملكية البريطانية، و فولتير، و باسورث سمث، والكاتب السويسري مسيمر في كتابه "العرب في عهد محمد"، والمستشرق البلجيكي د. دوسين في بحثه "الحياة والشرائع"، والشاعر الفرنسي الكبير لامارتين في كتابه "السفر إلى الشرق"، وكلها تتفق مع ما ذهب إليه كارليل، وما ذهب إليه المستشرق رودلف دوتوراك[22] الذي أختم بقوله الذي يؤكد صدق النبوة، ونزول الوحي على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السماء، بالشريعة الإسلامية، نافيًا قول من يدعي خلاف ذلك من الحيلة والخديعة والتزوير، إذ يقول:
"ومما لا ريب فيه، أن محمدًا نبي العرب كان يتحدث إلى الناس عن وحى من السماء، لأنه أتى إلى العالم بدعوة من ورائها المعجزات والآيات، وهي أعظم شاهد على مدعاه، ولا يجوز لنا أن نفند أراءه، بعد أن كانت آيات الصدق بادية عليها، فهو نبيٌ حق، وأولى به أن يتبع، ولا يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بالسوء، لأنها مجموعة كمالات إلى الناس عامة[23] ".

فهذا الشاهد المنصف - الأخير وما سبقه من شواهد - ينطق لغة الغرب وبمنطقه، وقد جاء من رحم فكره وثقافته وتدينه، فهو جزء من المنظومة الغربية ونسيجها، مما لا يقدر عاقل على رد شهادته، أو التشكيك في صدقها ومصداقيتها، فهي وليدة البحث الحر غير الموجّه، لأنها لم تكن تخاطب العرب أو المسلمين أو تخطب ودهم، فقد صدرت عن رعايا دول كانت تشكل امبراطوريات تستعمر ثلاثة أرباع العالم الإسلامي، فهي ليست سوى قناعات مقصود بها أبناء الغرب، كما أنها نابعة من رصيد معرفي، وعلمي، وثقافي، وفكري ثري، من نتاج الحضارة الغربية الحديثة[24].


