الأربعاء، 31 مايو 2023

الغربة والاغتراب في شعر فتحي جبر





يمثل الاغتراب في الوطن أو الغربة عنه موضوعا هاما في الشعر العربي القديم والحديث على السواء، باعتباره من أهم القضايا المصيرية، والحياتية التي تحدد مستقبل الشاعر، كما تنعكس على ماضيه وتتصل بحاضره من حيث اجتراره في ذكرياته، ومعاناته من أحداثه، ولهذا كان الاغتراب من الموضوعات المتفردة التي تتناولها أقلام النقاد والباحثين لأنها تمثل قضية تتصل بالإنسان اتصالا وثيقا، ومنها عنايتهم بالاغتراب النفسي.

وهو ما يوجب التنبيه في التفرقة بين مصطلحي “الغربة” و”الاغتراب”؛ فالغربة تعني الرحيل بالجسد عن الوطن الأم، سعيا وراء تحصيل رزق أكبر، ومكانة أعلى، بينما تتعدد مراتب الاغتراب الذي قد لا يستلزم الانتقال من الوطن بل يتحقق بالإقامة فيه بالجسد، والرحيل بالنفس والأحاسيس والمشاعر، ذلك أن الاغتراب شعور نفسي داخلي يأتي مفهومه أوسع من مفهوم الغربة، كما يأتي “الاغتراب النفسي” أقسى، باعتباره يمثل شكلاً على قدر كبير من الأهمية من أشكال الاغتراب، لأنه يتعلق بما يكمن في نفس الشاعر الداخلية، وما تعكسه من هموم نفسية شعورية، وصراعات داخلية، والكثير من التوتر السيكولوجي الذي ينحت البنيان اللغوي لقصائد الشاعر، عند محاولته ترجمة مشاعره المأزومة عبر أحاسيس لا تنقصها براعة التعبير اللغوية التي تستلهم جماليات التجربة الذاتية لتمنحها عبير الانتشار والعمومية حتى تصبح تعبيرا عاما عن كل من يعاني من هذا الاغتراب، ولا يملك الذات الشاعرة في البوح مثل أولئك الشعراء الذين ينجحون في الإفضاء بمشاعرهم الاغترابية الطازجة دائما في مكنوناتهم، وذاكرتهم، فيلجأون إلى الكشف عن نوازعهم النفسية ومشاعرهم الاغترابية التي يستطيعون التعبير عنها حال معايشتها، أو استمداد أوجاعهم فيها عبر ذكرياتهم الكامنة في ذاكرة لا تعرف النسيان لتلك اللحظات التي طحنت نفوسهم، وعصرت قلوبهم، وأسهرت أجفانهم زمنا ما.


ومن الذين جربوا الغربة والاغتراب النفسي وعانوا منهما، وتحدثوا عنهما، وأوردوهما في قصائدهم حين يبثون فيهم مواجعهم ومعاناتهم الشاعر فتحي جبر الذي أفرد ديوانا يحمل اسم: “همُ الغربة”، وبعض قصائد منثورة في ديوانين له، بعنوان: “حروف سكنت أبياتي”، و”سوق الستات”.

لم تتوقف وظيفة الشعر عند فتحي جبر باعتبارها هواية أو ممارسة إبداعية، بل كانت القصيدة بمثابة الصدر الحنون له في هذا العالم الذي يحتضن شكواه، ومعاناته، وآلامه، وما تلقاه من معاملات إنسانية غير طيبة في غربته، جعلت من همه همين ومن غربته غربتين؛ إذ لم يجد الصديق الذي يأمنه ويأمله ليبوح له، أو يحكي معه، خاصة وقد أتت بعض القصائد الغاضبة التي سكبها الشاعر على الصفحات دون مراجعة أو بحثا عن قالب أبدع من المعاني أو الكلمات، وهو الذي أوقعه في عدد من المخالفات الشعرية، ظن معها أن تجربته الإنسانية بصدقها هذا ستجعل القارئ يغفر له هذا.

على الرغم من أن البلاغة العربية اعتنت بالمتلقي للعمل الفني عنايـة كبيرة، حيث تكمـن أهميـة دور المتلقي في وضع المبدع له في الاعتبار حين الإبداع؛ لأنه هو الذي يتوجه إليه المبدع بالخطاب، وهو الذي يتلقى التأثير الجمالي للنص؛ ومن ثم يحاول المبدع اختيار وسائل التعبير التي تؤثر في المتلقي تأثيرا جماليا والتي تعبر عن فكرتـه وتبرزها، وفي نفس الوقت يمارس المتلقي نوعا من التأثير في النص من خـلال التفاعل معه والاستجابة له، كما تقول دكتورة مديحة السايح في: “المنهج الأسلوبي في النقد الأدبي في مصر”، وهو ما يحاول أن يحرص عليه الشاعر إلا أنه تفلت منه بعض القصائد ويغلب عليها حديث الذات للذات كنوع من الاستشفاء النفسي أو التنفيس عن مشاعر الغضب المكتومة والتي لا تستلزم أصلا وجود المتلقي، ولا تلزم أن تتسرب إلى صفحة الدواوين لتلتقي المخاطبين بها، إلا أن الشاعر غامر وسكبها على الصفحات استزادة في استثارة المشاعر ومشاركته فيما كان يعانيه في غربته التي أتت في أغلب القصائد أنه أكرُهَ عليها، وهو ما يبدو في قولين له، أولهما، جاء بقرار تشاوري داخل الأسرة وكان التصويت فيه بضرورة الغربة، حتى وإن بدأها واستمر فيها وأراد أن يكر منها راجعا، يجد أن القرار بالاستمرار هو الأفضل، فيقول:

(والغربة تطول، والعمر معاها بيقصر/ والشغل الباقي بسيط أخضر مش أكتر/ قلنا نلم الدور قبل القلب ما يفتُر/ طلعت هيه تقولي سنة خليك مش أكتر/ وسنة جرت سنوات والأخضر صبح أحمر).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “لما الغربة تطول”، ص49].

أما القول الثاني الذي يأتي سببا للغربة فمرده أحوال الوطن السيئة التي لم تترك للشاعر فرصة في أن يفضل البقاء تعللا به، مما جعله يمضي إلى غربته مضطرا آسفا، فيقول:


(قلنا نسافر لإن البلد من زمن باظت/ وتاهت ونامت عن حلمها وضاعت/ ورتبنا كل الأمور وودعنا الشارد والوارد/ وقلنا سنة أو اتنين، ودنيتنا لفت ودارت).. ويقول في موضع آخر من نفس القصيدة معولا على أن حال الوطن هو الذي يجعله يصر على البقاء مع عذاباته وتمنياته بالرجوع غير أن: (وهي البلد نافعة عشان نقول كفاية يا عم/ دا فيها النكد أطنان وفيها يسيل الدم/ ولا حد قادر يلم ولا حد كمان مهنم”.. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “لما الغربة تطول”، ص9].

