السبت، 17 يونيو 2023

قراءة في التجربة الإبداعية للدكتورة عزيزة الصيفي

 


 

ليست هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن معالي الأستاذة الدكتورة عزيزة عبد الفتاح الصيفي رئيس قسم البلاغة والنقد بكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر الأسبق؛ فقد سبق لي أن كتبت مقالا، عنوانه: "دكتورة عزيزة الصيفي: بنت العربية والأزهر"، وسأستعرض موجز سيرتها ومسيرتها العلمية الطويلة والمفيدة، فسيادتها من مواليد السويس عام 1950، وحصلت على الماجستير عام 1985، وكان عنوان رسالتها: "الصورة الفنية في شعر حافظ إبراهيم"، ثم حصلت على الدكتوراه عام 1990، وكان عنوان الرسالة المقدمة:"الخصائص البلاغية في ديوان العقاد"، وقد أفاض الله عليها بعلم غزير نثرته خلال مسيرتها العلمية والعمرية عبر جامعات الدول الإسلامية التي عملت فيها بالتدريس؛ فأشرفت على العديد من الرسائل العلمية داخل مصر وخارجها، حيث كانت أستاذًا مشاركًا في كلية التربية بالمدينة المنورة، كما شاركت أيضا بأوراق علمية في العديد من المؤتمرات المصرية والعربية، وحصلت على عددٍ من الجوائز والدروع وشهادات التقدير تكريما وتقديرا لدورها وجهدها وعلمها.


لقد كان للدكتورة عزيزة الصيفي الكثير من الدراسات في توظيف اللغة العربية في خدمة دينها من جهة، وخدمة اللغة العربية من خلال تفعيلها في الدراسات اللغوية والأدبية من جهة أخرى، ومن هذه الدراسات: "قراءة بلاغية للكواكبى فى كتابيه: "طبائع اﻻستبداد وأم القرى"، و"التجديد الشعري عند الشابي"، و"من روائع الشعر الصوفي"، و"علم البديع محاولة جديدة لبحث بلاغي"، و"نونية ابن زيدون دراسة بلاغية"، و"الإعجاز البلاغي في سورة القمر"، و"الإعجاز البلاغي في سورة يوسف"، "الفاصلة القرانية فى سورة النحل"، و"صورة الليل في سقط الزند لأبي العلاء المعري"، و"اللفظ بين الحقيقة والمجاز في الأحاديث النبوية"، وأخيرا "دراسة بلاغية نقدية لمسرحية غروب الأندلس" وغيرها من الكتب والدراسات.


إن المتابع لنشاطات الدكتورة عزيزة الصيفي سيدهشه أنها لا تدخر وسعًا بالتواجد الدائم في المشهد الثقافي والدعوي والتربوي سواء بالكتابة في الصحف أو بالحوار الصحفي معها أو باستضافتها في كثير من البرامج على القنوات الفضائية المختلفة، لتلقي الضوء على كثير من القضايا الحياتية الهامة التي يمر بها مجتمعنا المصري والعربي على السواء، كما تحرص على حضور كافة الندوات التي تقام داخل كليات جامعة الأزهر، ومحافظات مصر، كما أنها لا تنقطع عن المشاركة في المؤتمرات الأدبية التي تساهم فيها بدراسات تأصيلية في مجالات الثقافة والأدب والإبداع والفكر.


ذلك أن معالي الدكتورة تمثل المرأة العربية خير تمثيل في انتمائها الصحيح لثقافتها العربية التي تحتفي بها على المستويين التراثي والمعاصر، وهي أيضًا خير من يمثل المرأة العربية في وقتنا الراهن بما تتحمله من مسئوليات جسام على الجانبين العائلي والمهني. وقد ضربت الدكتورة المثال الصحيح، والقدوة التي تُحْتذَى في نجاحها فيهما دون تفريط، وهو ما يضيف لرصيد المرأة العربية العصرية في مشوارها الذي يؤكد مواكبتها لأحداث أمتها، والتزامها بهموم قضاياها المعاصرة من حيث تفهمها والمشاركة في تحملها بالعلم والعمل معا.