[1] (من الآية32:الأنعام).
[2] الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، القاهرة، د. ت، ج2، ص15.
[3] الدكتور محمد أحمد المسير، النبوة المحمدية ص23.
[4] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1ص342.
[5] أبو حامد الغزالي، أحياء علوم الدين ج- 3 ص- 484.
[6] أبو الحسن الندوي: كتاب (السيرة النبوية) ص170 ط1. دار ابن كثير، القاهرة.
[7] الباحث الأرجنتيني دون بايرون (1839 - 1900): اتح لنفسك فرصة، تعريب عبد المنعم محمد الزيادي.
[8] المستشرق جرسان دتاسي: نقلا عن كتاب (هذا هو الإسلام)، ص 87.
[9] المستشرق الفرنسي كليمان هوار(1854 -1927): تاريخ العرب،ج1، كان أستاذ في اللغات الشرقية وشغل منصب رئيس مجمع البحوث والآداب في باريس.
[10] المستشرق الأيرلندي هربرت وايل: كتاب المعلم الاكبر، ص 17.
[11] المؤرخ والمستشرق الإنكليزي السير ويليام موير: حياة محمد، ص 20.
[12] بلاشير، ترجمة للقرآن الكريم للفرنسية ص 105.
[13] هربرت جورج ويلز(1866- 1946) كاتب ومؤرخ وعالم اجتماع بريطاني ذائع الصيت: كتاب "معالم تاريخ الإنسانية".
[14] المستشرق الفرنسي الكونت هنرى دى كاستري (1853-1915): الاسلام، ص 152.
[15] إدوارد مونتيه Edward Montet(1856-1927م) مستشرق سويسري و أستاذ اللغات الشرقية والعميد الشرفي بجامعة جنيف: مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن. حصل على الدكتوراه في اللاهوت من جامعة باريس عام 1883م، عيّن أستاذًا للعبرية والأرامية والعهد القديم في جامعة جنيف، ثم أضيف إليه العربية وتاريخ الإسلام، رأس جامعة جنيف (1910 - 1912).
[16] ظهرت ترجمة إدوارد مونتيه للقرآن الكريم بطبعتها الفرنسية في سنة 1925م، و امتازت بالضبط والدقة، أثنى عنها الأستاذ محمد فؤاد عبد بقوله: (إنها أدق الترجمات التي ظهرت حتى الآن وقد نقل عنها إلى العربية مقدمة هذه الترجمة، وهي في تاريخ القرآن وتاريخ سيدنا رسول الله، وقد نشرت في المنار، فاقتنيت هذه الترجمة فوجدتها قد أوفت على الغاية في الدقة والعناية وقد ذيلها المترجم بفهرس لمواد القرآن المفصل أتم تفصيل).
[17] الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس كارليل (1795م-1881م)، من أشهر مؤلفاته (الأبطال وعبادة البطولة) الذي يتضمن أعظم الشخصيات تأثيرًا في العالم من خلال المجالات المتعددة التي أصبحوا أبطالها بلا منازع. وفيه أفرد فصلا لنبي الإسلام بعنوان "البطل في صورة رسول: محمد-الإسلام"، عد فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) واحدا من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ.
[18] توماس كارليل؛ "الأبطال"، ترجمة محمد السباعي، كتاب الهلال عدد 326، ص 53، 1978.
[19] نفسه، ص 64.
[20] روم لاندو R. Landau.نحّات وناقد فني إنكليزي، زار زعماء الدين في الشرق الأدنى (1937)، وحاضر في عدد من جامعات الولايات المتحدة (1952-1957)، أستاذ الدراسات الإسلامية وشمالي أفريقيا في المجمع الأمريكي للدراسات الآسيوية في سان فرنسيسكو (1953).
من آثاره: (الله ومغامراتي) (1935)، (بحث عن الغد) (1938)، (سلم الرسل) (1939)، (دعوة إلى المغرب) (1950)، (سلطان المغرب) (1951)، (فرنسا والعرب) (19539، (الفن العربي) (1955).. وغيرها.
[21] روم لا ندو - Rome Landau(كتاب الإسلام والعربIslam and The Arabs) ص 34.
[22] رودلف دوتوراك (1852-1920) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة براغ، الذي ترجم حياة أبي فراس الحمداني ودرس شعره.
[23] رودولف دوتوراك في مقدمة ترجمته حياة ابي فراس.
[24] دكتورعبدالراضي محمد عبدالمحسن الرسول الأعظم في مرآة الغرب، المقدمة، الهيئة العالمية للتعريف بالرسول ونصرته، الرياض 2011.


رابط الموضوع: http://cp.alukah.net/Sharia/0/50460/#ixzz2Kn8soUiq

" صدقه " .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة نبوية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة

" صدقه " .. معجزته صلى الله عليه وسلم - سيرة نبوية - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة



من جملة أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الكثيرة والكبيرة، يحتل "الصدق" ركنًا ركينًا فيها، استرعى انتباه زمرة من العلماء والمفكرين، وليس في هذا ما يدعو للاستغراب؛ فقد احتلت صفة الصدق في الدين الإسلامي مكانة كبيرة؛ فغير أنها مذكورة في القرآن الكريم بألفاظها "الصادقين - صدقوا - صدق"، إلا أن السنة المطهرة لم تغفل ذكرها في أحاديث كثيرة.

مرد هذا أن الصدق كصفة إذا تحلى بها إنسان تجاورت إلى جانبها صفات كثيرة محمودة، يؤكد هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أربعٍ من كن فيه ربح: الصدق، والحياء، وحُسن الخُلق، والشكر"، وما قاله لقمان الحكيم حين سأله أحدهم: ما بلغ بك ما ترى؟، فأجابه: "صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني".

ولهذا لم يكن غريبًا أن يتحلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصدق والأمانة، ولكن الأغرب في نظر بعضهم أن يتحلى ويُنادى بهما في الجاهلية، وهذا ليس غريبًا على المجتمع المكي؛ فهو مجتمع تجاري اقتصادي يقدر للصدق والأمانة مكانتهما، لما تمثلانه من موقعٍ هام في تعاملاتهم اليومية و الموسمية حال سفرهم في رحلتي الصيف والشتاء.