يؤصل الشاعر تعريف الغربة الاجتماعي النابع من التأصيل المستقر في ذهن العقلية المصرية وخاصة الريفية، وهي موطن الشاعر ومرباه، ليلفت الانتباه إلى أي “غريب” يقصده من مخاطبته في قصائده، وذلك من أجل إرساء نص تأسيسي يسير على هديه المتلقي فلا يخلط بين المصطلحات، فيقول عن هذا الغريب: ( الغربة أصلها في شرعنا للي ملهوش صاحب/ ولا حتى أرض ولا عيلة ولا كمان صاحب/ ولا حتى أرض تلمه وتسكنه وهو ليها راغب/ يعني تبقى ليك عزوة تحب وتتحب وتتصاحب/ هو دا معنى الغريب ملهوش صاحب ولا حبيب/ ماشي في البلاد تايه بيدور على حد قريب/ في دين أو عمل أو حتى عليل أو حتى طبيب/ وإن مليت من الدنيا يبكيك كم نفر ولبيب).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “الغربة أصلها”، ص12].

ثم ينقلنا إلى الغريب الذي انتقل إلى أرض المهاجر والمنافي والغربة، وهو الذي يقصده بالحديث عنه، ورصده في سكناته وحركاته، وأسبابه المتعددة في النزوح من الوطن فيقول: (لكن في غربتنا هنا فيها العجب والزمن دوار/ والغربة فيها الصالح والطالح وفيها كريم الدار/وفيها عجب وفيها تحف وفيها كمان أسرار/ ومنها الكلام حيطول وفيها حكمة القهار/ غريب في غربته هاجر عشان المال/ وغيره خرج من داره لأن عنده عيال/ وتالت راح يبني ويغير حياة الحال/ وأمثلة كتيرة ومن بلد ضاعت بفعل الخال).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “الغربة أصلها”، ص13].

تجسد الكلمات عبر الشطرات والأبيات تلك المعاناة التي غطت روح الشاعر ونفسيته بإحكام، ولم يجد منها أو عنها فكاك، على الرغم من المحاولات التي أفشلها هو بنفسه ليأسه من مصير أفضل ينتظره، أو أفشلها له غيره من كون البقاء له في الغربة أفضل، ولا يبدأ في سرد عذاباته إلا بعد أن يضع موجزا للتعريف بالغربة وعناصرها التي تضافرت معها لتعكير صفو هدوئه الذاتي، والتسلل إلى مناطق صفائه يحيلونها كدرا، وتبرما، فيقول:) الغربة تربة والمدفون هو المذكور/ والمغسل هم الصحاب والكفن بيدور/ اليوم ليك وبعدك يدور الدور/ وفي القبر تلقى الضلمة أو تلقى قبرك نور) .. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “والمدفون هو المذكور”، ص58].

كان هذا هو المجمل لمشهد الغربة، وتوصيفها المباشر الذي جاء تشبيها بلا أية أدوات أو استعارات، ليحمل في تلك الحفنة من الكلمات كل ما يدور في رأس الشاعر ورأس المتلقي من الأوصاف المحسوسة والكئيبة والسوداوية بقتامة الإحساس المترسخ فيه، ومن المجمل ينطلق الشاعر نحو التفاصيل التي بعثرها في مشاهد كثيرة تضمها أكثر من قصيدة، لتدل على أن مساحة البوح والتعبير المخزون عنده يحتاج مساحات واسعة كحضن الصحراء الشاسع، لينيخ فيه قافلة العذاب السائرة بعمره المسروق منه في تلك الغربة التي ألجأته إلى أن يعاني في صمت خارجي، وإن كان في داخله جوقة تنشد الكثير من الألحان يبدعها وحده ويسمعها وحده؛ لأنه لا يثق في أحد:


(الغربة قالت ونادت على طالبها/ ليه تطول واللا انت ممسوك من مخالبها/ مآسيها كتير كتيير واسأل مجربها/ رغم ما فيها من قطط متحوطة بكلابها…. من بيتك لشغلك حلقات ورا حلقات/ في الصبح تلقى الكفيل يقولك هات/ وفي الضهر تعيش الألم آهات ورا آهات/ وفي المسا تشوف القرف جزاءات/ وفي النوم كوابيس يا تعيس عليك بتدور) .. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “والمدفون هو المذكور”، ص59 ـ 60].

ويقول في قصيدة: “اللي في غربتك”: (همك تقيل يا صاحبي والغربة مرة حراقة/ حتلاقيها من مين ومين دي كلها خناقه/ وإن تصاحب صاحب في غربتك وتعمل علاقه/ وتقوله سرك وشكوتك تلاقي من الهموم قنطار/ وكفيلك يصرخلك من كلام قلته لواحد خسيس غدار/ ويهددك ويخصمك عشان طلعت حمار/ وثقت في واحد ملهوش صاحب وغربة كلها أشرار) .. [من ديوان: “هم الغربة”، ص62 ـ 63].

ويقول في قصيدة: “في غربتي تهت”: (أنا في غربتي تهت وضاع الكلام مني / ورضيت بغدر الصحاب واللي قالوه عني/ لجل نيتي الصافية وإخلاصي لأني/ غريب في وحدتي وعايش كما الجني/ بشتغل من الفجر للمغرب ومديري مزعلني) .. [من ديوان: “هم الغربة”، ص65].

لقد اضطر الشاعر للانكفاء على ذاته، والاكتفاء بأن ينشر الكلام أمام نفسه، ويذيعه منطلقا من ذاته أمام ذاته، ثم جمعه من جديد ليدسه بين طيات نفسه، ذلك أنه حاول ذات مرة أن يهون الغربة على من معه من الغرباء بقصائده غير أنه لم يسلم منهم؛ فآثر ألا يكررها غير أنه شعر بالقهر أكثر: (أنا غربتي قهران واحمرت على الدوام شمسي) واستخدم “القهران” للمبالغة والديمومة التي أنابت في التعبير عنها شمس غاضبة حمراء تحرق الشاعر تحت قيظها بلا رحمة.

حاول الشاعر ـ ما وسعته المحاولة ـ أن يصور غربته التي صارت كالمآسي اليونانية وما تحيط به البطل من أقدار كلها تحاربه، ولا تهادنه، وتتحالف مع مفردات الكون من أجل إزعاجه، والزج به في لحظات لا يعرف فيها السكينة، أو الراحة، ويفتقد فيها إلى الخليلة والأصدقاء، ولهذا دارت أكثر من قصيدة في تصوير طول أيام الغربة النفسية والزمنية، والتي جثمت فوق صدر الشاعر، ولم تفلح أية محاولة من محاولات العودة منها إلى الوطن، وهو ما يجعل الغربة عند فتحي جبر لا تقترن بالحنين إلى الوطن، وهذا هو المستغرب، فغالبا ما يجد المغترب في حديثه عن ذكرياته في وطنه في شتى مراحل حياته قبل أو قبيل قرار الغربة، الملاذ الآمن الذي يفر إليه، ملتحفا بدثار دفئه وحنوه وضحكه ولهوه، غير أنه لم يفعل، ولم يتذكر الوطن ليصنع منه معادلا موضوعيا يقارن فيه بين البلد الذي يعيش فيه والبلد الذي غادره، كما لم تحدثه نفسه بالحنين إلى الوطن كموضوع أثير عند كثير من أصحاب الشعر ولو على غير سبيل الحقيقة، وبافتراض المحاكاة التي يصنعها بعض الشعراء، غير أن الشاعر قد تحدث عن الوطن في قصائد قائمة بذاتها تتحدث عن أمجاده، أو تدعو للثورة على الفئة الظالمة من أجل إنقاذ الوطن من براثنهم، وكلها تنم عن روح وطنية حقيقة غير مفتعلة، خاصة وأن الشاعر كان من الذين خاضوا غمار الحرب الأكتوبرية الكبرى التي حررت الأرض من يد الغاصب الصهيوني، ويجب أن تستنقذ من يد الغاصب المحلي أيضا بحسب دعوته.