على الرغم من أن التجربة الإبداعية للدكتورة عزيزة لم تخرج عن النطاق الأكاديمي، إلا أن ما قدمته إبداعًا يفيد القارئ والباحث والمهتم بالجوانب التي تناولتها، ومدى تنوعها حتى وإن كان مدار البحث والتناول يتصل اتصالا وثيقا بتخصصها العلمي الرصين، وتعجب أن أحدًا لم يتعرض لذلك الجهد العلمي بالإشارة لما في ثناياه من آراءٍ طرحتها جديرة بأن يطالعها كل أهل علم بحسب تخصصهم، والأدباء والشعراء كذلك، كما أن فيه مثالا يُضرب لكل من سيخوض غمار البحث والعلم والتحقيق والتوثيق والفكر والإبداع بتلك العقلية المنظمة، الممنهجة، والأفق الواسع في استقبال الآراء ومناقشتها وتفنيدها، والتوافق معها أو رفضها، والتحري الدقيق، والصبر والأناة في السير مع خطة البحث التي وضعتها نبراسا لدراستها، وسأتعرض في تأكيد هذا لكتابها: "دراسة بلاغية نقدية لمسرحية غروب الأندلس".


تقول الصيفي في نهاية تقديمها للكتاب: (والحق أن هذه الدراسة للمسرحية ما هي إلا محاولة بدائية متواضعة لعملية النقد البلاغي لنص مسرحي، لم أطّلِع على شبيهٍ له، بل كان عملي مقتصرًا على ما اهتدى إليه العقل) بعد هذه البداية التي أظهرت فيها الكاتبة جهدها بتواضع، تبين للقارئ مدى الجهد المبذول وغير المسبوق في هذه الدراسة التأسيسية، فتكمل: (وقد احتاجت هذه الدراسة فترة إعداد طويلة وشاقة اطلعتُ خلالها على كل ما وقعت عليه العين من كتب ومراجع عن فن المسرحية كذلك مراجعة كتب البلاغة، هذا بالإضافة إلى مؤلفات عزيز أباظة ومؤلفات رائد التأليف المسرحي في مصر أحمد شوقي، والتركيز على النص المختار "غروب الأندلس"، بقراءته مرات ومرات للتعرف على أهم الخصائص الأسلوبية التي ميزته).


تلفت الدكتورة عزيزة العقول والأفهام في كلمات قليلة تشبه النصيحة الجليلة لكل كاتب ودارس وباحث، أن مناط الأمر أن يكون مبدعا بحق، وجادا وغير متسرع في حكم أو نشر، وذلك فيما تفعله الكثرة الغالبة من جلب أقوال العلماء في موضوع البحث، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة الجادة، ثم إصدار حكمهم وما توصلوا إليه، وفيه تأثير من آراء من سبق لهم البحث، فتقول: (ولأن الدراسة التطبيقية تهتم بعملية التحليل البلاغي النقدي فلم ألجأ إلى نقل العبارات أو الأقوال من المراجع المختلفة، وإنما تركز العمل في البحث على التطبيق ثم الإشارة في الهوامش لأصول وقواعد فنون البلاغة المختلفة).


يأبى القلم أن يغادر هذه المنطقة من غير الإشارة والإشادة بهذا المنهج الصارم الشاق الذي تتشبث به الدكتورة عزيزة؛ فهي لا تكتفي بالانكباب على المسرحية الشعرية وحدها بالدراسة، وكان يكفيها هذا، حتى لو قرنت بين الدراسة البلاغية والنقدية: فمن الدارس والناقد الذي يقرأ أعمال الشاعر الرائد المتقدم على الشاعر اللاحق في نفس الجنس الأدبي؟! وهل سيبحر متعمقا في أعمال الشاعر صاحب الدراسة، تلك الأعمال السابقة واللاحقة على العمل محل الدراسة والنقد؟! ثم هل لديه من الصبر لكي يقرأ العمل ذاته مرات ومرات؟! من أجل ماذا؟


