الخميس، 28 سبتمبر 2017

الكون والإنسان في التكوين والقرآن في ضوء مقارنة الأديان (WORD)






من الزوايا الهامة التي تبرز الاختلاف الجوهري بين الإسلام واليهودية والمسيحية هو تصوره لخلق الكون وخلق الإنسان والذي يثبت للدارس المحايد أن التصور الإسلامي هو التصور الأصوب والأدق على مستوى النصوص المقدسة الواردة بالكتب السماوية السابقة عليه، وهو ما يثبت أيضًا أن القرآن الكريم هو كتاب الله العزيز المهيمن على كل الكتب السابقة عليه، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
  وليست الغاية القصوى من ذكر آيات الخلق والكون في القرآن الكريم تكمن في الدلالة على صحة ما جاء فيه، بل الغاية منه هو الوقوف على مدى التحريف الذي امتد إلى الكتب المقدسة قبله والتي نالت من مصداقيتها وصحتها، وذلك الذي يتغياه الباحث من تطبيق أدوات علم مقارنة الأديان طبقًا لضوابطه العلمية المنهجية المحايدة والصارمة التي لا تنحاز إلا لصاحب الحجة والبرهان والدليل على صحة ما يذهب إليه.
  ومن العلوم الهامة التي سبق إليها علماء الإسلام علماء الدنيا هو علم مقارنة الأديان وهذا ما قد يغيب عن بعض المسلمين وينسبون الفضل في وجوده إلى بعض علماء الغرب، ومن هنا وجب أن نلفت الأنظار إلى هذا المنحى الذي يتشابك مع موضوع الكتاب في إلقاء الضوء على هذا العلم.
  وسأقتصر في هذا الكتاب على إيراد قصة الخلق للكون والإنسان كما جاءت لا في التوراة والإنجيل معًا وليست في كل أسفار العهد القديم كلها بل سأقتصر على ما ورد في سفر التكوين من التوراة، وكما وردت في القرآن الكريم، من خلال منهج التحليل المقارن.
  وإذا كان القرآن الكريم قد تناول نفس الموضوعات التي ذكرتها التوراة إلا أن التناول والمعالجة مختلفان جدًا؛ إذ كل ما ورد في التوراة عن قصة خلق السموات والأرض إنما جاء في سفر التكوين عبر عدة آيات، ولم تذكر التوراة قصة الخلق بعدها، بينما لا يذكرها القرآن الكريم كرواية كاملة، إنما يذكرها في مواضع مختلفة تقصها بتفاصيلها وترتيب الخلق فيها.
  سيتضح بعد هذه المقارنة موازنة الفرق بين النصين القرآني والتوراتي، مدى موافقة القرآن الكريم لآيات هذا السفر بالتصديق أو التكذيب لما جاء فيه، أو سكوته عنها وذلك إشارة منه إلى عدم تصديقها.
  والله أرجو أن يجعل ما كتبته نافعًا للإسلام والمسلمين، وأن يقنع أصحاب العقول والقلوب التي تبحث عن الحق أن تهتدي إليه، كما اهتدى إليه فطاحل علماء الغرب في ميادين العلوم المختلفة، ومنهم من أسلم، ومنهم من أقر للقرآن الكريم بالأسبقية وإن لم يسلم.

                                   المؤلف 







الكون والإنسان في التكوين والقرآن في ضوء مقارنة الأديان (WORD): pa href='http://www.alukah.net/Books/Files/Book_10178/BookFile/humman_Universe.docx' target='_blank'img style='display: block; margin-left: auto; margin-right: auto;' title='الكون والإنسان في ...

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

الهجرة النبوية: المقدمات والنتائج..



كانت للهجرة النبوية العديد من المقدمات، غير أن الذين يدرسونها يعولون فقط على جانب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان ترتيبه لها استباقًا وليس أمرًا اختياريًا منه صلى الله عليه وسلم، ولا يعولون على جانب الخصم للدعوة الإسلامية في مهدها وهم كفار مكة، ولا للأساليب التي مارسوها لكي تكون دوافع لفعل أيًا ما كان هو هذا الفعل، والأقرب لتصورهم هو عودة الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته وفض الناس من حوله من الذين آمنوا معه، وبالطبع لم تكن فكرة الهجرة ماثلة في أذهانهم، وانصب ذكر ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من جانب من يؤرخون للسيرة النبوية المطهرة في تبيين مدى ما قاساه وعاناه الرسول صلى الله عليه وسلم من صنوف التعذيب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية فقط.

كانت مقدمات معسكر المشركين تتمثل في تقديم حزمة من الإغراءات التي تمثلت في جمع المال للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون أكثر سادة قريش مالاً، أو تنصيبه سيدًا أو ملكًا عليهم، أو علاجه بالطب إن كان قد أصابه مس من الجن، فلمَّا لم يستجب الرسول صلى الله عليه وسلم لمغرياتهم.


لجأوا إلى أسلوب التعجيز والمطالب التى يحاولون فى نهايتها إن لم يستجب لهم أن يشنعوا عليه بالادعاء الرخيص بأنه لا يملك مقومات النبوة ولا براهينها، وبذلك يصرفون عنه من آمن به أو من سيؤمنون به، وقد سبقت تلك المحاولة الفاشلة محاولة أخرى من سلسلة محاولات الإغراءات والعذاب التي لقيها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل محاولة أشراف قريش في الضغط علي عمه أبي طالب بعد ما استيئسوا من إثناء بــن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وقالوا له: (يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنــــا وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك علي مثل ما نحــــن عليه من خلافه فنكفيكه).


ولن ينسى لهم التاريخ محاولتهم اللا إنسانية في استبدال الرسول صلى الله عليه وسلم بعمارة بن الوليد بن المغيرة الذي أعدوه ليكون ولدًا لأبي طالب باعتباره أشد وأقوي وأجمل فتىً في قريش، وذلك شريطة أن يسلم عمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلونه.

هذا غير محاولة أبى جهل قتله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي، ثم زادت قريش من سعير الحرب على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.


لقد أحسوا أن مهمتهم في وأد الدعوة إلى الإسلام تزداد صعوبة خاصة وأنهم جربوا كافة الأساليب التى تقضى عليها وعليه صلى الله عليه وسلم من سخرية وتحقير واستهزاء وتكذيب وتضحيك بُغية التهوين منه وصد الناس عنه لإبعادهم عنه وعن دعوته، ثم طوروا الأداء فأطلقوا الشبهات حوله صلى الله عليه وسلم حيث رموه بالكذب حينًا، وباتصاله بالجن والشياطين حينًا هذا غير إدعائهم عليه صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر أحياناً أخرى، ثم أغروا سفهاءهم فكذبوه وآذوه، وغمز أشراف قريش له أكثر من مرة بالقول وهو يطوف صلى الله عليه وسلم، وأنقذه ذات مرة أبو بكر الصديق عندما قاموا عليه قومة رجل واحد.


اختلفت المقدمات عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن همه معاداة قريش بل هدايتهم، ومسالمتهم، غير أنه كان يعلم مدى إصرارهم وبأسهم وعنادهم وتشبثهم بالكفر، فعرض الإسلام على القبائل في السنة الرابعة من البعثة، ثم استأنفه في العام العاشر من البعثة أثناء موسم الحج غير أنه كان يطلب إلى جانب الإيمان بالله الواحد المؤازرة والنصرة والمنعة من القبائل التي ستدخل في الإسلام، وكان ما كان من إسلام ستة من أهل يثرب ثم أحداث العقبتين الأولى والثانية، وسفارة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة لتعليم أهلها شرائع الإسلام ونجاحه في مهمته، وهجرة المسلمين من أهل مكة بعد تمام بيعة العقبة الثانية، ولم تفلح محاولات قريش في ردهم دون الخروج.


أحس معسكر المشركين بالخطر الجسيم في قيام كيان إسلامي يعترض طريق تجارتهم، فاجتمعوا في دار الندوة واستقر أمرهم على أن قتل نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو الضمانة الوحيدة لانتهاء هذا الأمر برمته، فأبلغ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دار.


من هنا وجب العلم أن الهجرة كانت قرارًا لا فرارًا، وكانت اضطرارًا لا اختيارًا، وكانت أمرًا إلهيًا واجب النفاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بيَّن الأمين جبريل للرسول عليهما السلام كيف تدار الأمور للخروج الآمن من قبضة قريش الآثمة.
كانت هذه المقدمات من كلا الجانبين والتي كان لابد أن تنتهي إلى الهجرة التي كان من نتائجها: إقامة الدولة الإسلامية الوليدة بالمدينة المنورة، إقرار التعايش السلمي داخل أطر المواطنة طبقًا لصدور صحيفة أو وثيقة المدينة التي مازال العالم يشيد ببنودها التي فاقت الخمسين بندًا، كشفت نفسيات اليهود الموتورة الحاقدة على العرب وعلى المسلمين خاصة، وأنهم قوم بهت ينقضون العهود والمواثيق، فكان لابد من إجلائهم عن المدينة التي تسللوا إليها ولم يكونوا من أهلها، الإعداد لفتح مكة ودخولها بعد ثماني سنوات دخول الفاتحين من أهل المرحمة دون عقد محاكمات، أو انتقام، أو إقصاء، أو سلب أو نهب، انتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها من اليمن والبحرين وغيرهم، نفي كافة مظاهر الشرك والكفر التي كانت تدنس الجزيرة العربية.