لقد عاش الشاعر فتحي جبر الغربة المكانية والاغتراب النفسي في آن واحد معا، وفرضت عليه عزلة التواصل بالبوح مع الأصدقاء؛ فحوصر في الزمان والمكان والنفس فاتخذ من الشعر مؤنسا له، وحاميا لنفسه القلقة التي يلازمها التوتر طيلة اليوم وحتى الليل والأحلام، فجاءت القصائد في أغلبها متسرعة، مباشرة، تقريرية، تصف، ولا تبدع، ترسم صورا قلقة، ومعانٍ شابها التكرار بلا ضرورة، واقتحام المفردات الفصيحة لبنية العامية، واختراق المفردات العامية لحصن الفصحى، والوقوع في عدد من عيوب القافية كالإقواء والإيطاء، وتكرار بعض القصائد عبر الدواوين الثلاثة، كما لم يتم انتقاء القصائد لجودتها، ومراعاة الترتيب الزمني التاريخي في التجربة، وتجاور القصائد العامية بجوار الفصيحة بلا موضوع يضمهم، وهو فعل إن مارسه بعض الشعراء إلا أنهم قلة، والأصل أن ينفرد كل ديوان بنوعه فهذا أقوم وأجدى نفعا في القراءة الإبداعية والنقدية للنصوص، وحذف كافة القصائد التي كتبها الشاعر في مناسبات خاصة ـ في أغلبها ـ وكان الأجدر أن تتقوقع في أحد أركان دواوين الشاعر العامية.

لقد غنمت القصيدة العربية شاعرا أجاد التعبير عن محنته في الغربة والاغتراب، والتي أفرد لها هذا الكم من القصائد، التي صورت صدق معاناته، بل ورسمت صورة بشعة أمام من يحاول أن يغامر ويمتطي صهوة الابتعاد عن الوطن، وإن كان الشاعر صادقا حين عدَّدَ الأسباب والعلل التي تدفع الفرد للمروق من باب الوطن كأنه الانعتاق من العذاب، وعدم التفكير في العودة إلى الأهل والأحباب لعدم زوال الأسباب، فجاءت المفردات جياشة ومعبرة عن الغربة المكانية، والاغتراب النفسي التي عايشهما الشاعر نيابة عن الصادقين المخلصين الطيبين والذين لا يجيدون فنون التلاعب بالأقوال، ويجيدون لغة الأفعال، وما نالوه من الأشرار الذين يملأون الغربة دائما، خاصة وأن غربة الشاعر فتحي جبر كانت شرا كلها كما صورها بصدق عبر قصائده التي تصلح دائما لكل زمان ومكان؛ لكونها تتصل بسبب إنساني لا يعرف التوقف عبر رحلة الإنسان في الزمان والمكان.


الثلاثاء، 30 مايو 2023

النظام الضريبي في الإسلام ودوره في تحقيق العدالة..

                                                                                               






  إن خصائص الإسلام تتمثل في كونه دين ريعته مرنة، متوازنة بين ما هو إلهي وما هو بشري، لا تعرف التحيز لجنس دون جنس أي تقر بالمساواة، وتعرف العدالة، وسمتها الوسطية والاعتدال، لذا كانت حاجة البشرية إلى هذا الدين أهم من حاجاتها المادية، وأن أسباب سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة أتت من لدن حكيم خبير يعلم قصور عقول البشر عن بلوغ الغاية من أسباب خلقهم في الكون أصلا.

   غير أن الإنسان مادي بطبيعته وربما اقتصر همه، وبذل قصارى جهده، وغالب عمره في جمع الثروات، والسعي وراء الشهوات دون بلوغ الغايات، فكانت الرسالة الخاتمة التي أرسل الله تعالى بها رسول من جنس البشر ـ محمد صلى الله عليه وسلم  ـ برسالة إلهية من رب البشر إلى البشر ليبلغوا به ومعه منتهى السعادة الحقة التي يجدونها في هذا الدين الذي يرعى مصالح الإنسانية ويعلم حاجاتها، ذلك أن الإسلام لا تتناقض فيه الربانية مع الإنسانية؛ فالإنسان مخلوق ذو مكانة خاصة، وهو أكرم المخلوقات على الله، ولذا أرسى الإسلام مبدأ "الإخاء البشري" الذي يستند إلى مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة.     

    ولعل هذا ما دفع الدكتور محمد علي المصري لأن يكتب كتابه المكون من ثلاثة فصول، بعنوان: "النظام الضريبي في الإسلام ودوره في تحقيق العدالة"، تناول في الفصل الأول: "الضريبة في الفكر المالي الإسلامي"، وتلاه بالفصل الثاني، وعنوانه: "قواعد العدالة بين الفكر المالي الوضعي والفكر الإسلامي"، ثم اختتم بالفصل الثالث وعنوانه: "العدالة الاجتماعية بين الضريبة والزكاة". وقد ضمت هذه الفصول عددًا من المباحث التي تفرع عنها عددا من المطالب، هذا عدا المقدمة والنتائج والتوصيات، وعددًا من التمهيدات التي أوردها الكاتب في أغلب مباحث الكتاب وفصوله.

   ومعا نتتبعُ العدالةَ عبر فصول هذا الكتاب القيم التي يراها الكاتب أنها تعني مراعاة المساواة وعدم التفرقة، أي مراعاتها في مجال الحقوق، وهي من لوازم العدل، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، فيعلم الفرد أن له حقًا وعليه واجب يجب الالتزم به. ولهذا كان العدل ـ من خلال الرؤية الإسلامية ـ أحد أصول الدين، سواء أكان عدلا تشريعيا أو أخلاقيا، أو اجتماعيا. ومن نواتج تطبيقه نشر الأمان المجتمعي، وتوثيق أواصر المعاملات، وتأثيره الاقتصادي.

   وقد اهتم الكاتب بالعدالة الاجتماعية وتجلياتها في فريضة الزكاة باعتبارها المورد الأساسي في النظام المالي للإسلام، وما ينبثق عن هذا النظام غير الزكاة: الخراج والعشور، كما امتد اهتمامه إلى "الضريبة" باعتبارها مصطلحا يختص به النظام المالي الوضعي، غير أنه يخضعها للدراسة في ضوء النظامين الماليين: الإسلامي والوضعي، ليخرج بحكمه البات: (أن مصطلح الضريبة لا يشبه ما جاء في مصطلحات العشور، أو الخراج، أو الزكاة، لذلك لا يمكن أن نطلق على هذه المصطلحات، كلمة ضريبة).