تأتي الإجابة في هذه التجربة الإبداعية في صفحة الختام، ونجد أن معالي الدكتورة قد عقدت موازنة بين أباظة وشوقي، كما درست التطور الشعري والفني عند أباظة أيضا، وذلك تحسبا وتهيبا منها أن تلقي أحكاما تعسفية جائرة لا يؤكدها سند من نظر دقيق، وإحاطة شاملة، وتفكير عميق، فحكمت بالآتي: (الطريق التي قطعها عزيز أباظة بين تأليف أول مسرحية له ومسرحية "غروب الأندلس" طريق طويلة؛ إذ كانت العمل المسرحي الخامس وقد أكدت الدراسة مدى تطوره الثقافي في كتابة المسرحية) وأضافت الصيفي في موضع آخر: (اعتماد المسرحية كثيرا على الأسلوب الخطابي الذي أفقدها الجمال والرونق الفني أبعد الشاعر عن لغتي الوصف والغناء، اللذان اعتمد عليهما صنوه أحمد شوقي في مسرحياته).


تؤكد الدكتورة عزيزة الصيفي منهجها النقدي في تجربتها الإبداعية/الأكاديمية في كتابها: "صورة الليل في سقط الزند لأبي العلاء المعري"، فتقول: (ولا شك أن الدراسات التطبيقية، وخاصة إذا كانت بلاغية نقدية عملية مجهدة تقلق الباحث ليل نهار، وتؤرقه؛ لأن تحليل النص من وجوهه المختلفة شكلا ومضمونا يحتاج إلى جهد ومثابرة وعمل دؤوب، ودقة نظر، ومراجعة النظر مرات ومرات؛ فقد يتوقف الناقد أمام عبارة أو لفظة بعينها أو معنى يستطلعه ويظل يمعن فيه النظر، إلى أن يتوصل للتحليل والتخريج الذي يُرضي قناعاته، وغالبا ما يكون غير راضِ تمام الرضى، وإنما يحاول بلوغ المراد).


وهو ما يعني أن الدكتورة ترصد العلاقة بين الناقد والقاضي أو رجل القانون؛ إذ يعتبر منهج التفكير النقدي من أهم المناهج التي تساعد رجل القانون على دراسة القضية؛ حيث يقوم بنشاط ذهني متقن لوضع المفاهيم، وتحليل وتركيب وتطبيق وتقييم المعلومات، للوصول إلى إجابة أو استنتاج مدعومة بالأدلة الكافية والمقتولة بحثا. ذلك أن الناقد ـ كما تراه الكاتبة ـ مهمته أصعب وأدق من المبدع؛ فهو العين الساهرة على النص تجتليه وتقلبه على كل النصوص، بحثًا عن فكر الشاعر وموقفه، ومستوى اللغة التي يتعامل بها وثقافته، ومنطقه، ليخلص إلى المذهب الذي تبناه، أو المدرسة التي ينتمي إليها.


لم تذكر الكاتبة معاناتها في البحث في "سقط الزند، حيث بَيَّنَ الدكتور طه حسين في مقالته الثالثة من كتابه: "تجديد ذكرى أبي العلاء"، فيقول: (أبو العلاء هو الذي رتَّبَ سقط الزند، كما أنه الذي رتَّبَ اللزوميات والدرعيات والرسائل ... ولكنه لم يرتب سقط الزند ولا غيره من كتبه ترتيبًا تاريخيًّا ولا فنيًّا، فخلط المدح، والوصف، والنسيب، والرثاء، ولم يُعيِّن تواريخ القصائد ولا مواقيتها، ولكنَّا مُقسِّمون شعره في سقط الزند باعتبارين مختلفين: أحدهما باعتبار التاريخ، والآخر باعتبار الموضوع)، إلى جانب أن هذا الديوان يشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف بيت شعر نظمها المعري في مواضيع الشعر المختلفة، كما ذكر هذا أحمد تيمور باشا في كتابه: "أبي العلاء المعري".


وقد جاء سقط الزند في طبعته الأولى في قصائد ومقطوعات، أما القصائد فعددها واحد وثمانين قصيدة تتفاوت طولا وقصرا، تناولت منها الكاتبة تسع عشرة قصيدة استشهدت بها كاملة؛ فقد رأت أن الصور البيانية في شعر المعري متداخلة ومندمجة ومترابطة لا يمكن الفصل بين التشبيه مع الاستعارة والكناية أو العكس، مما يصعب معه فصلها للاستشهاد بكل صورة وحدها؛ فكان من الأفضل ومن المفيد أن تأتي مجتمعة لتحصل الفائدة عند تقديم المشهد متكاملا يلحظ المتلقي من خلاله دقة الشاعر في الوصف، وبراعته في نسج الصور.