لقد كانت الهجرة النبوية أمرًا إلهيًا، وسنة من سنن الأنبياء السابقين على الرسول صلى الله عليه وسلم ينجون بأنفسهم ومن معهم حفاظًا على تبليغ دعوة الله إلى الناس، كما كانت عملًا استراتيجيًا يعلم الأمة الإسلامية كيف يكون الإعداد، والتخطيط، ونبذ التواكل بتمام التوكل على الله تعالى، ونبذ العشوائية، والأخذ بالأسباب، وبالأحوط، كما أنها تعطي للمسلم الحق في النجاة بدينه وأهله وماله إذا وجد العنت والمشقة في الأرض التي يقيم فيها، ومازالت أحداث السيرة النبوية العطرة عامرة بكل جديد ومفيد لمن قرأها بقلب وعقل ويقين. 

حوار حول الأمازيغية مع الشاعر الباحث عادل سلطاني




الشاعر الجزائري الكبير عادل سلطاني، والباحث في علم الإجتماع من مواليد مدينة بئر العاتر ولاية تبسة عام 1967م، وهو شاعر يكتب بالعربية الفصحى، والأمازيغية، والفرنسية، إنه الرابض في أرض اللغات التي يرعاها بعين المحب العادل، فيتقن العربية، ويتجذر في الأمازيعية، ويتحدث الفرنسية، كما يكتب العامية، فلا يجد غضاضة في ذلك، ولا عوجًا ولا أمتًا، كما أنه لا يتحدث بتلك اللغات وحسب بل ينتجهم ثمارًا من الشعر الجيد، يسعدني أن ألتقيه عبر صفحات ذي المجاز، وأخصص هذا الحوار فقط عن الأمازيغية اللغة والتاريخ والثقافة، وما يتصل بها، فلنبدأ معًا:
ـ كيف تستطيع الأستاذ عادل سلطاني كباحث أن تقدم لنا الأدب الأمازيغي نحن أبناء المشرق؟ خاصةً ونحن الذين وأدنا اللغتين القبطية والنوبية لصالح العربية، وننظر إلى بروز الأمازيغية ـــ لقلة معرفتنا ــ بأنها ربما تشكل تهديدًا للعربية؟
ــ مشكور أستاذنا الفاضل الأديب المتميز السيد إبراهيم أحمد على استضافتك لي في هذه الفسحة الحوارية الممتعة المضيفة التي أتاحت هذا التواصل المثمر القارئ معية ذاتك المبدعة المثقفة لأبدأ رحلة ‏الغوص الممتع لسبر غور أسئلتك العالمة العارفة العميقة.
 مازلت أذكر حينما سألني الأستاذ الشاعر ‏السوري الصديق حسن إبراهيم سمعون: ماالفرق بين "التيفيناغ" والحرف الدراج الآن، ‎وحبذا لو بطرح ‏مقارن، الأمازيغ أمة وشعب له الحق بتراب، ووطن، ولغة؟‎
 فأجبته: بأن‎" ‎التيفيناغ" هو الأبجدية الأمازيغية التي دونت بها هذه اللغة الممتدة من جزر الكناري بإسبانيا ‏مرورًا ببلاد "تمازغا" الواسعة بمغاربها الثلاثة الأقصى والأوسط والأدنى مرورًا بليبيا إلى واحة سيوة بمصر إلى ‏الصعيد الذي تقطنه قبائل هوارة إلى الهجرات الكتامية الأمازيغية المختلفة أثناء فترة حكم الدولة الفاطمية ‏وهذه الحروف منحوتة في أكثر من موضع بالشمال الإفريقي في مناطقه الشمالية المختلفة والجنوبية ‏بالصحراء الكبرى، وأمة الطوارق الأمازيغية هي الوحيدة التي استمرت في الكتابة بهذه الأبجدية العريقة ‏إلى يومنا هذا.
 وفي هذا الصدد أشارت الباحثة الجزائرية مليكة حشيد بأن هذه الأبجدية قديمة قدم ‏الإنسان الشمال إفريقي، وهناك من الباحثين من يرجعها إلى سبعة آلاف سنة قبل الحاضر وهي امتداد ‏للحضارة القفصية نسبة إلى إنسان قفصة الماقبل تاريخي وكانت هذه الكتابة تزخرف المصنوعات الفخارية ‏التي أنتجها هذا السلف القديم بعبقرية فذة ولازالت هذه الرموز الموروثة من الأسلاف تنتج بذات الطريقة ‏القديمة بكامل تراب الشمال الإفريقي وعليها نفس الزخارف القفصية القديمة.
 إن المتتبع لظاهرة الوشم ‏العريقة القديمة كظاهرة عقدية طقوسية دينية لدى النساء الأمازيغيات، وأنا واحد من المتتبعين حيث ‏وجدت أن أبجديتنا الأمازيغية حفظتها أجساد النسوة‎ "عجائز الجيل الماضي الذي بات على عتبة ‏الانقراض والزوال"، وغالبية الحروف موشومة على أجسادهن لا سيما الوجه والأطراف والأرجل، ‏كممارسات طوطمية قديمة، والتيفيناغ أيضا يسجل حضوره في الصناعات التقليدية الأمازيغية على غرار ‏المنسوجات الصوفية بأنواعها المختلفة إضافة إلى صناعة الحلي الفضية إلى تزيين الأواني الفخارية، كما ‏نجده حاضرًا على أجسام الخيول البربرية البيضاء المستعملة في رياضة الفروسية الأمازيغية المنتشرة في بلاد ‏تمازغا الواسعة بمغاربها الثلاثة أو ما يعرف بالفنتازيا مكتوبا مرسوما بالحناء على أجسادها الجميلة الرشيقة ‏الناصعة ، حيث وجدت أن هذه الظاهرة الوشمية حفظت غالبية الحروف الأمازيغية بشكلها التيفيناغي ‏العتيق، أما الحرف الدارج الآن فهو تيفيناغ حديث مستمد من القديم الذي اشتغل على معيرته المعهد ‏الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب أي أنه أبجدية ممعيرة دخلت إلى لوحة المفاتيح ويمكن الكتابة بها الآن ‏كأبجدية للغة الأمازيغية لأن هناك مخارج حروف في الأمازيغية التي تبلغ ثلاثة وثلاثين حرفا لايمكن أن ‏يستوعبها بشكل صحيح إلا التيفيناغ، وإنما كتابتها باللغتين العربية والفرنسية فيندرج ضمن إطار تسهيلها ‏على القارئ وحسب‎ ‎أثناء عملية التلقي.
 من البديهي الساري السائد فإن اللغات كما نعرفها نحن ‏المسلمون آيات من آيات الله وكلها أوعية نتاجية بشرية للتواصل ناقلة للوحي الرسالي السماوي، وكل ‏لبنة لغوية في هذا الجدار اللساني الإنساني تؤدي إلى تماسكه، ولا أشق على نفسي من هلاك لسان ‏واضمحلاله لأن ذلك يعني هلاك لبنة منه تؤدي في آخر المطاف إلى تصدع جدارنا اللساني الإنساني ‏ومن ثمة انهياره وسقوطه وعلى كل حصيف عاقل ذي لب أن يتصور حجم الخسارة بزوال هذا اللسان ‏أو ذاك.
 ومن المهم بما كان فإن الأدب الأمازيغي شكل على مر التاريخ ولا يزال يشكل ذاكرتنا الجمعية‏، فهذه الظاهرة الأدبية الاجتماعية مازالت عالقة بالمخيال يحاول من خلالها المبدعون في هذا الفن أو ‏ذاك نثرًا أوسردًا أو مثلاً أو أغنية أو شعرًا تخييل الواقع المعيش بكل حيثياته وتفاصيله فنجد الإنسان ‏الأمازيغي يعيش في محيط واسع من العلامات التي مازالت تشغل فكره مشكلة منظومة علاماتية اتصالية ‏على رأسها اللغة ناحتة بذلك هاجسه الإبداعي والوجودي والاجتماعي في تعاملاته اليومية الحياتية ‏السارية في المحيط الذي يشغله ، فلاتزال هذه الأرصدة الثقافية تثري لغتنا الأمازيغية المطبوعة المختومة ‏بالظاهرة الشفوية المستمرة في الزمان والمكان؛ فلغتنا قاومت شتى عوامل الذوبان وخرجت منتصرة ‏بسمتها الشفوية التفاعلية كعملية اتصالية أوصلت لنا عبر المجايلات المختلفة هذا الأدب الجم الذي ‏لايمكن لنا إلا أن نصفه بالظاهرة المقاومة لشتى أنواع التلف.
ــ هل معنى هذا أنك تنتصر للشفاهية السابقة على الكتابية كحافظ وموصل للتاريخ واللغة الشاعر والباحث الكبير؟