ذلك أن الصدق صفة شاملة يتصف بها رب العباد والعباد، ومحلها الباطن والظاهر؛ فالصادق يخلص لله في تعبده له، كما يصدق مع الناس في وعوده وعهوده وبيعه وشراؤه وسائر تعاملاته معهم، وهذا ما يبدو للناس من ظاهره، أما في باطنه فهو صادق تمام الصدق مع نفسه حين يقيمها على شرع الله لا تحيد عنه.

والمشركون على كثرة ما ادَّعوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم: ساحر، شاعر، مجنون. لم يتهموه بالكذب، يشهد بهذا ما قاله الترمذي عن علي أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به"، فأنزل الله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [1]

يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون"، وكان أبو جهل يقول: "ما نكذبك؛ لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به". وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا"، فقال له: "والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة فماذا يكون لسائر قريش [2]؟"

ويؤكد النضر بن الحارث - أعدى أعداء قريش للإسلام - صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمانته حين قام خطيبًا في سادة قريش قائلًا لهم: "يا معشر قريشٍ، إنه والله قد نَزَلَ بكم أمرٌ ما أَتَيْتُم له بحيلة بَعْدُ، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً".

بل أن أنيس الغفاري مارس قبل إعلان إسلامه إجراء اختبار دلل به على صدق ذلك الرجل الذي خرج من مكة نبيًا، وورد ذلك في قصة إسلام أبي ذر الغفاري حين قال ابن عباس عنه: "كنت رجلًا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي: انطلق إلي هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره فانطلق أنيس حتي أتي مكة فراث علي[تأخر] ثم جاء فقلت: ما عندك؟ فقال والله لقد رأيت رجلا يأمر بخير وينهي عن الشر، وفي رواية لقد رأيت رجلا بمكة علي دينك يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله علي أقراء الشعر[قوافيه] فلم يلتئم علي لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون".

كما أنه ليس مستغربًا أن يشهد لصدق وبصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلةٌ من أتباعه من علماء المسلمين المبرزين رغم اختلاف عصورهم وجنسياتهم وألوانهم وألسنتهم، فإن الزمن بطبعه متغير لكن سيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - تبارز الدنيا بثباتها في تقديم شمائل ودلائل نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا شهد بصدقه المعجز المتأخرين أمثال أبو الحسن الندوي ومحمد أحمد المسير، فقد شهد من المتقدمين أيضًا بذات الإعجاز كالإمامين الغزالي وابن حزم.

حين رأى الدكتور محمد سيد أحمد المسير[3] "إن الصدق - يقصد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام - هو المعجزة الأولى التي دفعت الناس إلى الإيمان بالرسالة لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -".

كان ابن حزم يرى أن السيرة العطرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تقف وحدها دليلًا على صدق دعوته وثبوت نبوته، بما لا يحتاج معه لمعجزة، فيقول[4]: "فإن سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - لِمَن تدبرَهَا تقتضي تصديقَه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حقا فلو لم تكن له معجزة ٌ سوى سيرته - صلى الله عليه وسلم - لكفى".

نعم.. فقد كانت شمائله وأحواله - صلى الله عليه وسلم - شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القُح كان يراه فيقول: "والله ما هذا وجه كذاب، فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله"، كما قال الغزالي[5].

يُجمل أبو الحسن الندوي ما جاءت به روايات السيرة النبوية الصحيحة من شمائل محمد قبل البعثة: "وشبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - محفوظًا من الله تعالى، بعيدًا عن أقذار الجاهلية وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلُقًا، وأشدهم حياءً، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتى ما أسموه في قومه إلا الأمين، يعصمه الله تعالى من أن يتورط فيما لا يليق بشأنه من عادات الجاهلية، وما لا يرون به بأسًا ولا يرفعون له رأسًا. وكان واصلًا للرحم، حاملًا لما يُثقِلُ كواهل الناس، مُكرمًا للضيوف، عونًا على البرِّ والتقوى، وكان يأكل من نتيجة عمله، ويقنع بالقوت"[6].