تستهل الكاتبة دراستها عن المعري بهذا الإهداء الإنساني العميق، فتقول: (إلى كل من فقد البصر واستبدله بنور البصيرة، وأقبل على الحياة إقبال المبصرين؛ فأبدع وعاش عيشة راضية)، ثم تبدي رأيا مفصليا وجوهريا توصلت إليه بعد قراءة أغلب ما تناولته الأقلام حول المعري ولم تصل إليه، فتقول: (وقد يتحكم المخزون الثقافي في المبدع بوعي أو بغير وعي، فيفصح عما في نفسه وبالتالي يُخْرِجُ ما في حيزه الداخلي، ليبلغ به قلب السامع فيتمكن منه، ومن الضروري ألا يواَجَه المبدع بما يعوق عملية التوصيل، وقد ربط العديد من النقاد والدارسين بين عاهة أبو العلاء، وبين القدرة على الأداء، وربطوها بإبداعه ربطا محكما واتخذوها وسيلة للحكم على صوره، واختلفوا في أحكامهم، ولم يتنبه الكثير منهم إلى أهمية ربط هذه الصور بالعامل النفسي، حين تكون الصياغة هي الوجود المادي لحركة النفس، وحين التوافق بين الصورة النفسية ومثلها الصياغي، الذي يحقق النجاح عند تمام النضج الفني، واعتبار الصورة انعكاس حقيقي لذلك النضج، حيث تبدأ منطقة حركتها من خلفية إدراكية شمولية، لحقول الدلالة، فيتعامل المبدع مع المفردات تعاملا انفصاليا واتصاليا في آن واحد، يختارها من مخزونه الدلالي).


لتصل الدكتورة إلى الحكم البات في مسألة اتصال العمى بالإبداع من خلال قراءتها لتجربة المعري الإبداعية، فتقول: (والمبدع حينئذ قد لا يحتاج إلى النظر الحسي لإدراك الدلالة المجازية بعد ذلك. فمن مخزونه يُركِّب الصور ذات الدلالات المجازية، ويتوصل إلى روابط وعلاقات ربما لم يتوصل إليها غيره من المبدعين، وتلك هي القدرة الإبداعية التي توفرت لأبي العلاء رغم عاهته). وبإعادة قراءة ما توصلت إليه الكاتبة من رأي، وقراءة الإهداء سيدرك القارئ أنها لم تكن تلقي الكلام على عواهنه، بل عن وعي علمي وإبداعي.


إن قراءة التجربة الإبداعية للدكتورة عزيزة الصيفي تتنوع بتنوع التناول، ومن هذا دراستها لسورة يوسف لكي تبين ما فيها من إعجازٍ بلاغي، وتكشف في مقدمتها عن الدافع الذي يقف وراء اختيارها، وهو الوصول إلى منهج علمي عام تراه هو الأصوب في التعامل مع الإعجاز البلاغي لسور القرآن الكريم كلها، فتقول: (وقد اتجهت الدراسة إلى اختيار سورة يوسف أنموذجا متكاملا وشاهدا على الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، في محاولة جادة لبيان موقع علوها وسمو بلاغتها ونظمها، وذلك لفتح باب في تناول إعجاز القرآن الفني والأسلوبي، لأن النظر في القرآن آية آية، أو النظر في السورة من خلال رؤية بلاغية محدودة ببحث فن بلاغي معين، تكون دراسة ينقصها النظرة البلاغية الشاملة).


لهذا ترى الدكتورة أن: (ما اتخذته الدراسة التي بين أيدينا واجبا وضرورة، للبحث، لاستخلاص الخصائص البلاغية للسورة كاملة، يدار عليها حديث النظم، يناقش ما فيها من أساليب؛ بعد التأمل فيها كلمة كلمة وحرف حرف، وفصلا فصلا، ليكون التحليل أكثر كشفا عن فنية الأسلوب وبلاغته، وكيف حسن الانتقال من آية لأخرى في تسلسل متآلف يتراءى لمن أمعن النظر، وكيف اتصل أول القصة بآخرها، وكيف وصل ما بعدها من الأخبار عن الربوبية، بالمقدمة، من غير خلل يقع في النظم).