 ــ لست بهذا الصدد أنتصر للظاهرة الشفوية ‏وإنما أذكر ميزاتها وفضلها في حفظ الهوية الأمازيغية من الاندثار والتلاشي والانقراض وإنما لابد من ‏ممارسة الظاهرة التدوينية في حفظ هذا الإرث الأسلافي الذي يجب أن لا نقف عند مقاومته المستمرة في ‏الفضائين المكاني والزماني مكتفين بهذا المجد المكتسب، وإنما يجب علينا كحملة لهذه الرسالة الهوياتية أن ‏نطور لغتنا في ظل التطورات السريعة المتلاحقة التي يعيشها العالم من حولنا ولانكتفي بأمجاد الماضي ‏وحسب ولكن يجب علينا أن نجعل هذا الإرث قاعدة نحو الانطلاق لتطوير اللغة على جميع الأصعدة ‏حتى نتبوأ مكانتنا اللائقة بين شعوب المعمور لنضيف لنا وللإنسانية هذه اللبنة الأمازيغية لتساهم في ‏الحضارة الكونية، فكما يقول المثل الصيني: "حبر ضعيف خير من ذاكرة قوية"، فكم فقدنا نحن ‏الأمازيغ من ذاكرات حفظت لنا تراثنا وأدبنا ..
ــ السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا فعل أهل القلم من المبدعين الأمازيغ في سبيل إحياء لغتهم وأنت واحد منهم الشاعر والباحث الكبير عادل سلطاني؟
ــ المبدعون الأمازيغ اليوم يشتغلون على إحياء لغتهم ‏الأم التي فطرهم الله عليها وتطويرها حيث تم إدخال الأبجدية الأمازيغية المعروفة بتيفيناغ التي طورها المعهد ‏الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب في لوحة المفاتيح بعد أن اشتغل على معيرة اللغة لتصبح الآن في ‏متناول الراقن على الحاسوب، وهذا الحدث الهام في مسيرة تطوير الأمازيغية أتاحته التقنيات الاتصالية ‏الحديثة في مجال الحوسبة والمعلومات، وبعد سنوات مريرة وطويلة من النضال الأمازيغي من أجل ‏الاعتراف بالهوية الأم لشمالنا الإفريقي المسمى "تمازغا" أو كما كان يسميه الفراعنة المصريون "أمينتي" أي ‏عروس المغرب حيث أدى هذا النضال إلى الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية وطنية في الجزائر تدرس ‏في المدارس بأطوارها المختلفة من الابتدائي إلى الجامعي وحذت مغاربنا الثلاثة حذو الجزائر مطالبة ‏أنظمتها بدسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية ولم يؤت النضال أكله إلى حد الآن في الدول الثلاث ‏رغم ضغط هيئات المجتمع المدني على غرار المنظمات والجمعيات الفاعلة سواء كانت حقوقية أو ثقافية ‏لافتكاك هذا الحق الشرعي العادل.
ــ فما المشكلة إذن وقد تم الاعتراف بالأمازيغية كالعربية تمامًا بتمام؟
ــ المشكلة في الأساس ليست مشكلة تعايش لساني لغوي، وإنما ‏المشكلة الحقيقية تتمثل في الأنظمة السياسية القمعية وشوفينيتها المتطرفة جراء غياب المناخ الديمقراطي ‏الذي يكفل الحريات للجميع وحينها ستعيش الألسنة متناغمة متساندة متآزرة فيما بينها متكاتفة تعضد ‏بعضها بعضا لتحقيق آية الاختلاف اللساني الرباني المعجز فالهوية اللسانية الإنسانية في حقيقتها الفطرية ‏الجبلية متشكلة من فسيفساء جميع الهويات المبثوثة في هذا النسيج اللساني الاجتماعي أو ذاك، ‏فالظاهرة التدوينية الأمازيغية قديمة قدم الكتابة وارتباطاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تمازغا الواسعة السعيدة ‏من جزر الخالدات بإسبانيا إلى واحة سيوة المصرية، حيث التفت المثقفون المبدعون بهذا اللسان الأم إلى ‏نشر إبداعاتهم المختلفة شعرًا وسردًا بمختلف أنواعه بالحرفين العربي واللاتيني والتيفيناغي إضافة إلى الدراسات الأكاديمية والرسائل ‏والأطروحات الجامعية والترجمة من اللغات إلى الأمازيغية ومنها إلى العربية والفرنسية وغيرها من الألسن، ‏فالأدب الأمازيغي لم يكن يومًا منكفئًا متقوقعًا على ذاته يرفض الاختلاف والآخر بل يساهم ما وسعه ‏الجهد إلى تعريف الآخر بهذا الإبداع والانفتاح على العالمية في زمننا العولمي المعيش بكل تغييراته السريعة ‏المتواترة، فكما يقول توماس فريدمان: "أصبحنا في عالم مستو أنت لم تبدأه ولا تستطيع أن تنهيه". راميًا ‏من هذه المقولة الرجراجة الهلامية إلى فتح قوسي الهيمنة الثقافية الأمريكية على العالم وسبكه في ثقافة ‏واحدية ينتهي عندها التاريخ.
ــ معنى هذا أن هناك خطر ما يحيق بالأمازيغية، أو بشكل آخر أنت تقصد "العولمة"؟
 ــ نعم، ولهذا كان على المبدع الأمازيغي أن يراعي الانفتاح على العولمة دون ‏التفريط في أدق الخصوصيات الأمازيغية التي تعكس هاجسنا الهوياتي الممتد في الزمان والمكان أما فيما ‏يتعلق بتقديم أدبنا الأمازيغي لتعريف أبناء المشرق بهذا الإبداع المختلف فإن الترجمة إلى اللغة العربية هي ‏همزة الوصل لكي نتواصل والقارئ المشرقي ومن خلال احتكاكي ببعض الأصدقاء المشارقة من مصر ‏وسورية ‏الذين طلبوا مني ترجمة نصوصهم الشعرية إلى الأمازيغية على غرار صديقي الشاعر السوري حسن ‏إبراهيم سمعون وصديقي الدكتور عزت رمضان الخطيب المصري الذي أجابني من خلال رده على ترجمتي ‏الأمازيغية لقصيدة المخيم لشاعرنا الفلسطيني الراحل الصديق طلعت محمود سقيرق: "هذه أول مرة أقرأ ‏فيها شعرا باللغة الأمازيغية وأدهشني وشعرت بالتقصير أيضا عندما رأيتها تكتب بحروف عربية ووجدت ‏فيها موسيقى من نوع خاص لتراث إنساني أظنه يحارب من أجل البقاء على قيد الحياة.
 ــ هنا يكون ‏التساؤل أخي الكريم الباحث الكبير عادل سلطاني عن دوائر الانتماء اللغوي والقومي وهل تتعارض مع الانتماء القومي الأوسع للقومية العربية؟
ــ ‏أنا أرى أن اللغات والقوميات المحلية هي إثراء لتراثنا القومي العربي والإسلامي والعالمي وواجبنا نحوه أن ‏نثمنه غاليا ." وكان ردي عليه لأنقله للقارئ الاتحادي كما هو في هذه الفسحة الحوارية العاقلة القارئة ‏الواعية: "أهلا بالحبيب الغالي، أسعدتني لمستك الخطيبية الدافئة أيهذا الشاعر الندي الإنسان، وأيضا ‏قراءتك الواعية القارئة العاقلة لواقع الانتماء اللغوي المحلي الإقليمي ومدى تناغمه مع الانتماء القومي ‏اللغوي الأوسع، فتساؤلك صائب وفي محله فالواقع اللغوي الأكبر الأوسع هو محصلة هذا الواقع اللغوي ‏المحلي أو ذاك، فأنسجتنا اللغوية المبثوثة من المحيط إلى الخليج لابد أن تشكل تناغمًا ــ وهي كذلك‎ ــ ‎على سجيتها الفطرية الجبلية الاجتماعية، وآية الألسن واختلافها دليل قرآني رباني يعكس إنسانية وكونية ‏ناموس التناغم الفطري هذا الذي جعل الألسن المختلفة آية تتعايش في ظلالها كل الألسن في انسجام ‏وتناغم، ولكن الضعف البشري وانحرافه عن الجادة الفطرية السوية يجعل من هذه الآية المعجزة الخالدة ‏مثار جدل وتصادم تحركه أياد خفية شيطانية تحرف الآية الفطرية عن مسارها التناغمي، واللغة ‏الأمازيغية على غرار اللغات الشرقية الأخرى تعتبر أختا للغة المصرية القديمة فهما من العائلة الحامية ‏السامية كما شاع في أدبيات الألسنيين.
ــ دعني أسألك عن تجاور اللغتين العربية والأمازيغية وأنت تجيدهما وتبدع فيهما؟
 ــ اللغة الأمازيغية كما اللغة العربية من حيث سيولة الاشتقاق ‏ثرية جدًا، وأول ترجمة للقرآن الكريم كانت باللغة الأمازيغية وبإمضاء الخليفة الموحدي "المهدي بن ‏تومرت" لقبائل "المصامدة" الأمازيغية في جبال الأطلس الشاسعة أثناء الحكم الموحدي، والفعل الترجمي من ‏العربية إلى الأمازيغية قديم ومستمر لدى قبائل الشمال الإفريقي، ولم يمر نصف قرن بعد الفتح الإسلامي ‏لبلاد المغرب القديم حتى أتقن الأمازيغ اللغة العربية لقربها من اللسان الأمازيغي بينما لم تؤثر لغة الرومان ‏ودينهم رغم بقائهم زهاء ستة قرون في الشمال الإفريقي.
ــ ينبغي أن أعيد سؤالي الذي أوردته في المفتتح: هل تشكل الأمازيغية ـ اللغة ـ تهديدًا أو خطرًا على اللغة العربية شاعرنا سلطاني؟
ــ هذا اعتراف شجاع في سؤالك لا يصدر إلا ‏من مشكاة ذات متصالحة مع نفسها تقدم على المساءلة الناقدة الواعية أستاذنا الحبيب..
 لم تكن ‏الأمازيغية يوما تشكل خطرًا لسانيًا على أي لسان كان بشكل عام وعلى اللغة العربية بشكل خاص لأن ‏هذا الخوف في الحقيقة مبطن بدعاوى إيديولوجية قومية وبعثية واهية ضيقة جدًا تحسب كل صيحة ‏لسانية عليها تلك النظرة المتعالية التي تظن بأن اللغات الأخرى التي بثها الله هنا وهناك في نسيجنا ‏الاجتماعي الإنساني لا ترقى بأن تكون لغات لتصبح حينئذ ضاربة بظاهرة التواصل الاختلافي كآية من ‏آيات الخالق في كونه عرض الحائط، فهذه النظرة التهميشية الإقصائية تعكس الخلل البنيوي في الحقيقة ‏لدى هذه الذات اللا متوازنة التي فقدت البوصلة الائتلافية لتحقير المختلف لسانيًا وإقصائه وتهميشه فهي ‏لا تتورع بهذا عن ممارسة ظاهرة الوأد اللساني بهاجس جاهلي منحرف عن النظرة الفطرية السوية التي ‏تقبل بالظاهرة الاختلافية المتناغمة الصحية، فالتعصب للسان في المطلق لا يؤدي إلا إلى بث الفرقة والشقاق داخل الجسد الاجتماعي الذي تشكلنا فيه لسانيًا في سيرورته وصيرورته في إقليمنا الجغرافي من ‏المحيط إلى الخليج لنحقق ظاهرة التعارف والمفاضلة بيننا بالتقوى ومخافة الله فالمحبة الجبلية الفطرية أساس ‏التعارف اللساني بين الآدميين في فضائنا الأرضي المعمور.‏‎