والصدق والأمانة احتلتا في الدراسات الاستشراقية مكانةً واعتبار حين اطلع المستشرقون على سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوها معيارًا للقياس والتتبع في أموره كلها سواء بين أتباعه في السلم وآناء الحرب، وفي بيته، ومع نفسه، وبين المسلمين وبين أهله، وبين المهاجرين أهل موطنه ومرباه الأول، وبين الأنصار أهل مهجره وموطن إقامته، فلم يجدوا فيها عوجًا ولا انحيازًا منه في أدق الأمور وأعظمها، فسطروها معجزة ناصعة وهم الذين لا تخرج منهم الإشادة إلا بالكاد، ويعرفون ما يحمله مصطلح "المعجزة" من دلالات، فتتالت أقوالهم راصدة شاهدة صادقة مصدقة بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

بدأ المستشرقون بدراسة أحوال البيئة التي نشأ فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كافة الأصعدة سواء السياسية والأخلاقية والتجارية والاقتصادية والثقافية، وقاسوا أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إلى أخلاق بني جلدته وبلدته، وكان نتاج هذا أن قال دون بايرون[7]: "لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينته أرق من معاصريه، وأنه يفوقهم جميعًا ذكاء وعبقرية، وأن الله اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازًا بين قومه بأخلاق حميدة، من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم".

وهو ما يأتي اتفاقًا مع جرسان دتاسي[8] حين قال: "أن محمدًا ولد في حضن الوثنية، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة، انزعاجًا عظيمًا من الرذيلة وحبًّا حادًا للفضيلة، وإخلاصًا ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين".

وفي نفس السياق يقول كليمان هوار[9]: "اتفقت الأخبار على أن محمدًا كان في الدرجة العليا من شرف النفس، وكان يلقب بالأمين، أي بالرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المثل الأعلى في الاستقامة".

وكذلك يقول هربرت وايل[10]: "بعد ستمئة سنة من ظهور المسيح ظهر محمد فأزال كل الأوهام، وحرم عبادة الأوهام، وكان يلقبه الناس بالأمين، لما كان عليه من الصدق والأمانة".

ويختتم السير ويليام موير[11] ركب من شهد بالأمانة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "إن محمدًا نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه، وحسن سلوكه. ومهما يكن هناك من أمر فإن محمدًا أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله. وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيد، وذلك التاريخ الذي ترك محمدًا في طليعة الرسل ومفكري العالم".

أما حين تفرغوا لصفة الصدق في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - أتت شهاداتهم منثالة ترصد بشيء من الانبهار مواقع هذه الصفة والقيمة خلال مجريات حياته كلها، فقد شهد بلاشير[12] بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كون أسلوبه الخاص في أحاديثه النبوية مفارقًا تمام المفارقة لأسلوب القرآن الكريم، حيث يقول: "الإعجاز هو المعجزة المصدقة لدعوة محمد الذي لم يرتفع في أحاديثه الدنيوية إلى مستوى الجلال القرآني".

وانطلاقًا من البيت النبوي مرورًا بالمقربين منه - صلى الله عليه وسلم - يرصد هربرت جورج ويلز[13]: "إن من أرفع الأدلة على صدق "محمد" كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به فقد كانوا مطَّلعين على أسراره ولو شكوا في صدقه لما آمنوا به". ويقول في موضع آخر "أما الإنسان الذي أشعل ذلك القبس العربي، فهو محمد. اشتهر في شبابه بالأمانة والاستقامة".

ويؤكد المستشرق الفرنسي الكونت هنري دي كاستري[14] أن صدق الرسول نابع من صحة رسالته وعمق اقتناعه بها، يقول: "ولسنا نحتاج في إثبات صدق (محمد) إلى أكثر من إثبات أنه كان مقتنعًا بصحة رسالته وحقيقة نبوته. أما الغرض من تلك الرسالة بالأصل، فهو إقامة إله واحد مقام عبادة الأوثان التي كانت عليها قبيلته مدة ظهوره".

ويهمني أن أنقل قول إدوارد مونتيه[15] في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم[16] لأنه إنما صدر عن قول عالم متخصص، إذ يقول: "كان محمد نبيًا صادقًا، كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه".

لم يثبت مفكرو الغرب الصدق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحسب، بل نفوا عنه كل الصفات السلبية - وأولها الكذب - التي استشرت في الذهنية الغربية على مستوى الفرد العادي، والمستوى الأكاديمي أيضًا منذ دأبت الكنيسة ممثلة في أساقفتها وبابواتها ببث أكاذيبها متعمدةً تشويه صورته - صلى الله عليه وسلم - وكان من أوائل من نفوا توماس كارليل[17]، وجاء نفيه هذا ليشكل خطًا فاصلًا في الدراسات الاستشراقية المنصفة لمعظم من خلفه، إذ يقول:
"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى من يظن أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مئتي مليون من الناس[18] ".. وليس هذا فحسب بل يعلن محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - لصدقه الذي ينافي الرياء أو التصنع، فيقول: "وإني لأحب محمدا لبراءة طبعه من الرياء والتصنع[19] ".