لا تغادر العالمة الجليلة مكانها في دراسة قصة يوسف عليه السلام بلاغيا كما جاءت في القرآن إلا وقد سطرت رأيا علميا مُهمًا ينتفع به أهل الشعر والقصة والرواية وغيرهم، فتقول: (والقصة لم تعتمد على لغة المجاز بقدر اعتمادها على السرد الواقعي للأحداث، وذلك برهان ودليل على أهمية اللغة النثرية الواقعية؛ فالإعجاز ليس بالضرورة أن يكون من خلال اللغة المجازية، وليس بالضرورة نقل اللفظ من معناه الحقيقي، وليس بالضرورة السباحة مع الخيال والتصوير المجازي الذي يعطي المعنى مذاقا خاصا، لأن اللغة الواقعية، بألفاظ ذات مدلول حقيقي ـ ربما ـ تكون أبلغ في توصيل المعنى، وإصابة الهدف).


وقد يعجب القارئ وكاتب هذه السطور: كيف لم تخرج رسالة أكاديمية تتناول المنهج النقدي عند الدكتورة عزيزة الصيفي؟! قد يكون هذا بدافع التواضع منها أو الحرج لاتصاله بوظيفتها، ولا أجد لهذا مبررا بعد مغادرتها حيز المناصب، خاصة أن مشروعها النقدي يطول بطول وعرض ما أنتجت من كتب ودراسات ومقالات، مما يحتاج بالفعل لعمل أكاديمي يستفيد منه النقاد بصفة عامة وطلاب وطالبات أقسام النقد في كافة الكليات والجامعات بصفة خاصة، وهو عمل سيثري ـ بلا شك ـ الحركة النقدية والإبداعية العربية.


تتنوع التجربة الإبداعية لمعالي الدكتورة عزيزة عبد الفتاح الصيفي بتنوع مؤلفاتها التي طالت الشأن الديني فيما يتصل بخدمة كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما يتصل بالإبداع الشعري، والمسرحي، والمرأة، والتاريخ الإسلامي، بل والفكر الاجتماعي والسياسي، وهو ما ينم عن موسوعيتها، ونهمها المعرفي، وحرصها على المساهمة الفكرية في كل مجال، سواء بالدراسة البلاغية النقدية أو بغيرها، ويكفي للدلالة على ما تقدم بيانه مطالعة عناوين هذه المؤلفات التي لا يتسع لها، هذا الحيز، لكثرتها، ومنها، إن لم يكن أغلبها، مازال مخطوطا أو مطبوعا لكن غير منشور الكترونيا، وهو تقصير لا نبريء ساحة الكاتبة من اتهامها به، ومناشدتها بصرف همتها ووقتها لإخراجها للنور لما فيها من علم قيم مطمور.

قراءة دكتور السيد إبراهيم لـقصص: "رحلة عبر ضوء القمر"..

الجمعة، 9 يونيو 2023

عندما غنت "الست" في السويس: "توثيق فني وتاريخي"..




     تبرز أهمية التوثيق، باعتباره علمًا من علوم التاريخ، في حفظ المعلومات، وتبويبها، وتصنيفها، وفهرستها عبر إجراء عدد من العمليات الفنية التي تكشف عن جودة الوثيقة وصحتها، لذا فهو يتيح للأجيال التعرف على تاريخهم بكافة مراحله من خلال نقله من الماضي إلى الحاضر.


ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى التوثيق الفني، لأي عمل فني معين أو جانب من جوانب حياة الفنان بشكل عام، ومن هذه الفنون فن الغناء الذي يحتاج إلى التوثيق الفني والتاريخي سواء لمسيرة اللحن أو الكلمات أو صناع العمل: المؤلف والملحن والموزع والمطرب أو المؤدي، خاصة وأن هناك العديد من المناسبات الفنية التي ارتبطت بأحداث تاريخية هامة، تمضي مع السنوات وتنساها الأجيال التي عاصرتها بفعل التقدم في السن، وتسقط من ذاكرة الأجيال التي لم تعاصرها، وهو ما يفوت عليهم فرصة الاعتزاز بهويتهم، وتاريخهم، وبلدهم أيضا.