    لكن هذا لا ينفي أن فقهاء المسلمين تحدثوا عن مصطلح "التوظيف"، وهو ما يتحقق في أن يلزم الحاكم القادرين من المسلمين ماليا، بدفع مبالغ معينة لأغراض معينة مشروعة. وقد استطاع الكاتب أن يحسم الخلاف ـ من وجهة نظره ـ بين من تحفظ من العلماء على مصطلح "الضريبة" ورأى الاكتفاء بـ "التوظيف" لمدلوله الصحيح، وبين من أجاز استخدام مصطلح "الضريبة"، فرأى أنه يمكن الجمع بين الرأيين باستخدام مصطلح "الضريبة الإسلامية" خروجا من الخلاف.

   ولقد أشار الكتاب إلى أن مراعاة العدل شرط من شروط فرض "التوظيف" في وضعه وفي توزيع أعبائه. ويمتد اقتران العدل والمساواة وهما من خصائص الإسلام إلى عالمنا المعاصر عندما تعمل الدول على وضع سياسة ضريبية لها، تعمل على تحقيق أغراضها الاقتصادية والاجتماعية ضمن قواعد قانونية ضريبية يجب على المشرع أن يراعيها في الفكر المالي الوضعي، هذه القواعد التي وضعها مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي وأحد رواد الاقتصاد السياسي: "آدم سميث"، الذي سبقه الإسلام في وضعها قبل ظهوره بعشرة قرون.

  تناول الدكتور المصري مدى تحقق العدالة في قواعد سميث، وهي: العدالة والمساواة، واليقين، والاقتصاد، والملاءمة، كما بين مدى تحققها في القواعد الإسلامية، وهي: العدالة والمساواة، والمبنية على مبادئ ثلاث، هي: العمومية، والوحدة، والكفاءة في التطبيق. وقاعدة اليقين أو التحديد، وقاعدة الملاءمة، وقاعدة الاقتصاد.

    على الرغم من كثرة الكتب والدراسات الأكاديمية التي تناولت مثل موضوع الكتاب  ـ الذي بين أيدينا ـ من زوايا متباينة إلا أن هذا الكتاب فيه من أنفاس كاتبه وجهده الشيء الكثير؛ فقد أنفق جُلَّ عمره في الدعوة إلى الله تعالى، والوقوف على معالم السيرة النبوية بالشرح والتفصيل والتأصيل، حيث شهدت له المنابر وساحات العلم ومنتدياتها حضوره الدائم على مدى عقود من الزمن، ولهذا جاء كتابه بقدر ما خبر من الإحاطة بنظام الضريبة، وتشريع الزكاة في الإسلام ليس لكونها شعيرة تعبدية فقط، ولا لكونها مصدرًا لجباية أموال المسلمين من الأغنياء أو من بلغ ماله النصاب الذي تجب فيه الزكاة خلال العام الهجري، بل لأنها أيضا تؤدي دورًا هامًا في الدولة الإسلامية، كما أنها لا تماثل كافة المؤسسات المالية الحديثة البديلة ولا تقوم مقام الزكاة بأي حال.

  كما أن الاهتمام بدور الزكاة في تحقيق العدالة له أثره الهام في ترسيخ نظريتي التكافل الاجتماعي والإخاء الشامل للأخوة في العقيدة والإنسانية، مما سيؤدي إلى عدم التحايل في التهرب من دفع الضرائب أو الزكاة، غير أن الزكاة مضمونة الأداء كاملة طاعة لله تعالى، وتعمل أحكامها على مقاومة انتشار هذا التهرب وصوره مما يعرف بالراجعية، من خلال النهي عنه، والوقاية منه، وردع من يرتكب مثل هذا التصرف المشين الذي يخل بعدالة توزيع الزكاة.

 وسأضيف من عندي مما لم يذكره الكتاب عواقب عدم تحقيق العدالة الضريبية الشاملة، على النظام الضريبي ككل، وليس على نطاق كل ضريبة على حدة، ومنها: زيادة وتنوع طرق التحايل من أجل التهرب من سداد الضريبة المقررة من بعض الممولين، وثانيا: تنامي السخط العام الذي يؤدي لخروج بعض فئات من الشعب في مظاهرات ما تلبث أن تنقلب لثورات، مثل ثورات الربيع العربي وكان أحد مطالبها تطبيق العدالة، وهو ما سـعت له الدولـة عـن طريـق تطبيـق حزمـة مـن السياسـات الاقتصاديـة كان مـن أبرزهـا إنهـاء سياسـة ضرائـب الدخـل الموحـدة التـي تسـاوي فـي العـبء الضريبـي بيـن أصحـاب الدخـول المتواضعـة وكبـار رجـال الأعمـال.

  ولقد تعرض الكاتب لمفهوم العدل الاجتماعي في الإسىلام، مبينا أن تلك العدالة في الإسلام تمثل قيمة مطلقة وليست نسبية، وأنها واجبة الالتزام دائما، وهنا تفارق المساواة العدالة عند التطبيق؛ لأن إطلاق المساواة وتعميمها سيخل بتكوين المجتمع الذي جعل عماده التوزيع الهرمي، والتنوع في الخبرات، لتسير عجلة الحياة بهذا التنوع والتمايز، وأن تحقيق العدل الاجتماعي من المنظور الإسلامي لا يستند إلى القهر والمصادرة أو التأميم، لكونه ينافي احترام الإسلام للملكية الخاصة وحمايتها، ووسيلته لهذا الاستناد على منهجه التربوي النفسي الداعم لتخليص النفس البشرية من الشح والبخل وعبودية المال، مع اعترافه بالفروق الفردية بين الناس في المواهب والقدرات، والتفاوت المشروع بينهم في الثراء المشروع كما يرى المؤلف.

  على أن دراستي تلك مهما بالغتُ فيها من الإحاطة بمضمون الكتاب لا تفي بما فيه من فرائد وفوائد، ولعل إطلالة على عناوين المطالب لتدل دلالة كافية على ما أشرتُ إليه من جهد الكاتب والباحث، الذي نجح ـ بامتياز ـ في الإفلات من أكاديمية العبارات الجافة، والإحالة على التفاصيل الفقهية الدقيقة، إلى خلق كتاب هو أقرب للقارئ المهتم منه إلى القارئ المتخصص ويجد كل منهما ـ مع هذا ـ بُغيته دون نقصٍ أو تسطيح، في عبارةٍ جزلةٍ سهلة، مع إيراد للأدلة والبراهين التي زاوجت بين النقل والعقل في سلاسة.

   ولعل من سيطالع النتائج والتوصيات سيعلم أن الكاتب قد بذل جهدًا كبيرًا في إمكانية تطبيق ما جاء بكتابه في واقع المجتمع الإسلامي المعاصر، بل بين دور الزكاة في جانبها الشرعي وجانبها المالي والاجتماعي في الإسلام وارتباطها بالعقيدة والإيمان وأن مصدرها رباني نزل مؤيدًا بالوحي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن للزكاة شق تعبدي شرعي وشق اجتماعي لا ينفصلان ولا يتضادان لأن الغاية منهما واحدة وهي الضمان الاجتماعي طبقا للأخوة الإيمانية التي توجب التكافل، كما بين أن الضريبة لا تغني عن الزكاة غير أن فرض الضريبة بشري، أما فرض الزكاة فإلهي وهو ما يوجب الكمال للزكاة.