ــ شاعر الجزائر الكبير عادل سلطاني: هل غاية الأمازيغ أن يحيوا أدبهم بلغتهم ليتخاطبوا هم به أم طرحه من خلال الترجمة على الساحة العربية، ومن ثم إلى الفضاء الأدبي الغربي، من خلال ترجمة نصوصه إلى العربية وغيرها، وخلق المتعاطي لهذا الأدب حتى لاينكفأ على ذاته؟
ــ أشكرك على هذا السؤال العاقل الواعي أستاذنا الأديب السيد إبراهيم أحمد، مما لاشك فيه كما ‏‏أسلفت سابقًا مجيبًا على سؤالك الأول فإن الغاية من إحياء الظاهرة الأدبية الأمازيغية باختلاف ‏‏الأجناس الإبداعية التي تشكل مفراداتها المتباينة حوامل تخييلية تحمل الهوية في طياتها الوجودية لا تتجاوز ‏في الواقع إطار ظاهرة التعارف البناء، والحركة الثقافية الأمازيغية الحديثة ركزت على النشر من خلال ‏الإصدارات المختلفة الورقية وأيضًا على تحديث آفاق هذه الحوامل لتواكب سيرورة التطور والانفتاح ‏والتعايش السلمي الصحي معية نظيراتها في اللغات الأخرى في عالمنا المفتوح المنفلت المسطح جراء الثورة ‏التقانية الاتصالية المذهلة، حيث نجد جميع الأجناس الإبداعية وبكل اللغات تسبح جنبا إلى جنب في ‏فضاءات العالم الافتراضي الخائلي فلماذا لا نستغل نحن المبدعون هذه الظاهرة الصحية "البروكسيمية .
ـ دعني شاعرنا المثقف الكبير أوضح للقارئ "علم البروكسيميا"، ويقصد به "عمرانيُا" بأنه "علم المكان" وهو العلم الخاص بالمسافة وبالحواسيّة التي تصنعها العلاقة بين انسان وآخر داخل مسافة محددة ينشأ عنها تناغم وانسجام يؤثر في طبيعة الاتصال والاستقبال بينهما فيما يعرف بالثقافة البروكسيمية، التي تهتم بدراسة وسائل الاتصال بين مجموعتين ضمن ظروف مكانية متباينة.
 ــ أصبت أستاذنا الكريم، فلماذا لا نستغل نحن المبدعون هذه الظاهرة الصحية "البروكسيمية".التي ‏تتجاور فيها كل هذه الأجناس الأدبية الإبداعية والعلمية والتاريخية والإعلامية وغيرها لتكون هذه ‏الأجساد التخييلية متجاورة في هذه الفضاءات التي يجب أن نكون فيها كفاعلين حقيقيين متسامحين ‏وذواتهم الهوياتية الأم لنحقق انسجام الهوية الإنسانية الكبرى الجامعة اتصاليا من خلال هذا المتاح التقاني ‏المذهل الذي يسهم في الحقيقة في تقريب هذه الهويات الإنسانية المختلفة لتنفتح على بعضها بعيدًا عن ‏منطق الصراع والهيمنة مرسخة ظاهرة الحب ونظريته المتسامحة التي ترسي الآية الاختلافية على أرض ‏الواقع، حيث يجب علينا أن نبتعد قدر المستطاع عن ظاهرة التعصب النصي الأعمى لهذا الشكل ‏الإبداعي أو ذاك أو ما يمكن لي أن أسميه "العصبية النصية"، لأن هذه المؤسسات الخطابية اللغوية ‏لابد أن تشكل منظومات متساندة متراصة كما اللبنات في جدارنا التخييلي كما جدارنا اللغوي ‏الإنساني، ومن المعروف أن للأدب علاقة وطيدة وثيقة الوشائج والعرى باللغة الأم ولايشذ أدب ‏الأمازيغية عن هذه القاعدة ولكننا نحن أمازيغ القرن الواحد والعشرين رغم خصوصية طابعنا الأدبي ‏التخييلي وتناقله بيننا في أوساطنا الاجتماعية إلا أننا نريد من خلال إرادة جادة أن نعرف الآخر ‏المختلف الأقرب فالأقرب فنقله إلى اللغة العربية يسهل طريقة التلقي والتواصل معية قارئِ العربية في أي ‏مكان من المعمور ونقله إلى اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات يسهل نقل تخييل الحياة الأمازيغية بجميع ‏مفاصلها وتفصيلاتها الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والأنثروبولوجية إلى الآخر المختلف ‏دائما حتى لاينكفئ أدبنا الأمازيغي بفسيفسائه المختلفة على ذاته ويتقوقع في دائرته اللسانية والعرقية ‏الإقليمية فحسب ، ولكن لابد أن يتعداها إلى الآفاق الإنسانية الأرحب حتى تصل رسالتنا الأدبية ‏الهوياتية إلى أبعد حد لساني ممكن، وبهذا تدخل ظاهرتنا الأدبية الأمازيغية دائرة الاحتكاك اللساني ‏لإثبات الذات دون تعصب فج معوق قاتل، وبالتالي نشحن هويتنا الأم بطاقة الانفتاح على حياة ‏الألسن كظاهرة تواصلية اختلافية صحية سليمة وفق سنن الله الثابتة في خلقه، فأساس الخلق التعارف ‏والظاهرة التخييلية الأدبية من الوسائل الاتصالية الناجعة لترسيخ الظاهرة التعارفية بين بني آدم باختلاف ‏هوياتهم.
ــ شاعر الجزائر الكبير الأستاذ عادل سلطاني، من خلال قدرتكم الشاعرة على صياغة الكلمات من حشاشة القلب، وعميق التجربة: هل تكتفي بسبك القصيدة في الأمازيغية، ثم صبها قصيدة عربية أو فرنسية ـ رغم اختلاف التقنية ـ ولا يتبقى فقط غير تغيير الألفاظ والقوالب لنفس التجربة؟ ألا يتشعب بك الاستبطان الهوياتي، والتشظي الفكري بين المسارب الثلاثة؟.. أرجو من شاعر وتنظيري بقامتك، يعيش مثل هذه التجربة الفريدة بين سواحل وخلجان هذه الثقافات الثلاث، أن يقودنا نحو النور في هذا التيه الفكري الذي نحياه مع ما فيه من الانتصار للأحادية الفكرية في حياتنا العربية على امتداد جغرافيتها وتاريخها؟
ــ حينما أمارس الكتابة الشعرية التي تفرض ذاتها وحضورها وهاجسها المؤرق المقض المضني المرهق أجد ‏ذاتي تترجم شعورها وخواطرها في إطار شكلي لغوي يفرض حضوره لأكون منغمسًا منخرطاً في دائرة ‏نص شعري أو نثري أمازيغي أو عربي أو فرنسي بمعنى أن النص ينزل بلغته وكينونته المفروضة فلا أختار ‏مثلاً أن أكتب اليوم نصًا أمازيغيًا بلغتي الأم أو نصًا شعريا باللغة العربية أو باللغة الفرنسية أو بالعامية.
 ولا ‏أجد ما يمكن تسميته "العقدة الهوياتية" في ذلك ما دمتُ ملتزمًا بخطي الهوياتي الأم الحقيقي المتصالح ‏المنفتح على اللغة التي أتعامل من خلالها ممارسة وتجربة، ولا أشعر البتة بعقدة النقص أو التأزم الهوياتي ‏لأن أناي الهوياتي مبثوث في جسد نصوصي بغض النظر عن الشكل اللغوي الذي سكبت فيه، لأتحول ‏بعد ذلك إلى كينونات لغوية تترجمني وتوصلني إلى الآخر المتلقي لهذا الشكل اللغوي أو ذاك كما أريد، ‏فلست من يقرر لحظة الكتابة بهذه اللغات الصديقة كمؤسسات تواصلية، وإنما النص ينزل في حينه ‏ولحظة تجلي موضوعه بعيدًا عن "الآلية النظمية" الفجة في إطار "الطبع"، فيخرج النص كما يشاء ‏عموديًا ببحره أو تفعيليًا أو أمازيغيًا عموديًا أو تفعيليًا أو عاميًا موزونًا، فمهما كتبت بهذه الأشكال ‏اللغوية فإنني لن أحيد عن البوصلة الهوياتية الأمازيغية في أي شكل، لأنني لن أكون باحتصار إلا أناي ‏الأم في أنسجة لغوية متباينة تنقلني مراكبها الخطابية الشعورية إلى متلقي الشكل الأمازيغي والعربي ‏والفرنسي والعامي، ولن أكون في كل هذه الأشكال إلا ذلك الكائن الشعري الأمازيغي بكل انفعالاته ‏وأفكاره وهواجسه وجنونه وعقله والتزامه المفتوح دون عقد على حب الإنسان في إطاره الكينوني النسبي ‏بعيدا عن التعصب الانتمائي العرقي الضيق الفج المعوق، ويبقى هاجس التعارف كفضيلة وهبة ربانية ‏تحركني في إطار هويتي الأمازيغية المفتوحة على حب الإنسان ولسانه أينما وجد في هذا المعمور الذي ‏استخلفنا فيه، فهذه المسارب الثلاثة التي ذكرت لأضيف لها البعد الرابع العامي هي الطرق التي أسلكها ‏لأنقل معاناتي ومشاعري وتجربتي ونزفي وحبي وحزني وفرحي وغضبي وطفولتي وشبابي وكهولتي وكل جنوني ‏العاقل الإنسان إلى ذلك القارئ الذي يعيد بقراءته إنتاج هذا الشكل اللغوي النصي الذي عاشره قراءة ‏واستئناسا ومتعة، فلا أشعر مطلقا بأن هذه اللغات التي تكتبني وتنقلني إلى القارئ الإنسان تدخل فيما ‏يمكن تسميته "المنفى اللغوي" فاللغة لاتنفي المبدع والمبدع لايمكن أن ينفي اللغة التي ستبقى كمؤسسة ‏اتصالية تفاعلية الحلقة التواصلية الواصلة لا الفاصلة بين المتلقين لأشكالها اللسانية المختلفة.
 هذا في ‏رأيي المتواضع خير تجسيد لظاهرة التعارف المبنية على الاحترام في حيز لغوي ثقافي معين، ولكل لغة تكتبني ‏قاموسها الحاضر في عملية الكتابة الإبداعية المعقدة التي أوازن فيها بين الشعور والفكر لتحقيق فلسفتي ‏الخاصة ممارسة وتجريبا، فأنا ككينونة حاضر في النص الأمازيغي وفي النصين العربي والفرنسي وفي العامي ‏ولم تتمزق بي المسارب الثلاثة التي أسلكها فكريًا في ممارسة هذا الشكل أو ذاك لأصل إلى حالة من التثاقف المنفتح لأنها حوامل فكرية ‏شعورية تنقلني للآخر وتساهم في توسيع دائرة الانتشار لدى شرائح متباينة من المتلقين وهذا ما لاتحققه ‏لغة واحدة بتفكيرها الأحادي وشكلها الثقافي الإبداعي.. ‏
 الشاعر والباحث الكبير الأستاذ عادل سلطاني لقد كان هذا الحوار دراسة ماتعة كاشفة عميقة لنا ــ نحن أبناء الشرق العربي ــ عن الأمازيغية: اللغة والتاريخ والثقافة والإبداع، وهو ما سيكون نافذة كبيرة، ومعبرًا للتعامل مع هذه اللغة باعتبارها إضافة ثرية لنا أبناء الحضارة الإسلامية من عرب وأمازيغ وغيرهم، أشكرك مرة أخرى، وأشكر كل من يتابعنا من قراء ذي المجاز الكرام.

الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

حول المجتمع الافتراضي.. حوار مع عالم الاجتماع الدكتور وليد رشاد زكي


   

دراسته الجامعية والعليا والدكتوراه، بل وعمله أيضًا حلقات متصلة تعمل كلها في منظومة علم الاجتماع، وتحديدًا في الفضاء العالمي، والمجتمع الافتراضي؛ فأما الماجستير فقد كان حول: "الجماعات المتشكلة في الفضاء العالمي: بناؤها ومضامين تفاعلاتها الاجتماعية ــ دراسة علي عينة من المتفاعلين عبر الشبكة الدولية للمعلومات"، وأما الدكتوراه فقد كانت عن: "المتغيرات المؤسسة لرأس المال الاجتماعي في المجتمع الافتراضي: دراسة على عينة من المتفاعلين عبر الشبكة الدولية للمعلومات عام 2012م، هذا من حيث الدراسة أما في الجانب العملي فقد شغل الدكتور وليد رشاد زكي عمر منذ عُين معيدًا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بجمهورية مصر العربية، ثم تدرج في السلم الوظيفي حتى أصبح "خبيرًا" بذات المركز، يغلف الجانبين العلمي والعملي خلفية علمية وأدبية وتربوية وفلسفية، ولهذا حظيت رسالتيه على مرتبة الشرف الأولى، كما شارك في كتابة الفصول عبر كتب كثيرة تتقاطع مع تخصصه، كما كانت له العديد من الورقات البحثية المنشورة في المجلات والدوريات العلمية، والمؤتمرات العلمية، وكثير من الأنشطة الكثيرة المتصلة بخبرته العميقة والطويلة في مجاله، ولقد صار الكثير مما كتبه مراجعًا علمية تعتمد عليها كثير من المؤلفات العلمية بطول الوطن العربي.

  لذا فقد رأيت أنه من الواجب أن أتعرض لبعض تلك البحوث لكي أطلع عليها القارئ العربي غير الأكاديمي، إلى جانب التعرض لبعض القضايا التي نستنير فيها برأي ضيف الحوار:

ــ ضيفي الكريم الأستاذ الدكتور وليد رشاد أحب أن أبدأ حوارنا بإطلالة بانورامية تستعرض فيها بإيجاز فحوى رسالتيك "الماجستير" و"الدكتوراه"؟

ـ في مستهل القول أتوجه بفيض من الشكر الغزير إلي الدكتور السيد إبراهيم علي تقديمي إلي القارئ العربي, ويتزين الحديث بقراءته للعديد من الأبحاث المتواضعة التي شاركت فيها. واسمح لي أن أبدي اعجابي بمجموعة الحوارات التي قدمتها, فمن خلال متابعتي للعديد منها أشعر وكأن سحابة الغمام على الثقافة العربية بدأت تنقشع.

   أما الإجابة علي السؤال: فإن رسالتي للماجستير تناولت موضوع "الجماعات المتشكلة في الفضاء العالمي: تفاعلاتها ومضامين تفاعلاتها الاجتماعي ... دراسة علي عينة من المتفاعلين عبر الشبكة الدولية للمعلومات"، وقد أشرف علي الرسالة عالم الاجتماع الأستاذ الدكتور علي ليلة ــ عليه رحمة الله ــ وتم تسجيل الموضوع في عام 2004م، وكانت أول رسالة علي مستوى العالم العربي في علم الاجتماع تتناول موضوع المجتمع الافتراضي، للحد الذي استدعت فيه لجنة الدرسات العليا الدكتور علي ليلة لفهم الموضوع نظرًا لحداثته وعدم سماع الكثير عنه، وأصر الأستاذ الدكتور علي ليلة رغم اعتراض الكلية علي تسجيل الموضوع. وكان لدينا تخوف من عدم توافر المراجع. إلا أن هذه الرسالة طرحت للمفاهيم الأساسية للمجتمع الافتراضي والفضاء السيبري وثقافة الإنترنت، وطورت مقولات نظرية تسهم في فهم هذا المجتمع الجديد، وتحدثت عن إيجابيات وسلبيات هذا النمط من التفاعل، كما تعرضت لمستويات التفاعل الافتراضي علي المستوي الفردي وعلي المستوي الجماعي، وشكلت هذه الرسالة نواة لدراسات المجتمع الافتراضي.  وناقش الرسالة كلًا من المفكر العربي الأستاذ السيد يسن وعالم الاجتماع المرموق الأستاذ الدكتور أحمد زايد في مايو 2007م, وحصلت الرسالة علي امتياز مع التوصية بطباعة الرسالة علي نفقة الجامعة وتبادلها بين الجامعات العربية والأجنبية.

ــ وبالنسبة لرسالة الدكتوراه؟

ــ أما الدكتوراه فدرست فيها المتغيرات المؤسِّسَة لرأس المال الاجتماعي عبر المجتمع الافتراضي . ويشير الواقع إلي دراسة مفهوم رأس المال الاجتماعي من زوايا متعددة علي صعيد المجتمع الواقعي، إلا أن هذا الموضوع اختص بدراسة المتغيرات القيمية والبنائية لرأس المال الاجتماعي عبر المجتمع الشبكي, وقد أشرف علي الرسالة الأستاذ الدكتور علي ليلة ــ عليه رحمة الله ــ وطورت الرسالة مجموعة من الأطر النظرية والنتائج الهامة في دور المجتمع الشبكي في دعم رأس المال الاجتماعي, وقد أُجيزت الرسالة في مناقشة علنية في مايو 2012م، وناقش الرسالة الأستاذة الدكتورة نجوي خليل وزيرة التضامن الاجتماعي في ذلك الوقت، والمرحوم عالم السياسة الأستاذ الدكتور كمال المنوفي، وحصلت الرسالة علي مرتبة الشرف الأولي مع التوصية بطباعاتها علي نفقة الجامعة وتبادلها بين الجامعات العربية والأجنبية.

ــ في ورقتكم البحثية: "المجتمع الافتراضي. نحو مقاربة للمفهوم" المنشورة بمجلة الديمقراطية القاهرية، راهنت في نهايتها على أن المجتمع الافتراضي لن يزيح المجتمع الواقعي ليحل محله, ولكن يشكل بوابة جديدة للتفاعلات التي تخرج عن إطار المحلية.. لقد كانت هناك دراسات كثيرة تتحدث عن المردود السلبي على مستوى العلاقات حتى داخل الأسرة وما شابها من انقطاع ولو جزئي.. ما رأي سيادتكم؟

ــ سؤال في منتهي الأهمية، إن مفهوم المجتمع الافتراضي virtual community  والذي كتبت عنه في بدايات مبكرة في مجلة الديموقراطية المصرية, كان ــ ولم يزل ــ وليدًا، للدرجة التي كان هناك اختلاف حول تسميته؛ فالبعض كان يسميه: "المجتمع الفضائي"، والبعض كان يسميه: "المجتمع الخائلي"، والبعض كان يسميه: "المجتمع السيبري" وغيرها من الاسماء، إلا أن الأمر تطور منذ عام 2008م تحديدًا وهي اللحظة التي شهدت دخول المجال العام الافتراضي إلى الواقع باحتجاجات السادس من أبريل في مصر، الأمر الذي سقطت فيه الحواجز بين ما هو واقعي وما هو افتراضي, ثم تطور المفهوم الذي ارتبط بطبيعة الحال بتطور الأحداث على الصعيد الواقعي.