لقد ذكرتُ في مقالات ـ وبالأحرى ـ دراسات؛ فقد أخذت جهدا ووقتا من العمر في التقصي والبحث، والتحقق، ومنها: زيارة الكاتبة الكبيرة الراحلة مي زيادة للسويس، وكان موضع سرور من المهتمين، والمثقفين، فليست كل الحوادث التاريخية والأدبية والفنية تهم أغلب الأفراد، غير أن أحدًا لم يصدق أن تزور هذه السيدة هذه المدينة، وما الداعي لهذا؟!

لقد زارت سيدة الغناء العربي نفس المدينة في السادس عشر من شهر مارس عام 1967م، وغنت في نادي بورتوفيق الرياضي، من خلال سرادق ضخم أعد خصيصا لهذا الحفل الذي حضره لفيف من كبار رجال الدولة، والمدينة، ومنهم: الوزراء: وزير التخطيط دكتور محمد لبيب شقير، واللواء شعراوى جمعة وزير الداخلية، ووزير الدولة للشباب طلعت خيري، ووزير العمل أنور سلامة. كما حضره من المحافظين: سعد زايد محافظ القاهرة، ومحمد البلتاجي محافظ الجيزة، وإبراهيم بغدادي محافظ المنوفية، وعماد رشدي محافظ بني سويف، ووجيه رشدي محافظ الغربية، ومحمد فريد طولان محافظ بورسعيد، ومبارك رفاعي محافظ الإسماعيلية، وحضره أيضا: رئيس هيئة قناة السويس مهندس مشهور أحمد مشهور، ووكيل وزارة الإرشاد القومي السيد فرج، والآلاف من شعب السويس، وكان في استقبالهم محافظ السويس اللواء حامد محمود.

ولقد نقل الحفل إذاعات البرنامج العام والشرق الأوسط، وعلق على أحداثه الإعلامي الكبير صالح مهران، وذلك احتفالا بعيد السويس القومي الثاني الذي سيحل في الثاني والعشرين من شهر مارس، منذ أن رفع الرئيس جمال عبد الناصر علم مصر فوق منطقة "الشلوفة" بالسويس بعد جلاء القوات البريطانية عن معسكرها وعن مصر عام 1955، وتم اتخاذ هذا اليوم عيدا وطنيا للسويس بديلا عن عيدها الأول الذي كان يوافق الثامن من ديسمبر ذكرى معركة كفر أحمد عبده في نفس اليوم من عام 1951م. وقد تم هذا بعد موافقة المجلس المحلي بالمحافظة في الثاني عشر من أكتوبر عام 1965م، وقد حضر الرئيس جمال عبد الناصر العيد الوطني الأول للسويس عام 1966م.

غنت السيدة أم كلثوم في الحفل ـ المشار إليه ـ ثلاث أغنيات أو ما يسمونه "وصلات"؛ فشَدَت في الوصلة الأولى بأغنية "أمل حياتي" كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، ولحن الموسيقار محمد عبد الوهاب، وفي الوصلة الثانية غنت "فات الميعاد" كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز، ولحن الموسيقار بليغ حمدي، واختتمت الحفل بوصلتها الثالثة التي استغرقت قرابة الساعة والربع وغنت فيها رائعتها الدائمة "الأطلال" من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي ولحن الموسيقار رياض السنباطي.

وأتى ما تقدم بيانه من مناسبة إقامة الحفل، ومكانه، ووصلاته تصويبًا لما ذكره الأستاذ فاروق علي متولي في كتابه "السويس: أماكن وذكريات"، ص20: (كان يوجد مسرح بورتوفيق الصيفي والذي تواجدت فوق خشبته سيدة الغناء العربي أم كلثوم في أول زيارة لها للسويس ضمن اﻻحتفاﻻت الوطنية بتأميم القناه، واستقبلتها الجماهير استقبال الفاتحين وهي تشدو بأغنياتها وأنشودتها الرائعة: "محلاك يا مصري وانت على الدفه والفرحه عامله في القنال زفه").