وينهج هذا النهج من يخلفه من بني جلدته روم لاندو[20]، فيقول: "إنّ الإخلاص الّذي تكَّشف عنه محمّد - صلى الله عليه وسلم - في أداء رسالته، وما كان لأتباعه من إيمان كامل في ما أُنزل عليه من وحي، واختبار الأجيال والقرون، كلّ أولئك يجعل من غير المعقول اتّهام محمّد - صلى الله عليه وسلم - بأيّ ضرب من الخداع المتعمد. ولم يعرف التاريخ قط أي تلفيق (ديني) متعمّد، استطاع أن يعمّر طويلًا. والإسلام لم يعمّر حتّى الآن ما ينوف على ألف وثلاث-مائة سنة وحسب، بل إنّه لا يزال يكتسب في كلّ عام أتباعًا جددًا. وصفحات التاريخ لا تقدم إلينا مثلًا واحدًا على محتال كان لرسالته الفضل في خلق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم وحضارة من أكث-ر الحضارات نبلًا[21] ".

وكان بالإمكان إيراد أقوال جوستاف مينشينج أستاذ الأديان في جامعة بون، وريورند باسورث سمث في محاضرته عن "محمد والمحمدية" عام 1874 في الجمعية الملكية البريطانية، و فولتير، و باسورث سمث، والكاتب السويسري مسيمر في كتابه "العرب في عهد محمد"، والمستشرق البلجيكي د. دوسين في بحثه "الحياة والشرائع"، والشاعر الفرنسي الكبير لامارتين في كتابه "السفر إلى الشرق"، وكلها تتفق مع ما ذهب إليه كارليل، وما ذهب إليه المستشرق رودلف دوتوراك[22] الذي أختم بقوله الذي يؤكد صدق النبوة، ونزول الوحي على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السماء، بالشريعة الإسلامية، نافيًا قول من يدعي خلاف ذلك من الحيلة والخديعة والتزوير، إذ يقول:
"ومما لا ريب فيه، أن محمدًا نبي العرب كان يتحدث إلى الناس عن وحى من السماء، لأنه أتى إلى العالم بدعوة من ورائها المعجزات والآيات، وهي أعظم شاهد على مدعاه، ولا يجوز لنا أن نفند أراءه، بعد أن كانت آيات الصدق بادية عليها، فهو نبيٌ حق، وأولى به أن يتبع، ولا يجوز لمن لم يعرف شريعته أن يتحدث عنها بالسوء، لأنها مجموعة كمالات إلى الناس عامة[23] ".

فهذا الشاهد المنصف - الأخير وما سبقه من شواهد - ينطق لغة الغرب وبمنطقه، وقد جاء من رحم فكره وثقافته وتدينه، فهو جزء من المنظومة الغربية ونسيجها، مما لا يقدر عاقل على رد شهادته، أو التشكيك في صدقها ومصداقيتها، فهي وليدة البحث الحر غير الموجّه، لأنها لم تكن تخاطب العرب أو المسلمين أو تخطب ودهم، فقد صدرت عن رعايا دول كانت تشكل امبراطوريات تستعمر ثلاثة أرباع العالم الإسلامي، فهي ليست سوى قناعات مقصود بها أبناء الغرب، كما أنها نابعة من رصيد معرفي، وعلمي، وثقافي، وفكري ثري، من نتاج الحضارة الغربية الحديثة[24].