   هذا كتاب ماتع رائع، حاول فيه كاتبه أن يجعله سياحة فكرية فقهية مالية اقتصادية اجتماعية تعبدية، وازن فيه بين أقوال الفقهاء من القدامى والمحدثين، وأقوال المعاصرين من أهل التخصص في النظام الضريبي المعاصر، وقد جاءت المراجع شاهدة على هذا في مصادرها وكتبها ودراساتها التي ارتكز عليها الكتاب لتشهد بمقدار ما بذل الدكتور محمد المصري من جهد وجب توجيه الشكر والثناء له مِنَّا، والثواب الجزيل من المولى تعالى قبلنا، ونفع الله به وبعلمه الناس كافة. 

جدلية الشك واليقين.. قراءة في ديوان: "شيراز"..

      


                                                             

     



  اختار الشاعر حمدي عطية ـ عن يقين ـ أن يُعبِّر عن الشك الذي يدور في فضاءات تفكيره وحده، وصولا إلى اليقين الكامن في ذاته أيضا، بعيدًا عن تلك التهويمات المتمردة في صبيانية مقيتة، أو حُبا في إثبات التفرد والخروج عن المجموع، شغفا بالظهور، لكنه مبدع يمارس حقه في التفكير والتعبير والإعلان بارتياح عبر مفردات وصور ديوانه الذي عَنونه "شيراز"، الصادر عن مؤسسة يسطرون لطباعة وتوزيع الكتب بالقاهرة، والذي ضم واحدًا وأربعين قصيدة.


 إيحاءات العنوان:


     إن العنوان بوجه عام في الإبداع له أهمية تنشأ عن ترابط علاقته بالنص؛ إذ إن العنوان لا يشكل أي أهمية إذا كان معزولا عن نصـه، ذلك أن العنوان والنص يقعان في علاقة تشابكية، ارتباطية، باعتبار العنوان بنية مرجعية تنطلق منها أغلب دلالات النص، ولهذا اهتم الشعراء باختيار عنوانا جاذبا للقارئ والدارس معا، من حيث تأمله واستنطاقه، للكشف عن بنيته التركيبية، ومنطوقاته الدلالية، ومقاصده التداولية. غير أن الشاعر حمدي عطية أتى معنى "شِيرازُ" ومعناه بالمعاجم: اللَّبَنُ الرائبُ المُسْتَخْرَجُ ماؤُه، وشيراز عاصمة فارس وسادس أكبر مدينة في إيران بعد طهران، وهو اسم لأحد أنواع القطط. وأصل الاسم فارسي. وقد استعمل اللفظ، الشاعر ابن الرومي في قصيدتين له، الأولى بعنوان: "راعَ فؤادي منك ما راعه"، والثانية بعنوان: "زَلِقَتْ في سُلاحها"، واستعمله السري الرفاء في قصيدته: "نطقت بفضل أبي شجاع آية"، وعلي بن محمد التهامي في إحدى قصائد ديوانه، وابن نُباتةَ المصري في قصيدته، "أخا العلمِ إنَّ الشمس بادٍ ضياؤها".


      وإذا كانت الغاية من اختيار عنوان الديوان عند الشاعر حمدي عطية هو الغموض، الذي يستعرض فيه الأديب أو الشاعر قدراته الإبداعية، إلا أن السير "وليام إمبسون" قد حدد سبعة أنواع للغموض في كتابه "سبعة أنواع من الإبهام"، ينطبق النوع الثالث على حالتنا هذه، وهو يقع عندما يتكون النص من مفردات وتراكيب لها معان مترادفة، أو أن يكون معنيين غير مرتبطين ظاهريا، وهو ما يحمله العنوان من معان مترادفة لكنها غير مرتبطة لا ظاهرا ولا باطنا بالنص، وحين بَيْنَ الشاعر معنى العنوان في الديوان لم يجعل العنوان الرئيسي للقصيدة "شيراز" مردوفا بالعنوان الفرعي "اللبنة البيضاء" الذي يمثل جانبا واحدا من معانيها، وأصبحت كلمتا "اللبنة البيضاء" منفصلة عن العنوان تماما لكونها جاءت لترجمة اختارها الشاعر دون غيرها، وهو ما أوقع الدارس والقارئ معا في غيابات من التفسيرات الخاطئة الناتجة عن انفصام العلاقة الارتباطية بين العنوان والنص، وتعدد مفرداتها، وغياب تحقيق المعنى بدقة في النص كذلك.


    ارتاح الشاعر للنثر قالبًا يحمل رؤاه وتصوراته وتساؤلاته في حرية؛ فقصيدة النثر ـ أولا وأخيرا ـ هي مسألة ذاتية، فردانية، بهواجسها وتعابيرها، وبقدر ما تنتمي لنفسها، تتمرد عليها بهذه الذاتية التي تأبى التعميم أو التقنين ... إنها شعرًا يتحرك في فضاءٍ واسعٍ من الحرية الفردية، بلا حواجز، وأي تنظيرات تواكب منجزها الإبداعي تظل أطرا، تحتاج من يتجاوزها كما ينعتها "بول شاؤول" في مقدمته في قصيدة النثر العربية. لذا فهو حر، متمرد، يجهل عن علم، أو يرفض أن يعلم علم المجموع:


إنِّي أتنفسُ


صيفا


في صمتٍ ولهفة


من نار الشتاء


لا أعرفُ معانيَ للأسماءْ


كلها حروف. (المحاكاة، ص36).


       ولهذا فقد جاءت قصائد الديوان النثرية تحترم وتلتزم شروط ومعايير تلك القصيدة من الوحدة العضوية، والكثافة، والمجانية كما حددتها "سوزان برنار" في كتابها "قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن"، فكان لكل نص البناء الخاص به، مستفيدًا من الخاصية الشعرية في تكثيفه اللغوي، متعاليا عن أن يكون مباشرا أو تقريريا، متلافيا التفاصيل، ومجانبا التفسير والشرح والتوضيح والاستطراد، مفتوح الأفق، مشرقا، متوهجا، مستقلا في ألفاظه لا يرتبط بتاريخية الزمن، متغيرا حسب الدلالة، له إيقاعه المتجدد المتعدد، لا يخضع للأوزان العربية المعروفة، وإن لم يخلُ منها عن غير عمد.


    إن حمدي عطية شاعرٌ جاء في ظرفية تاريخية، وجغرافية غير مستقرة، ضجرة بالثبات، ولا تعرف الخصوبة أو الموات على الإطلاق، تنتظر الإشراق خلف العتمات والغيمات، تؤمن بقدومه، وتتشكك في حدوثه، تبشر به، ولا تستيقن وقوعه، تقاوم التشاؤم، ولا تطمئن تماما للتفاؤل، فنبتت على الألسنة الأسئلة، لتبدأ رحلة البحث عن الأجوبة، التي تتولد فيها وعنها ـ قطعا ـ أسئلة، وهو ما ميز قصائد الديوان التي اخترقت خاصرتها الأسئلة، مثلما توسدت نهاياتها، وهذا شأن النصوص المطلقة التي تنتثر عبر الديوان متعددة يجمعها إطار فني متكامل ومتماسك، ومن هذه الأسئلة التي يصعب على سامعها أو متلقيها الإجابة، لكونها واقعة في المنطقة المتأرجحة بين الشك واليقين في جدلية تستشري عبر جملة من المقاطع والألفاظ، ومنها:


      "مَنْ مِنَّا يَحكمُ الأحلامَ ليعطرها بعطر فضائيِ يخلو من المجرات؟" (ارتقاء التزاحم، ص14)، "تُرى هل الجسدُ يفكر بدون تلك الكرة الراسية؟"، "تُرى متى تنتهي المسافات لبيع طاولة الراقصات؟" (انطلاق، ص23)، "كيف يكفُّ الحديثُ عن خيالٍ مجهولٍ؟" (ص51)، "أين أنت؟ أغدًا أنت؟ أاليوم أنت؟ أالأمسَ أنت؟" (فواصل، ص54)، "على خطى ليلٍ يصرخُ .. أين ذهب الضوء؟!" (توغلتُ، ص56)، "هل هناكَ من ضوءٍ يتنسَّمُ الخُوَاءَ شمسًا؟" (همسات، ص66)، "كيف تنمو استكانةُ الصمتِ، وكيف.....؟"، "ماذا رأيتَ أيها الفراغُ؟" (سكوت، ص72)، "اللبنة البيضاءُ .. كيف تعيش على أرضٍ خاوية؟!" (شيراز، ص97).


     تتأكد جدلية الشك واليقين في ذات الشاعر حمدي عطية وفي مفرداته، وفي صوره الشعرية الباذخة، العميقة، المتفردة؛ لكونها نابعة من تجربته المعيشة ومن معجمه الشعري؛ فكمية الألفاظ التي في متناول الشاعر لا تحدد منزلته بين الشعراء، وإنما الذي يحدد مكانته الطريقة التي يستخدم بها هذه الألفاظ، وإحساسه بطاقتها، وإمكانية تعديلها، ووضعها في مكانها المناسب كما يرى "آيفور آرمسترونج ريتشاردز في كتابه "العلم والشعر"، وهو ما نجح فيه كثيرا عطية، مثلما نجح عندما أعلن:


"فالقادم شك.. وليس يقينا" (ارتقاء التزاحم، ص15)، و "أتجول.. أتحول.. أتسول يقيني.. لستُ أنا كـ أنا" (أتجول، ص27، 28). وإذا كانت الأسئلة قد شكلت جانبا هاما في إعلان تأرجح الشاعر بين الشك واليقين، فقد جاء الحوار، الذي تسيد عددا من القصائد، ليوهم القارئ بكونه بين الشاعر وبين الآخر، أو بين الشاعر وذاته، وهو ما يشكل عددا من الحوارات، ومنها: الحوار الداخلي، والحوار الخارجي، وهو الذي يتمثل في حوار حقيقي، وهو ما يعد أحد أهم ما يميز قصيدة النثر في اعتمادها على البوليفونية أي تعدد الأصوات داخل النص بديلا عن الصوت الواحد، وذلك مرده لخسران الشاعر مكانته في الراهنية الزمنية؛ فلم يعد هو المحرك للجماهير الغاضبة، ولا داعيا للثورة على الأنظمة، ولا يمتلك الحقيقة المطلقة القائمة على اليقين، غير أنه قد يكون صاحب لحظة استشراف الآتي الذي يستعصي برؤيته على الآخرين، وهو ما يدعوه للخطاب والكلام، كما فعل الشاعر حمدي عطية حين استعان بعدد من الخصائص الأسلوبية المميزة، أهمها:


الإنشاء الطلبي الذي يفيد الأمر: انتظر، سل نفسك، تذكر، التقطها، أريدكِ أن تتركيني، فكوني، وَدَّعي الإشفاقَ، كن صادقا، كن روحا، انطلق، هيا أيتها السحب انشدي سيمفونية الفراق، قف، غردي، ابتكر، اصرخ، كوني مدى، كوني صدى. وكذلك الأمر بالنداء: يا صوت، يا ليل، أيها السكير، أيها القادم، أيها الوقت، أيها السادة، أيها السائل. والمضارع المقرون بلام الأمر: ليذهب أسيرا، لتسألني.


الإنشاء الطلبي الذي يفيد النهي: لا ترسل، لا تقل أنا، لا تغضب، لا تنزعج، فلا تحدث الربيع بسرك، لا تستمتع، لا تناجي الليل، لا تجعل، لا تسمع، لا تخضع.


الإنشاء الطلبي الذي يفيد الاستفهام: وقد تقدم ذكر الأسئلة.


      على الرغم من أن وظيفة الشاعر لم تعد هي الإجابة على الأسئلة، ذلك أن الشعر عنده قد أصبح سؤالا ملحا لا ينقطع، لأنه لا يقبل العالم على ما هو عليه، ولا يرى أن هناك يقينا يرتفع فوق الشك، فالشيء اليقيني الوحيد لديه هو الشك نفسه، لأنه لا ينسج من شعره قناعا يضعه على وجه الحقيقة، بل يمزق كل الأقنعة، ويقلب كل القيم والموازين، ويجعل شعره نفسه حقيقة ومعرفة، تؤذن بزلزلة اجتماعية، كما قال الدكتور عبد الغفار مكاوي في "البلد البعيد". إلا أن الشاعر حمدي عطية لم يأمر أو ينهي أو ينصح أو يسأل إلا ومعه مسوغ من تعليل.


     لا تنبع لا يقينية عطية من داخله بل جاءت انعكاسا من خيبات وانكسارات وهزائم بعد صولات حياتية، وجولات إنسانية، صادرة من نفس شفيفة مشفقة، لا من ذات متعالية، تحمل ـ من خلال الأمر والنهي ـ التحذير، والنصح بديلا عن المحاولات التكرارية في التجربة والنهاية، فيقدم بعدهما ـ أي بعد الأمر والنهي ـ التبرير والتعليل، دون التفسير، كما في "ارتقاء التزاحم":


لا تُرسلُ الرُّوحَ للفضاء


اِنتظِرْ


سيسلبُكَ إيَّاها


الوقتُ


سَلْ نَفْسَكَ:


مَنْ مِنَّا


يحكمُ الأحلامَ


ليعطرَها بعطرٍ فضائيٍّ


يخلو من المجراتِ؟ (ص14).


     يتعانق الأمر بالنهي في قصيدة "لا تنتحري"، وذلك حين يخاطب الشاعرُ الأشياءَ راجيًا، ومحاولا إثنائها عن غايتها بسوْقِ أدلته من أجل أن يوقظ آخر أو ذاته، أو نفسه الأمارة بارتكاب الفعل، فيقول:


تذكرْ


حين تتأمل الأشياءَ


لا تغلقْ الشاشاتِ عنها


حتى لا تمر من أمامكَ


فمفهومُ الذاكرةِ


وقتٌ قابلٌ للفناءِ


ثم يقول:


لا تكنْ مغامرًا


فأصواتُ الروحِ


غرغرةٌ قابلةٌ للحياةِ


تنعمُ


بما تجودُ به المحفوظاتُ


قلْ لي أيِّ شيءٍ


يلتقطهُ الأغبياءُ


عذرًا


أيتها


الأشياء:


لا تنتحري. (ص26).