ذلك أن الأنشودة التي ذكرها متولي "محلاك يا مصري"، والأدق اسمها "فرحة القنال" غنتها السيدة أم كلثوم في "نادي الفرسان" بمحافظة الإسماعيلية في الرابع عشر من سبتمبر عام 1957م، احتفالا بعيد المرشد المصري أو "يوم المرشدين"، وهي من كلمات الشاعر صلاح جاهين، ولحن الموسيقار محمد الموجي، وكانت في الوصلة الأولى، ثم أتبعتها بأغنية "دليلي احتار" في الوصلة الثانية من كلمات الشاعر أحمد رامي، ولحن الموسيقار رياض السنباطي، واختتمت الحفل بوصلتها الثالثة بأغنية "شمس الأصيل" للشاعر محمود بيرم التونسي وأيضًا لحن الموسيقار رياض السنباطي.

من المعلوم بيانه أن للصورة الفوتوغرافية مكانة مهمة عند توثيق الأحداث من خلال تجسيدها لأبعاد رمزية وتراثية وثقافية، وهو ما افتقده هذا الحفل وحفلات أخرى أقامتها أم كلثوم في العديد من محافظات الجمهورية، على الرغم من الاهتمام بتسجيل أحداث العيد الوطني الأول للسويس لوجود رئيس الجمهورية، ولا أرى أن سيدة الغناء العربي تقل مكانا ومكانة أبدا، مع وجود صور لأحداث وحفلات تلت هذه الحفلة، ولقد راجعت صفحات ومواقع متحف هيئة قناة السويس بالإسماعيلية، والمتحف القومي بالسويس، ومتحف أم كلثوم، وعدد من صفحات المهتمين بتاريخ وذكريات السويس فلم أنجح، وأثبت هنا تحذيرا للتلفيق الذي دفع بعضهم لوضع صورة لأم كلثوم وهي تحمل طفلة ومعها رجل وفي الخلفية بحر وقارب، وكتب على يمين الصورة بالإنجليزية الواضحة "SUEZ"، وبالتحري ثبت أن الرجل هو زوج السيدة أم كلثوم دكتور محمد حسن الحفناوي ولم تكن في السويس.

لم تكن السيدة أم كلثوم تدري أن حالها سيتغير بتغير أحوال السويس التي كانت على مقربة من الهزيمة العسكرية أو النكسة بعدها بأقل من شهرين من قدومها القدري لهذه المدينة الهادئة الوادعة؛ وقد رصدت وقائع هذا التغير الباحثة الأمريكية "فرجينيا دانيلسون" المتخصصة فى الموسيقى وتأثيرها على المجتمعات، في كتابها: "أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين" بدقة، فتقول: (وبوقوع الهزيمة في حرب 1967 صار كل جانب من جوانب الحياة في مصر عُرضة لإعادة التقييم، لا سيما على ألسنة وأقلام المثقفين. فانتقدوا بشدة ما اعتقدوا أنه السبب في الكارثة: ضلالات العظمة والتباهي وانعدام الاهتمام بمشكلات العالم العربي الفعلية، وعدم توخي سبل لحلها تقوم على النظرة النقدية. وفي رأي الكثيرين منهم كانت أم كلثوم رمزًا على هذه المجموعة من المشكلات؛ إذ أنهم اعتبروا أغنياتها الطويلة وتباهيها بالثقافة المحلية انفصالا عن الواقع بما فيه من محن اقتصادية واجتماعية وسياسية).

خرج شعب السويس في هجرتين، الأولى اختيارية بدأت مع بداية الحرب، وذلك خوفا من العمليات الانتقامية العسكرية الإسرائيلية كرد فعل لأي عمليات عسكرية مصرية قادمة، وهذه كانت حتى التاسع والعشرين من سبتمبر من نفس عام النكسة، تلتها هجرة إجبارية طويلة عانى فيها شعب السويس من مشاكل كانت جديدة عليهم، كانت بمثابة الحلم أو الكابوس، تماما كتلك التي جعلت أم كلثوم تختفي في بدروم بيتها تحتضنها ظلمة طويلة، وعزلة تامة عن العالم، حزنا على ما أصاب مصر، وقررت أن تجعل حفلاتها القادمة من وصلتين فقط، ثم رأت أن عليها دورا يجب القيام به، فأقامت العديد من الحفلات داخل البلاد وخارجها، كان الهدف منها جمع الأموال للمجهود الحربي، ورأب الصدع العربي.