   أما عن مردود هذا المجتمع على الأسرة، فقد شاركتُ بورقة بحثية في المؤتمر الدولي الأول لكلية الإعلام حول "تأثير المجتمع الافتراضي علي منظومة قيم الأسرة المصرية"، وقد انتهت نتائج البحث إلي أن المجتمع الافتراضي لعب دوره في التأثير على بعض القيم الأسرية وأبرزها قيمتيّ الحوار والطاعة.

ــ كانت لكم دكتور وليد ورقة بحثية، بعنوان:  "نظرية الشبكات الاجتماعية من الأيديولوجيا إلي الميثودولوجيا" منشورة ضمن القضايا الاستراتيجية بالمركز العربي لأبحاث الفضاء الإليكتروني" والتي قسمتها لأربعة محاور، اختتمتها بمستقبل الشبكات الاجتماعية. فما هو تصوركم لهذا المستقبل بالنسبة للوطن العربي خاصة؟

ـ بداية أود أن أشير إلي أنني من ضمن اللجنة المؤسَّسة للمركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني"، وحول المقال ـ المشار إليه ـ فقد تم تقسيمه إلي أربعة محاور، عنون المحور الأول بـ "الشبكات الاجتماعية..رؤية للمفهوم"، وتعرض هذا المحور لمفهوم الشبكات الاجتماعية والخدمات التي تقدمهه وأنواعها. وعنون المحور الثاني بـ "الشبكات الاجتماعية: مراحل النشأة من التأسيس العالمي إلي المردود المحلي"، وتعرض هذا المحور لتاريخ تطور الشبكات ومراحلها، وتأسيسها علي المستوي العالمي ومردودها المحلي على المستوى السياسي والاجتماعي. وعنون المحور الثالث بـ "نظرية الشبكات الاجتماعية..المقولات الرئيسية"، وقد ركز هذا المحور علي مقولة البناء الشبكي ومقولة الاعتماد المتبادل, ورأس المال الاجتماعي كأداة تحليلية للشبكات الاجتماعية. أمَّا المحور الرابع والأخير، فكان عنوانه: "تحليل الشبكات الاجتماعية من أيديولوجيا النشأة والنفاذ إلي ميثودولوجيا الدراسة".

   أمَّا مستقبل المجتمع الشبكي فلا يستطيع أحد أن يتكهن بطبيعته المستقبلية حيث أن التغيرات السريعة التي تطرأ عليه الآن وتناميه يقف عثرة أمام التبؤات المستقبلية لحدود تفاعلاته.  

ــ الثقة كفاعل بنائي لرأس المال الاجتماعي الافتراضي، كان هذا عنوان الفصل السادس من رسالة الدكتوراه الخاصة بكم دكتور رشاد. نرجو توضيح تلك العلاقة بين الثقة ورأس المال الاجتماعي الافتراضي؟

ـ ببساطة شديدة يتعلق مفهوم رأس المال الاجتماعي بالفرص التي يمتلكها الفرد نتيجة امتلاكه شبكة من العلاقات الاجتماعية، ومما لا شك فيه أن الإنترنت فتح المجال أمام إعادة إنتاج علاقات قديمة وقائمة، ويسهم في تشكل علاقات جديدة تمثل أرصدة بالنسبة للفرد في تفاعلاته الواقعية. أما قضية الثقة فهي من القضايا القيمية المرتبطة بمفهوم رأس المال الاجتماعي ويقسمها التنظير التقليدي وفق عدة تقسيمات أبرزها: الثقة في الأشخاص، والثقة في الجماعات، والثقة في المؤسسات.

  أمَّا علي الصعيد الافتراضي فإن قضية الثقة من القضايا الشائكة؛ فعند تناولها في الفصل وسؤال عينة الدراسة هل تثق في علاقات الإنترنت نجد أن ما يقترب من نصف العينة اتجه إلي الثقة والنصف الأخر يرى أنها علاقات مزيفة. إلا أن الأمر عندما يرتبط بسياقات المجتمع الافتراضي فنجد أنها من الشروط الضرورية لتأسيس رأس مال اجتماعي, يسهم في تحقيق مكاسب للأفراد والجماعات داخل سياقات المجتمع الافراضي ذاته أو المجتمع الواقعي.

ــ تحسن الجماعات الإرهابية عبر العالم استخدام الشبكة العنكبوتية بشكل تقني محترف، وكان لكم مقال حول موضوع: "تطبيقات الإنترنت كفواعل جديدة للإرهاب"، فهل انتبهت أجهزتنا الأمنية لهذه الدراسة واستفادت مما جاء فيها دكتور وليد؟

ـ بالفعل يتواتر الحديث في هذه الأثناء عن الإرهاب الإلكتروني والفرص الهائلة التي استطاعت الشبكة أن تقدمها للإرهابيين. وفي هذا المقال عرضت للآليات التي يقدمها الإنترنت في عمليات التجنيد والتعبئة، وعمليات التخطيط والتنفيذ, وقدَّمتُ تحليلاً لطبيعة الشبكات الإرهابية. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن ثمة نمطين للإرهاب الإلكتروني؛ فهناك إرهاب يتم داخل الشبكة ذاتها، ومثال ذلك تعطيل أجهزة المستشفيات عن بعد ومحطات المياه وغيرها، وهناك إرهاب يتحرك من السياق الافتراضي إلي المجتمع الواقعي. وقد أردف المقال بتحليل ميداني لما قدَمتُه داعش علي اليوتيوب من مشاهد تساعد علي الترويع واستعراض قوتها.

 أما عن انتباه الأجهزة الأمنية لمثل هذه التهديات فبالفعل هناك العديد من التدابير الأمنية، وليس أدل علي ذلك من مشاركتي في بحث وزارة الداخلية المصرية حول التداعيات الأمنية لمواقع التواصل الاجتماعي، وقد شاركتُ فيه مع نخبة أمنية وأكاديمية، وتعرض البحث لمخاطر الإنترنت وتهديداته، وطرح تجارب بعض الدول في المواجهة الأمنية، وانتهى إلى وضع سياسات فاعلة لمواجهة التداعيات الأمنية للتهديات الشبكية.

ـ كانت لكم دكتور وليد ورقة بحثية عن الدين على مساحة المجال العام، أرجو شاكرًا أن تنقل لنا أهم ما قلته فيها، والسؤال الفرعي المتصل به: هل نحن في حاجة برأيكم عالمنا الجليل إلى تغيير الخطاب الديني؟ وإذا كنا فعلا بحاجة فلماذا الاقتصار على الخطاب الديني الإسلامي فقط دون المسيحي في منطقتنا العربية وخاصة مصر؟

ـ ثمة جدل حول تحليلات الدين في علاقته سواء بالمجال العام أو المواطنة, فهناك رؤى مختلفة، منها ما  يري أن الدين والمؤسسات الدينية يلعب دورًا بارزًا في المجال العام ودعم قيم المواطنة, وهناك من يرى أن حضور الدين يولد التمايزات الإيدولوجية التي تهدد المجال العام بالمعني الهابرماسي. والحقيقة أنا أميل إلي الرأي الأول الذي يرى حضور الدين كفاعل في المجال العام. وحول مفهوم المجال العام ذاته فهو مفهوم طرح له عالم السياسة الألماني هابرماس ويشير ببساطة إلي كونه منتدي للمواطنين يطرحون من خلاله مطالبهم إلي الدولة.

  أما قضية الخطاب الديني فاسمح لي أن يسير الحديث علي نحو تطوير الخطاب الديني وليس تغييره، وثمة دراسات عديدة تناولت الخطاب الديني سواء الإسلامي أو المسيحي. أما الإعلام فتركيزه ينصب علي تطوير الخطاب الديني الإسلامي، وهذه أزمة مرتبطة بالإعلام أكثر من كونها مرتبطة بالبحث, خاصةً وأن هناك العديد من الأدبيات أشارت إلي نمطي الخطاب الديني. ولعل تطويره يتطلب إعادة النظر في طبيعة إعداد الدعاة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يحتاج تطويره إلي ثلاثية الأزهر، والكنيسة، ودار الإفتاء المصرية، خاصة وأن واقع الخطاب الديني يشير إلي أزمة في الواقع ومردها له عدة اعتبارات متمثلة في أنه خطاب أُخروي أكثر من كونه خطاب دنيوي, وأنه خطاب تهديد أكثر من كونه خطاب ترغيب، وأنه خطاب أدائي أكثر منه خطاب عضوي, وأن قضاياه لا تتماشي مع قيم الحداثة.

     ويجب هنا إدراك أن مشكلة الخطاب الديني هي ليست مشكلة دين بقدر ما هي مشكلة القائم علي الاتصال الديني. وبتأمل استراتيجية التنمية المستدامة في مصر 2030م، ندرك أن الخطاب الديني حضر بشكل بارز في هذه الاستراتيجية بالشكل الذي يعكس مدي اهتمام الدولة بتطويره في الحاضر والمستقبل.

ــ انتقل معك قليلًا إلى الشق الاجتماعي من ورقاتكم العلمية الهامة، ومنها الأسرة المتشكلة عبر المجتمع الافتراضي: أرجو أن تنشر نتائجكم وتوصياتكم في هذا الموضوع أستاذنا الكريم؟

ـ لقد أعددتُ هذا البحث ضمن المؤتمر الدولي للأسرة في عصر التحولات الاجتماعية, وقد تعرض هذا البحث لقضية التعارف عبر الإنترنت من أجل الزواج، فقد كشف الواقع والأدبيات علي تنامي هذا النمط من الزواج، في هذا الإطار جاء هذا البحث للتعرف علي واقع الزواج عبر الإنترنت والتحديات التي تواجه الأسر المتكونة من خلاله. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف اعتمد البحث علي منهجية دراسة الحالة، واتخذ من الأسرة وحدة للدراسة حيث تم إعداد دليل للمقابلة المتعمقة تم تطبيقه علي تسع حالات من الأسر التي بدأت تعارفها عبر الإنترنت، وثلاثة من الذين علي أعتاب الزواج. وقد تبين من خلال النتائج:  أن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت الدور الأكبر في التعارف من أجل الزواج, كما تبين أن هذا النمط من الزواج عابر للحدود؛ إذ تشكلت علاقات للزواج بين أفراد من دول مختلفة, كما أظهرت النتائج مجموعة من التحديات التي تواجه هذا النمط من الزواج أبرزها: مسألة قبول العائلة لهذا النمط من الزواج، وتحدي الثقة في علاقات الزواج عبر الإنترنت, وتحدي قبول الأخر. وحول رؤية الحالات المستقبلية فقد اختلفت رهانات المستقبل بين التفاؤل والخوف من الزواج عبر الإنترنت.