[1] (من الآية32:الأنعام).
[2] الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، القاهرة، د. ت، ج2، ص15.
[3] الدكتور محمد أحمد المسير، النبوة المحمدية ص23.
[4] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1ص342.
[5] أبو حامد الغزالي، أحياء علوم الدين ج- 3 ص- 484.
[6] أبو الحسن الندوي: كتاب (السيرة النبوية) ص170 ط1. دار ابن كثير، القاهرة.
[7] الباحث الأرجنتيني دون بايرون (1839 - 1900): اتح لنفسك فرصة، تعريب عبد المنعم محمد الزيادي.
[8] المستشرق جرسان دتاسي: نقلا عن كتاب (هذا هو الإسلام)، ص 87.
[9] المستشرق الفرنسي كليمان هوار(1854 -1927): تاريخ العرب،ج1، كان أستاذ في اللغات الشرقية وشغل منصب رئيس مجمع البحوث والآداب في باريس.
[10] المستشرق الأيرلندي هربرت وايل: كتاب المعلم الاكبر، ص 17.
[11] المؤرخ والمستشرق الإنكليزي السير ويليام موير: حياة محمد، ص 20.
[12] بلاشير، ترجمة للقرآن الكريم للفرنسية ص 105.
[13] هربرت جورج ويلز(1866- 1946) كاتب ومؤرخ وعالم اجتماع بريطاني ذائع الصيت: كتاب "معالم تاريخ الإنسانية".
[14] المستشرق الفرنسي الكونت هنرى دى كاستري (1853-1915): الاسلام، ص 152.
[15] إدوارد مونتيه Edward Montet(1856-1927م) مستشرق سويسري و أستاذ اللغات الشرقية والعميد الشرفي بجامعة جنيف: مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن. حصل على الدكتوراه في اللاهوت من جامعة باريس عام 1883م، عيّن أستاذًا للعبرية والأرامية والعهد القديم في جامعة جنيف، ثم أضيف إليه العربية وتاريخ الإسلام، رأس جامعة جنيف (1910 - 1912).
[16] ظهرت ترجمة إدوارد مونتيه للقرآن الكريم بطبعتها الفرنسية في سنة 1925م، و امتازت بالضبط والدقة، أثنى عنها الأستاذ محمد فؤاد عبد بقوله: (إنها أدق الترجمات التي ظهرت حتى الآن وقد نقل عنها إلى العربية مقدمة هذه الترجمة، وهي في تاريخ القرآن وتاريخ سيدنا رسول الله، وقد نشرت في المنار، فاقتنيت هذه الترجمة فوجدتها قد أوفت على الغاية في الدقة والعناية وقد ذيلها المترجم بفهرس لمواد القرآن المفصل أتم تفصيل).
[17] الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس كارليل (1795م-1881م)، من أشهر مؤلفاته (الأبطال وعبادة البطولة) الذي يتضمن أعظم الشخصيات تأثيرًا في العالم من خلال المجالات المتعددة التي أصبحوا أبطالها بلا منازع. وفيه أفرد فصلا لنبي الإسلام بعنوان "البطل في صورة رسول: محمد-الإسلام"، عد فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) واحدا من العظماء السبعة الذين أنجبهم التاريخ.
[18] توماس كارليل؛ "الأبطال"، ترجمة محمد السباعي، كتاب الهلال عدد 326، ص 53، 1978.
[19] نفسه، ص 64.
[20] روم لاندو R. Landau.نحّات وناقد فني إنكليزي، زار زعماء الدين في الشرق الأدنى (1937)، وحاضر في عدد من جامعات الولايات المتحدة (1952-1957)، أستاذ الدراسات الإسلامية وشمالي أفريقيا في المجمع الأمريكي للدراسات الآسيوية في سان فرنسيسكو (1953).
من آثاره: (الله ومغامراتي) (1935)، (بحث عن الغد) (1938)، (سلم الرسل) (1939)، (دعوة إلى المغرب) (1950)، (سلطان المغرب) (1951)، (فرنسا والعرب) (19539، (الفن العربي) (1955).. وغيرها.
[21] روم لا ندو - Rome Landau(كتاب الإسلام والعربIslam and The Arabs) ص 34.
[22] رودلف دوتوراك (1852-1920) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة براغ، الذي ترجم حياة أبي فراس الحمداني ودرس شعره.
[23] رودولف دوتوراك في مقدمة ترجمته حياة ابي فراس.
[24] دكتورعبدالراضي محمد عبدالمحسن الرسول الأعظم في مرآة الغرب، المقدمة، الهيئة العالمية للتعريف بالرسول ونصرته، الرياض 2011.


رابط الموضوع: http://cp.alukah.net/Sharia/0/50460/#ixzz2Kn8soUiq