لم يكن موقفها هذا كرد فعل على الاتهامات الموجهة إليها ـ كما ادعى البعض، ولكن عن إيمان عميق بأن الهزيمة كبوة، ومصر ستخرج منها أكثر قوة؛ فهي المصرية الوطنية الفلاحة المنحازة لشعبها وأرضها، الذي يشهد لها نشيدها "والله زمان يا سلاحي"، خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الذي أطلقته كقذائف اللهب على رأس العدو الصهيوني الذي كان يهدد باستهداف الإذاعة بنيرانه وقنابله وأم كلثوم فيها، فلم ترضخ أو تخف، وهو ما يعني أنها لن تتخاذل أو تجبن بعد أن تقدم بها موكب العمر، وقد رأت أنه لا يجب عليها أن تتخلى عن زعيم وطني مخلص وصادق وهو مثلها من أبناء هذا الشعب الكادح، غير أنه يمثل أملا ومُخلِّصًا لهم، كما يسكن بين جنباتها يقين تستمده من إيمانها العميق بالله تعالى، وأنه ناصر ـ كما وعد ـ المؤمنين.

غنت أم كلثوم لرفع الروح المعنوية المصرية والعربية معا، وجمع شمل الدول والشعوب العربية، واستعادة تماسك البنيان الشعبي والمؤسسي المصري، غير أن قلبها لم يتحمل أن يسبقها عبد الناصر إلى رحاب ربه وهو يعيد تنظيم الجيش، ويدفع سحابات اليأس عن عزائم الرجال، وكأنه وأم كلثوم كانا يعزفان معا لحن الأمل وينشدانه أغنية بالفعل والكلمات، فكان عليها أن تستكمل مسيرته بعد أن فكرت في اعتزال الغناء بعده ثم تراجعت تحت إلحاح من حولها، لأن في الاعتزال خيانة لمسيرة ناصر، فعادت بعد توقف دام ثلاثة أشهر، لكن المرض لم يترك لها الفرصة أكثر من أن ترى بشائر النصر، وربما كان من أحلامها أن تعود لتغني لأهل القناة وأن تبدأ بالسويس التي حوصرت واستبسلت ودافعت لا عن نفسها فقط بل عن مصر كلها بل العرب كلهم.

سألت أم كلثوم الشاعر صالح جودت أن ينظم لها أنشودة تغنيها بمناسبة مرور عام على معركة استرداد العزة والكرامة، أي فى السادس من أكتوبر عام ١٩٧٤، ونظم جودت بالفعل الأنشودة، وبدأ الموسيقار رياض السنباطى فى تلحينها، لكنها لبت نداء ربها فلم تخرج هذه الأغنية للنور، ومنها هذا المقطع: (قيدوا شموع العيد وغنوا لمصر/ وادعوا لها دايما بالعلا والنصر/ الله يزيدك منزلة يا مصر/ ياللي شبابك من جنود الله/ والحرب في قلوبهم صيام وصلاه/ ودمهم عند الشهادة زكاه/ زي اللي عزوا الدين في غزوة بدر/ طول عمرهم أحرار ولاد أحرار/ متسلحين بالعزم والإصرار/ ساعة ما نداهم مُنادي التار)..

مضت الأيام وعاد أهل السويس لديارهم، وقد صار الأطفال شبابا يعزف بعضهم أغاني الست على "آلة السمسمية" الشهيرة في أفراحهم وأسمارهم، ويرددونها ومنها أغنيات ثلاث شدت بها واحتضنتها سماء مدينتهم، ولا يعلمون .. مثل كاتب هذه السطور الذي يسكن منذ عدة سنوات بالقرب من مكان الحفل لا يفصله عنه غير أمتار قليلة. لذا كان من الأهمية توثيق ذلك الحدث لمن يهمه الأمر سواء من أبناء هذا الجيل أو الجيل القادم؛ فنحن لا نمتلك التاريخ ونخزنه ـ لكوننا عاصرناه ـ في الذاكرة بل هو إرث ينتقل عبر الأجيال وعبر الأزمان.