ــ زادت معدلات الطلاق على المستوى العالمي بعامة، والعربي بخاصة، ومصر على أخص الخصوص حتى احتلت المركز الأول عربيًا، وقد كان لاستخدام المرأة للإنترنت عاملًا هامًا في الإحصائيات المرصودة في أمريكا، ومن الدول العربية الخليجية "الكويت"، وهو ما ساهم في تسريع عجلة الانفصال. فكيف يرصد هذا  عالم الاجتماع الدكتور وليد رشاد؟

ـ بالفعل دكتورنا الفاضل، مصر تحتل مكانة مرتفعة عالمية في الطلاق, وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أنني شاركتُ في ثلاث مشروعات علمية عن ظاهرة الطلاق في المجتمع المصري، منهم مشروعين علي المستوي القومي.

    واسمح لي في هذا الصدد أن أقدم لك خلاصة تجربتي البحثية في صورة تلغرافية فيما يتعلق بهذه الظاهرة:  أما من حيث واقعها فهي ترتفع بمعدلات عالية في الخمس سنوات الأولى من الزواج بما يمكن أن نسميه بـ "الطلاق المبكر"، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية يمكن أن نتحدث عن جغرافية الظاهرة، حيث أن معدلاتها ترتفع في المدينة عن الريف، وحول القضايا المرفوعة أمام محاكم الأسرة فقد ارتفعت أيضًا في المدينة عن الريف،  ويأتي سبب ذلك في أن شبكات العلاقات الاجتماعية والجلسات العرفية في الريف لها دورها في رأب الصدع بين طرفي العلاقة الزوجية، وهو الأمر الذي يمكن من خلاله تفسير انخفاض معدلات الخلافات الأسرية من جهة وانخفاض معدلات قضايا الطلاق في محاكم الأحوال الشخصية من جهة أخرى في الريف عنه في المدينة.

  أمَّا أسباب الطلاق؛ فقد تزاحمت مجموعة من الأسباب في تنامي ظاهرة الطلاق في المجتمع المصري، منها: الأسباب الاقتصادية، حيث برزت كفاعل أساسي من فواعل الطلاق، ومنها الأسباب الاجتماعية، والمرتبطة بانتشار الأفكار النسوية تلك الحركة النسوية التي زرعت مجموعة من القيم الغربية في نفس المرأة العربية ودعوات للندية والتحرر، وهو الأمر الذي قد يفسر ارتفاع معدلات لطلاق لدي المتعلمات في الفترة الأخيرة.

   ولقد برز تدخلات الأسرة كأحد الفواعل الأساسية في الطلاق في مجتمعنا المصري بالشكل الذي تم تفسيره بتراجع رأس المال العائلي الذي يعد حائط صد لرأب الخلافات بين أطراف العلاقة الزوجية؛ وهو ذات الأمر الذي يفسر ارتفاع قضايا الطلاق أمام محاكم الأحوال الشخصية. ومن ضمن الأسباب أيضًا الخيانة الزوجية، وهنا أعرج مع حضرتك إلي سؤالك حول دور التكنولوجية في الطلاق, فلقد فتح المجتمع الافتراضي بوابات جديدة أمام الخيانة الزوجية، الأمر الذي أصبحت معه هذه الخيانة "متغير حاضر" فيما يتعلق بأسباب الطلاق. هذا وقد درسنا أيضًا تداعيات الطلاق على أطراف الأسرة وتأثيراته النفسية والاجتماعية علي الأطفال.

ــ تعرضت دكتور وليد للتحرش الجنسي الافتراضي، وللتدخين عبر اليوتيوب، وغيرها من القضايا التي تتعلق بالشباب، ما تأثير هذه المفرادات علي الشباب العربي؟

ـ في حقيقة الأمر أن أزمة البحوث العربية فيما يتعلق ببحوث الإنترنت تتمثل في الاعتماد علي منهجيات تقليدية في دراسة واقع جديد، وهو الأمر الذي يجعل العديد من هذه الدراسات تتميز بالقصور، وفي هذا الصدد قمتُ باختبار منهجيات جديدة في دراسة بعض الظواهر مثل تعاطي المخدرات والتحرش الجنسي عبر الإنترنت، وإليك دكتورنا الفاضل بعض نتائج البحثين اللذين سألت عنهما:

فيما يتعلق بثقافة المخدرات عبر اليويوب فقد تبلور الهدف الرئيس في البحث الحالي في التعرف علي طبيعة ثقافة المخدرات عبر موقع اليوتيوب, ولتحقيق هذه الأهداف تم تطوير مجموعة من المقولات النظرية التي تصلح لتفسير واقع ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب وذلك اعتمادًا علي ثلاث مقولات: الأولي، ثقافة المخدرات علي مرجعية ما بعد الحداثة: ضمتُ هذه المقولة عنصرين الأول عنون بالمخدرات والسرديات من الجمعية الثقافية إلي الفردية السيبرية، في حين عنون الثاني بـ "مأسسة اليوتيوب وتفاعلات ما وراء الثقافة". أما المقولة الثانية فتعرضت لأبرز تناقضات  ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب بالتركيز علي عنصرين هما: "التعلم الاجتماعي" و"الاختيار العقلاني". أما المقولة الثالثة فعنونت بـ "التشاركية الاتصالية من ثقافة الشير والإعجاب إلي ثقافة المخدرات".

     واعتمد البحث علي منهجية تحليل المضون الافتراضي  Virtual content analysis، وتم تطبيق التكنيك الخاص بهذه المنهجية علي المستوى الكيفي اعتمادًا علي تحديد الكلمات الدليلية التي تم خلالها اختيار عينة المقاطع والتي تمثلت في خمسين مقطع: عشرة منها مرتبطة بتعلم ثقافة المخدرات، وعشرة متعلقة بالضبط, وعشرة متعلقة بالتوعية والتثقيف، وعشرة متعلقة بالعلاج، وعشرة متعلقة بالتعافي. وتم التحليل وفقا لخمس عناصر: الأول، مرتبط بالشكل، والثاني، بالفكرة الرئيسية والأفكار الفرعية، والثالث، مرتبط بالخطابات العقلية في المقاطع, والرابع، مرتبط بالخطابات العاطفية بالمقاطع، والخامس، تحليل رجع الصدي، والمقصود به تصنيف وتحليل التعليقات الموتبطة بمقاطع الفيديو المتنوعة.

ــ ولو تعرضت لأبرز النتائج أستاذنا الدكتور؟

   وحول أبرز النتائح: فقد اتضح أن ثمة عدة خصائص لثقافة المخدرات عبر اليوتيوب أولها أنها ثقافة عالمية، وثانيها يتمثل في كون ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب تتسم بتنوع الخطابات، حيث يدرك المتأمل لطبيعة الخطابات والآداءات المرتبطة بمقاطع الفيديو عبر اليوتيوب ــ المتعلقة بثقافة المخدرات ــ  أنها تخاطب العاطفة من خلال الموسيقى الملحقة ببعض المقاطع, كما تخاطب العقل في عملية التوعية والعلاج خاصة، كما جمعتْ التحليلات في عقلانيتها بين النمط العلمي والديني والثقافي والسياسي. وثالثها، أن ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب تزخم بالتناقضات: حيث تعد تناقضات ثقافة المخدرات ملمح أساسي من ملامح هذا النمط الثقافي؛ إذ أن هناك مجموعة من المقاطع تؤكد علي عملية تعلم المخدرات، وهناك مقاطع تؤكد علي عقلانية الاختيار من خلال التوعية والتثقيف والتشجيع علي العلاج، ورابعها يتمثل في كون ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب تجمع بين فردية الممارسة وجماعية العلاج، وخامسها أنها ثقافة تفاعلية, حيث تبلورت هذه التفاعلية من خلال نتائج التحليل علي عنصرين: الأول يتمثل في الإعجابات التي تفاوتت حسب درجة قابلية المتفاعل للمقاطع, والثاني يتمثل في التعليقات، حيث أظهرت التعليقات في معظمها نمط جديد من الحوار حول المقطع المشاهد، وسادسها يتمثل في النظر إلى ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب علي أنها عابرة للجسد حيث اتسمت بإخفاء الجسد في معظمها، بالشكل الذي يمكن معه القول أن الاعتماد الأساسي في ثقافة المخدرات عبر اليوتيوب كان علي الأفكار أكثر من الاعتمادية علي الأشخاص.