      وبعد صراع بين جعبة القفص الصدري ونبض الوريدِ السفلي، وشوق اللقاء بالارتقاء، نحو عبور النفس إلى ملحمة القلب، تطلق همسات الروح نهيا مغلفا بالتحذير، والنذير، مغبة الارتكاس في أوحال ارتكاب الآثام التي تمحو تاريخَ البراءة والنور، وتثبت ميلادا جديدا، دامسا، مغايرا:


لا تدنو


المعاصي تكتبُ


تاريخًا


من ظلام. (ص 59).


   يعانق الأمرُ النهيَ والسؤال في تلاحم ٍمُتتالٍ يظللهم جميعا أجواءُ الشكِ، والخيبات المرتحلات من زمن الشاعر إلى زمن المخاطَبْ الراهن، عبر قصيدة بنيتها متحدة، تساوقت معانيها عبر لغة تعرف وجهتها، لا تهوم في غير فضائها، تفارق الدلالة من خلال بنية تشتعل بالتضادات اللفظية، والحسية، غنية بالمفاجآت، صارخة في جنباتها، هامسة في حوارها حينا:


لا تستمتع بقراءة الوقت


فهناك أكذوبة


اسمُها الشمسُ


لا تناجي الليلَ


لليل ِ صرخاتٌ


ألوانُها باهتةٌ


لا تجعلْ لضوضاءِ القمرِ


خواطرَ لكَ


فللبيت .. الليل عيونٌ


يتباكى لها الفجرُ


أينما كنتَ


لا تسمعْ لأحوالِ النجومِ


حتى لا تقذفكَ الشُّهُبُ


لكي تُحقِّقَ حلمَكَ


اصرُخْ في وَجْهِ الليلِ


فالحلمُ باقٍ


حتى يستيقظ الغافلون


لا تخضع للأقاويل


هناك أشياءٌ


صفاتُها هُمْ


أيها السائلُ


من يقذِفُ الوردَ


فاقدُ الحياءَ. (لا تستمتع، ص 93).


      لا تميل قصائد الديوان إلى الطول، ومرد ذلك اهتمام الشاعر بالفكرة التي تستهدف العقل والفكر ومع هذا فهي لا تغمط حق العاطفة والوجدان، وقد جاء بعضها مكتسيا بالصورة الشعرية المفردة "البسيطة" ومنها المركبة "اللوحة" والصورة القائمة على المفارقة والدهشة، كما لا تخلُ من البراعة الإبداعية للشاعر حمدي عطية في كيفية البناء الفني لتلك الصورة وهيمنته على لغته الشعرية، ومنها: قصائد: "الحلم"، "غردي"، واللوحة الأولى من "شيرازيات".


وهناك من القصائد ما يمكن قراءتها على نحو مغاير من يقين الشاعر بالشك أو تمسكه باليقين المتمسك بالشك، أي في المنطقة التي يرقد فيها يقين يرجو التحقيق، وأمل ينتظر الوقوع، وحلم يسفر عن إرهاص ببشائر القادم الذي يعلن عن مصالحة الشاعر على الحياة ولو إلى حين، حين تتعدد الذات في القصيدة الواحدة أو من خلال العديد من القصائد، التي قد تنفرد بضمير الغائب عن المتكلم، أو بالحديث عن الذات باجتماع الضميرين معا في وقت واحد، خالية من الترقيم، حتى لا تُثقل ـ بدرجة ملحوظة ـ تحليق القصيدة تلك التي لا تتابع بدونه في انطلاقة واحدة رحلتها المجنحة، في رأي "غيوم أبولينير". كما يلجأ الشاعر إلى أسلوب التكرار لبعض الكلمات في بعض القصائد، عن قصد، لتوظيفها بتحقيق أغراض فكرية وتعبيرية عنده.


     لم يكن حمدي عطية الإنسان المحاصر والمستعبد من الزمن، ويستطيع السمو إلى عظمة مأساوية بفضل الشك، كما يقول "إميل ميشال سيوران" في كتابه: "السقوط في الزمن". لكن يقين الشعراء صعب مستصعب، والشك والحيرة ديدنهم ومعدنهم الأصيل. هذا هو ما يفصل الشعر عن التاريخ وعن الفلسفة، وباقي ميادين العلوم الإنسانية، لأن الشعرَ تكذيبٌ للمُعطَىَ المباشر والموضوعي وجدلية تجعل كل ما تثبّته البداهة متحركا، إنه ذلك الطفل المتسائل الذي لا يكلّ، على حدّ قول نيتشه، لأنه لم يخضع بعد لطغيان المعرفة وأحكامها المسبقة على الأشياء، أو إنه تلك "الحرية الحرة" على رأي "رامبو" والمتمردة على وقاحة اليقينيات ومحاولة إلغاء المجهول، كما يقول محمد ناصر الدين.


     ولهذا؛ فقد تنازل الشاعر عن فكرة اليقين في تجربته، ذاهبا إلى فكرة الشك والنسبية، وبات رافضا لكل أشكال المعرفة في معانيها الكلية والمطلقة، التي يجدها في الموروث الشعري؛ فالمعرفة لا تتخلق لديه إلا في لحظة اكتشافه لها، وفهمه العميق لمكوناتها... بحثا عن علاقة جديدة بالوجود من حوله، بحسب رؤية دكتور أمجد ريان "قراءة في التجربة الشعرية".


    وهو ما عبر عنه الشاعر حمدي عطية، من ارتيابه، ووصوله إلى نهايات القصائد المفتوحة على حيواتٍ تجهل أن تضع ـ هي نفسها ـ نقطة الختام، وأقدار تضن أن تمنح الشاعر صَك الأمان، وخَتم النجاة، ووسام الوصول إلى القمة أو النهايات بفخر، فيعلن في مرارة تقطر صورا شعرية رائعة، يضمخها عبق التجربة، ولا يسقط عنها شرف المحاولة، ولو كانت فاشلة:


الحياةُ 


ليل .. قمر


نهار .. شمس


طموحاتٌ واجبةُ العزاءْ. (ارتقاء التزاحم، ص15).


قاموسُ اللغةِ


فارغٌ


فالحياةُ سنيورةٌ


مُتعدِّدَةُ الوجوهِ


تقتلُ الذَّات


والضميرَ نَحنُ


والفراغات. (ارتقاء التزاحم، ص16).


مات الملايينُ


من أجلِ الوصُولِ


للحياةِ


فوصلتُ لها


وحدي


لكي أحَاسَبَ


عليها. (شيرازيات، ص85).


الحياةُ نبضٌ


الحلمُ عِشْقٌ


الأملُ رافعٌ


رايةَ الاستسلامِ


والموجُ


يهزُ عِرقَ الوريدِ


يُبدَّلُ ضحكتي


موتًا


في قلبِ الموتِ


موتٌ


ينتظرُ النجاة. (انتظار، ص64).