ـ وبالنسبة للتحرش الجنسي دكتور وليد؟

 ـ حول بحث التحرش الجنسي عبر الإنترنت فقد تعرض البحث لإشكالية مقيدة بأربع أغلال، الأول يرتبط بالحديث عن قضية تتعلق بخطاب مسكوت عنه في العلوم الاجتماعية ــ إلي حد ما ــ والثاني يسعي إلي تقديم طرح لمفهوم جديد وهو مفهوم "التحرش الجنسي عبر الإنترنت"  cyber sexual harassment, خاصةً وأن هذا المفهوم من المفاهيم التي تتقاطع معه مفاهيم أخري وتتداخل معه, والثالث يتعلق بمحاولة الوصول إلي اقتراب نظري ملائم يفسر هذه الظاهرة الجديدة ويسمح باختبار مقولات هذا الاقتراب عبر الدراسة الميدانية، والرابع يتمثل في التحدي المنهجي والميداني، خاصةً وأن هذه الدراسة تستخدم منهجية جديدة تتناسب مع طبيعة الموضوع وطبيعة المجتمع الافتراضي، وهي "منهجية الأثنوجرافيا الافتراضية"، وتبلورت المشكلة البحثية في سؤال مؤداه: ما واقع التحرش الجنسي عبر الإنترنت؟

  وحول الإطار النظري للبحث فقد طرح البحث لمفهوم التحرش الجنسي عبر الإنترنت والمفاهيم المرتبطة به مثل: التصيد، والملاحقة، وتركيب الصور، والخلاعة عبر الإنترنت. كما استند الإطار النظري إلى ثلاث مقاربات تمثلت الأولي في نظرية الأنشطة الروتينية تلك النظرية التي تربط بين التحضر والتقنية والجريمة، والثانية تمثلت في مقاربة العنف الرمزي علي اعتبار أن التحرش الجنسي الافتراضي يمثل شكلًا من أشكال العنف العاطفي أو الناعم أو الرمزي، كما استندت هذه المقاربة لفكرة الجسد الرقمي والبناء النصي للجسد، وتمثلت المقاربة الثالثة في الفرضية القمعية للجنس في الواقع وفرص الوصول المتاحة أمام ممارسات الجنس عبر المجتمع الافتراضي.

 واعتمد البحث في اجراءاته المنهجية علي منهجية الأثنوجرافيا الافتراضية, وقدم تكنيك التطبيق, واعتمد علي أداتين لجمع المادة الأثنوجرافية، الأولي متمثلة في المقابلة الافتراضية،  والثانية متمثلة في تحليل الرسائل النصية. وتم تطبيق البحث علي ثلاثين حالة من مستخدمي موقع الفيس بوك، وتم معايشة صفحاتهم لمدة أسبوع، وتم استئذانهم في اقتباس بعض الرسائل النصية من صفحاتهم وعرضها في البحث بعد تجريدها من الأسماء.

ــ لو تعرضنا لنتائج تلك الدراسة بإيجاز دكتور وليد؟

ـ أبرزت نتائج الدراسة الأثنوجرافية أن ثمة مجموعة من الأشكال للتحرش الجنسي عبر الإنترنت تتعرض لها المرأة تبلورت في خمس صور أولها يتعلق بإرسال الصور والفيديوهات الإباحية والثاني يتعلق بالشتائم والنكات الجنسية، والثالث يتعلق بالرموز والإيحاءات الجنسية، والرابع يتمثل في الانتهاكات والتحرش الرمزي الشفوي عبر مواقع الدردشة، وتمثل النمط الخامس في الرسائل النصية التي قد لا تستهدف شخص معين ولكنها تعتمد بالأساس علي فكرة التصيد عبر الإنترنت. هذا وتعددت التأثيرات النفسية علي المرأة جراء التحرش والمضايقات الجنسية عبر الإنترنت، وقد تمثل أبرزها في الانسحاب والضيق والندم، وكراهية الإنترنت، والخوف والحذر.  

ــ عالمنا الجليل، تحدثت عن الحركات الاجتماعية علاقاتها بالاحتجاجات والثورات العربية الأخيرة وتأثيرها على الشباب العربي وقضاياه، كيف تقرأون المشهد كباحث من باحثي الاجتماع العرب؟

ـ لقد شهدت الحالة السياسية في العالم العربي حراكًا كبيرًا مع ثورات الربيع العربي, وذلك بتنامي الحركات الاحتجاجية سواء علي الصعيد الواقعي أو علي الصعيد الافتراضي؛ وفي هذا الإطار شاركتُ في كتابين: الأول عن "خرائط الاحتجاج في المجتمع المصري" وذلك عبر كتابة فصل حول الحركات الاجتماعية في المجال العام الافتراضي، تناولت في هذا الفصل الفرص التي قدمها المجال العام الافراضي للحركات الاحتجاجية وسمات الحركات المتشكلة عبر العالم الافتراضي، والمزاوجة بين التنظير والواقع، كان أهم ما جاء في هذا الفصل، وقد أصدر هذا الكتاب "المرصد الاجتماعي القومي" الذي أشرف عليه الأستاذ السيد يسن وخرج الكتاب بإشراف الأستاذ الدكتور علي ليلة ونخبة من المفكرين. أما الكتاب الثاني الذي شاركت فيه ويخص الحركات الاحتجاجية فهو بعنوان: "الثورة والدولة والمجتمع: بحث في التغيير الاجتماعي" قمتُ في هذا الكتاب بمشاركة علماء أجلاء وبكتابة فصل تحت عنوان: "25 يناير من التعبئة إلي الثورة"، تناولتُ فيه كيف تحول الحشد من العالم الافتراضي إلي العالم الواقعي، والقيم التي تحركت من المجتمع الافتراضي في حشد المحتجين، وتحولها إلي ميادين التغيير.

ــ هل الإسلام كدين يحتاج أن يوضع على طاولة "علم الاجتماع الديني"، خاصة أن هناك من يرى من العلماء أن بعض علماء الاجتماع العرب يستخدمون في ذلك نفس مقاييس عُلَماء الغرب، فطبَّقوا الفكر العلمي على الإسلام حتى خرَجُوا بصياغات غريبة عنه؟

ـ ثمة فرق كبير بين علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع الإسلامي, فدراسة الدين حاضرة في علم الاجتماع منذ نشأته علي يد العلامة العربي ابن خلدون, والذي تناوله كثيرًا عبر التحدث عن العلاقة بين الدين وطبيعة العمران البشري وحضوره كمتغير أساسي في الحياة الاجتماعية، ولعل نشأة علم الاجتماع الغربي كانت لها وجهة مختلفة في القضايا الدينية فأوجست كونت ودور كايم كانا يريا أن الدين ظاهرة اجتماعية. أما الواقع فهناك اختلاف الآن بين المفكرين العرب في علم الاجتماع حول قضية "أسلمة علم الاجتماع"، فهناك فريق يتحدث عن مفاهيم إسلامية في علم الاجتماع ومنهم الراحل الأستاذ الدكتور علي ليلة الذي أسس مؤسوعة المفاهيم الإسلامية في علم الاجتماع، وهناك فريق يرى أن وجود علم اجتماع إسلامي يتبعه أيضًا علم اجتماع مسيحي هذا يمثل دخول الإيديولوجية في العلم, عزيزي الدكتور السيد إبراهيم هذا الموضوع غاية في الاشتباك والتعقيد.

ــ هل يتعرض عالم الاجتماع في عالمنا العربي إلى ضغوط من الدوائر الحاكمة أو تدخل لتغيير نتائج دراساته لكي لا تشكل ضغطًا جماهيريًا على السلطة السياسية؟ وهل تشكل "الاستبانة" معيارًا علميًا دقيقًا في الدراسات الاجتماعية؟

ـ لا نستطيع أن نجزم بدور الضغوط السياسية علي الدوائر العلمية بشكل عام وعلم الاجتماع بشكل خاص.. وخصوصا في ظل تعدد آليات ووسائل النشر الإلكتروني والتدوين، بالشكل الذي يمكن معه القول أن قيود السلطة تفككت علي صخرة وسائل الاتصال الحديثة. وعلي الرغم من ذلك يمكن أن نقول وعلى وجه العموم بأن ثمة تراجع في ميادين النشر العلمي؛ إذ أن أبرز التحولات التي يشهدها العام العربي الآن تتمثل في التحول من المثقف العضوي إلي الناشط السياسي أو ناشط الإنترنت، والتحول نحو ثقافة الصورة والكلمة، فأضحي معيار المثقف هو كلامه أكثر عن إسهاماته العلمية الكتابية، ولعل ذلك يمثل في حد ذاته أزمة من أبرز الأزمات التي تواجه الثقافة العربية.

ـ هل الدكتور وليد رشاد مع آراء بعض علماء الاجتماع التي تنادي بتحرير علم الاجتماع في الوطن العربي وذلك حتى نستطيع أن نصوغ نظرية اجتماعية عربية، مع ضرورة إعادة النظر في مقررات تدريس علم الاجتماع في الدراسات العربية؟  
 
ـ المعضلة سيدي الفاضل أن علم الاجتماع الآن ونظرياته غربية المنشأ ولا نستطيع القول أن علم الاجتماع العربي استطاع أن يتجاوز تلك النظريات الغربية ليصوغ نظريات تعبر عن الواقع العربي بشكل خاص. إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض المشروعات النظرية في فكر العديد من الرواد العرب عبر عصور مختلفة تحتاج هذه الجهود إلي إعادة قراءة وتجميع, فنحن في حاجة إلي إعادة قراءة بن خلدون ومالك بن نبي، ومشروعات الجابري وعلي ليلة وزايد والسيد يسن وغيرهم من النوابغ العرب في مختلف العلوم الاجتماعية من الذين اهتموا بدراسة النظريات الاجتماعية.

وفي النهاية ليس لي إلا أن أتقدم بخالص الشكر للأستاذ الدكتور السيد إبراهيم أحمد علي هذا الحوار الذي يمثل إضافة بالنسبة لي، وعلي علمه وخلقه وتواضعه.

ــ بل أنا من يقدم الشكر لسيادتكم عالم الاجتماع الخبير والرائد في العلوم الاجتماعية المتعلقة بالعالم الافتراضي الأستاذ الدكتور وليد رشاد زكي على وقتكم الثمين، وعلى ما ساهمتم به عبر كتبكم ودراساتكم القيمة في إثراء المكتبة العربية، كما يمثل هذا الحوار الثري إضافة أيضًا لها.