      استطاع الشاعر حمدي عطية أن يصادق "قصيدة النثر" ويستثمر شعريتها، سواءٌ على مستوى اللغة أو البناء أو الدلالة، ليشكل ديوانه "شيراز" الموجز، المتوهج، المتعدد إضافة لهذا الجنس الأدبي المتفرد الهوية، المتحرر الطوية، المتجدد أبدا بالتجريب عبر الشكل والفكرة واللغة، والمنفتح على الثقافات، والعقائد، والموروث الشعري، والتراث، والفلسفات، والفنون، والتاريخ والأسطورة، فنجح عطية في تحويل المعاني إلى ألفاظ اعتنى بتشكيلها وجمالياتها لتسكن قلب وعقل المتلقي دون إكراه أو إلحاح، أو تصنع، أو استعلاء، حيث نقل نبض الواقع، وأزمات العصر، ونضال الإنسان، وصراع الشاعر صاحب الرؤية في العبور بقارئه من منطقة الشك إلى رحاب اللا يقين، مع يقينه التام بأنه لا يملك لا راية الانتصار، ولا راية الاستسلام، لسببٍ جوهري يعلنه معتذرًا بعد أن اعتزم الصمت في تمتمات: (الحياةُ ليست من صُنعي، ولا أنا. إذًا نحن والصفرُ إلى المنتهى.. قائمةُ حسابٍ: فلا شروقَ .. فلا غروبَ. فالأملُ.. أن نرى ضِياء).



الاثنين، 8 مايو 2023

أمسيات لا ينقصها الدفء..

 



  سيعيش القارئ عند قراءته لكتاب: "همسات دافئة" من سلسلة تحمل عنوان: "بلا هوية" للدكتورة ماري جرجس رمزي متعة فكرية وأدبية ماتعة، استطاعت فيها الكاتبة أن تجمع كل ثقافتها المتنوعة في الحياة سواء على سبيل المعتقد أو بالمعايشة الحياتية، والخبرات الذاتية، والتخصص العلمي، والذائقة الأدبية التي تتبدى في الجمل والكلمات وتصبها في مقالات لا تغيب عنها الجملة الرشيقة، واللفظة الدقيقة، والعبارة المحكمة.

    نجحت الكاتبة أن تخاطب العقل والقلب والروح والنفس؛ فقد أضفت على مقالاتها، العديد من الأفكار الجديدة، سواْ من حيث التناول أو من حيث سبكها داخل معانٍ طريفة فأكسبتها نكهةً ومذاقًا لم تألفها الأفهام والآذان من قبل، ولعل من سيطالع مقالتها "الهروب الكبير" التي يستدعي عنوانها فيلمًا شهيرًا من كلاسيكيات السينما العالمية، ومن لم يعرف الفيلم سيظن المقال ـ ربما ـ يحكي مغامرة أو قصة بوليسية، لكن الكاتبة تحول الموضوع برمته عن هذا المسار فتفاجئ القارئ بأن الهروب الكبير هو الهروب إلى الله تعالى مهما حول الهارب أو الفَار أن يهرب منه في كل بقاع الأرض؛ إذ به يفرُ إليه.

   سيدهش القارئ وهو يرى هذه المغايرة في المعنى للكلمة التي تسوقها الدكتورة ماري داخل مفهومها العلمي/الاصطلاحي، وبين ما تريده هي منها في مفهومها الإجرائي، وقد فعلت هذا مع كلمة "الغيبوبة" باعتبارها حالة عميقة من فقدان الوعي يكون الإنسان خلالها على قيد الحياة لكنه لا يستجيب للعالم المحيط به، لكن الكاتبة تنقله من المعنى الطبي إلى المعنى الاجتماعي حين ترى الغيبوبة هي قلة الإدراك، ونقص الوعي، والاستسلام بلا وعي لمن يقود حياة ذلك المُغَيْب كما يشاء، ومن ناحية أخرى في أكثر من مقال تبين الكاتبة أن هناك فارقًا بين الوعي وتحصيل الشهادة العلمية، ذلك أن (رجاحة العقل واتساع مداركه وعلمه ليس له أي علاقة بالشهادات العلمية أو المراكز الاجتماعية)، وهذه نظرة متوازنة وواقعية معًا لما نراه من ممارسات يومية.

   تمتلك الدكتورة ماري أدواتها ببراعة، وتعي جيدًا ما تريد أن تقوله مسبقا في مقالاتها؛ فهي لا تمسك بالقلم يغريها عددًا من الجمل تبسطها مع شيءٍ من التهويم في الخيال وحسب، بل  سيدرك من يتابعها براعة الاستهلال وحرفية الختام وبينهما كلام متزن يستحق من قارئه المتابعة، خاصة وأن الترهل الأنثوي ـ المعتاد أحيانا ـ في العبارات يغيب عن السياق، بل تتوافر العقلانية في سوق الحجج المنضبطة.

     لا أستطيع أن أحسب المقالات الواردة في  الكتَّاب على النوع المعروف من موضوعات التنمية البشرية وإن كانت لها منها نصيب ولا شك، وذلك للفارق بين أساليب من يؤلفون تلك الكتب التي تحاول أن تحنو على من تخاطبه، وبين أسلوب الدكتورة ماري الذي يتسم ـ أحيانا ـ بالنقد والهجوم الشديدين مما يعني أنها أيضا "مصلح اجتماعي"؛ فتارةً تخاطب الفرد، وتارةً تخاطب الوالدين، وتارة تخاطب الشخص المَعني بموضوعها، وفي كل هذا تبين الحقيقة وتكشف الادعاءات الواهية والحجج الباطلة، وقد هذا كان واضحا حين خاطبت الملحد، وتحاورت معه ولم تتهمه وحده بل اتهمت نفسها والناس جميعا، وأقرت بأنها مدينة له: (نعم، سأعيش مدينة لك يا صديقي، فأنت  ـ وأنت وحدك ـ بروعتك وجبروتك وبراعتك تكفي لتجعل العالم كله لا يشك لحظة في وجود الله!).

   تأتي مفاجآت عناوين مقالات الكتاب من المفارقة التي تصنعها الكاتبة ببراعة بين الاتكاء على مغازلة عقل القارئ بعنوان يتوقع أن يستشف ما وراءه، فتفاجئه هي بما لا يمكن معه أن يدرك أن تخمينه جاء صحيحًا حول موضوعه ومراميه من قبل أبدًا، ومن هذه العناوين: (سيرة الحب)، و (القرد والأسد) و (الصرصار)، ففي "سيرة الحب" تترك الكاتبة الحديث للحب أن يتكلم نافيًا وجوده في مجتمعات تحتفل وتحتفي به وتخصص له عيدًا، وفي قصة "القرد والأسد" يأتي الموضوع داخل سور حديقة الحيوان والمقصود به الناس من خارج السور، وكذلك مقالة "الصرصار".

    إن الذي يجب التأكيد عليه أن الدكتورة ماري قد خلقت لنفسها ـ بحق ـ أسلوبًا خاصًا بها، وتناولت موضوعات جديدة بعيدة كل البعد عن السرد الممل، أو عن الخواطر الذاتية الجوفاء، بل كل مقالة وراءها فائدة وغاية وحكمة، لا تكتفي الكاتبة بعرض المشكلة ثم تُنفِض يديها منها بل تُسهِم في تقديم الحلول والعلاج. إن هذا الكتاب يحتاج إليه كل فرد وكل أسرة وكل مجتمع، ولهذا فمن الواجب أن تعمل الكاتبة على ترجمته أيضا، على أمل أن تهتم بوضع عناوين ذات دلالة للأجزاء التالية، ذلك أن "أمسيات دافئة" يوحي بكونه شعرًا أكثر منه موضوعات أدبية وعلمية واجتماعية مفيدة، وسيكون لهذه السلسلة شأن وأي شأن في قابل الأيام إن شاء الله.