السبت، 29 يناير 2022

"اللغة العربية الخامسة": رؤية لغوية للدكتور محمد تقي جون..

   



           لقد وضع لنا الدكتور محمد تقي جون مفتاح شخصيته، وخبرته، وتمكنه اللغوي في إهدائه الذي صدَّر به أحدث مصنفاته العلمية وهو كتابه المعنون: " اللغة العربية الخامسة: الفصحى الهجينة"، حيث يقول: (إلى أبي رحمه الله: الذي غرسَ فـيَّ حبَّ العربية وإتقانها حبَّ واتقانَ الفصحاء والبلغاء الأوائل)، وهو ما كان منه حقا؛ فهو الباحث المتخصص المتقن والأكاديمي المهني الذي يدرِّس اللغة العربية في جامعة واسط بالعراق، والذي عاشها متعلما فأكمل البكالوريوس في دراسة اللغة العربية، انتهاءً بالدكتوراه عام 2005 حتى حصل على لقب الأستاذية عام 2016، ثم أصبح أستاذًا للأدب العباسي وهو تخصصه الدقيق، إلى جانب تدريس العروض، ويشغل الآن منصب أمين مجلس جامعة واسط بالعراق.


ليس هذا فحسب بل هو شاعر فذ، وقد وضعه الدكتور صالح الطائي في كتابه: "أنا وصورهم الشعرية" على رأس من اختار قصائدهم ومقطوعاتهم، كما تشهد كتبه ودراساته ومقالاته بالتنوع، والغزارة، والعمق وأبدأ بكتابه: "سلامة اللغة العربية في الكتب الإدارية ـ الجامعة أنموذجا"، الذي صدر عن جامعة واسط، وعالج فيه الأخطاء المتكررة في خطابات الجامعة المختلفة وصنَّفها إلى سبعة أنواع وهي: إدارية، وشائعة، ونحوية، وعددية، وإملائية، وترقيمية، وأسلوبية، وكتابه: "أنا الشعر: دراسة في أساسات الشعر الجاهلي وصلاحيتها لعصور الشعر العربي"، الذي صدر عن دار ومكتبة البصائر/المركز العلمى العراقى، وكتابه الذي بسَّط ويسر فيه علم العروض: "العروض الرقمي"، وعن مركز البحوث والدراسات والنشر بكلية الكوت صدر كتابه: "رؤساء جامعة واسط كما عرفتهم"، ثم كتابه: "قصة الكرد الفيليين محنة الولاء وإعادة البناء"، هذا عدا بحوثه التي تناولت: "تفسير لقب المتنبي من خلال شعره ـ د دراسة تاريخية، لغوية باراسايكولوجية"، "تناصات المتنبي مع الثقافة العالمية"، ومن أشهر مقالاته: "وللمرأة التطليق".


سيصل من يطالع أعمال دكتور تقي جون إلى حقيقتين هامتين عنه، وهما: اتكائه على التاريخ في كثير من أعماله ولو كان لغويا أو عروضيا، وكان يكفيه اللجوء للبراهين والأدلة العلمية بالاستنباط أو الاستقراء، وربما كان هذا مرده دراسته لنيل درجة الدكتوراه في معهد التاريخ بقسميه: التاريخ والتراث، أما الحقيقة الثانية أنه ينتصر للرأي الذي توصل إليه مهما فتح عليه من بوابات المواجهة والنقد وربما الهجوم الشديد؛ فهو على الرغم من تصنيفه للعروض إلا أنه عارض الخليل بن أحمد وعروضه وتفعيلاته بلا هوادة، وآرائه التي ساقها في كتابه عن الكرد الفيليين وخالف فيها آراء بعض من سبقوه في الموضوع.


لذا فلم يكن صعبا أو جديدا على الدكتور تقي جون أن يخوض غمار تأليف كتاب هو حصيلة سنوات من القراءة والتفكير يتناول لغتنا المعاصرة، وأسماه: "اللغة العربية الخامسة - الفصحى الهجينة" يقلب المفاهيم عن حقيقة وحيثيات اللغة العربية المعاصرة، موضحا هيمنة اللغة الانكليزية عليها بشكل مخيف في الألفاظ والمعاني والقواعد، كما أخبرني بهذا، وهو الذي يقع في نحو 460 صفحة، يتكون من مقدمة وثلاثة فصول: تناول في الفصل الأول: الألفاظ، وفي الفصل الثاني: المعاني، وفي الفصل الثالث: القواعد.


وفي مقدمة طويلة يأخذ الكاتب فيها قارئه إلى الموضوع مباشرة بلا ممهدات أو مقدمات ليوقفه على الحقيقة التي توصل إليها وهي أننا نتكلم اليوم: ("لغة اصطلاح" أو "لغة عُرف" وليس اللغة العربية الفصيحة والبليغة التي تكلمها وكتب بها أجدادنا؛ فغالب المفردات والجمل والقواعد والتعابير والأساليب في لغتنا هي ليست عربية ولا فصيحة، بل وضع وتصرَّف في أكثرها المترجمون نقلاً أو ترجمة في مطلع العصر الحديث لمواكبة الحياة المتطورة في العالم، والعرب في أشد حالات التخلف بعد سلاسل الاحتلالات، واللغة العربية في أشد مراحل التراجع، وقد خفيت على المعاصرين وتقبلوها ووضعوا فيها القواميس، وسموها تطورا أو أي تسميات أخرى مسوغة لانحرافها، وكونها نوعا أقسى من الهيمنة الانكليزية ومسخ الهوية، قطعتنا عن فهم القرآن وتراثنا القديم الذي يمثل الشخصية والذاكرة العربية).


وقد بين الدكتور تقي جون المعنى الذي يقف خلف "اللغة الخامسة" الذي يجليه بشكل تاريخي تراتبي ينبئ عن دراسة علمية دقيقة وفق منهج، والتي سأذكرها دون الأمثلة التي قرنها معها:


اللغة العربية الأولى "الفصيحة": وهي التي تكلمها العرب الأقحاح في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، وهذه اللغة لم تدون فضاع أكثرها بعد الإسلام، وسبب عدم تدوينها أن العرب عاشوا حياة بداوة، ولم يمتلكوا تفكيراً حضارياً.. وتميزت العربية الأولى بكثرة ألفاظها وتعابيرها.


اللغة العربية الثانية "المختارة" وهي عربية القرآن: وتعد أول لغة عربية دوّنت، وتدوينها ليس لأسباب لغوية بل دينية لحفظ القرآن واستمرار تداوله. والقرآن لم يستعمل اللغة العربية كلها ... وساعدت هذه اللغة على نسيان المفردات العربية التي لم تستعملها، فهجرها الناس.


اللغة العربية الثالثة "المولَّدة": وهي التي صنعها العباسيون بتأثير العجم وادخلوا إليها "المعرّب والدخيل والمتَرجم" فاختلطت بالعجمة فتراجعت فصاحتها، وصارت شأن اللغات غير العربية تهتم بـ "جمال اللفظ وعمق المعنى ورشاقة التعبير" أي تجعل الاهتمام بالمعنى أكثر من اللفظ وتقدم الجمال على الفصاحة. وهذه هي "البلاغة" التي روجوا لها.


اللغة العربية الرابعة "المختلطة بالعامية: وهي لغة القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. فبتتابع المحتلين ولاسيما بعد مرحلة المغول ومن جاء بعدهم من أمم محتلة أعجمية ألحقت تكملات غريبة للمعجمات العربية "الفصيحة والبليغة"، أدخلت العرب في مرحلة فقدان هويتهم اللغوية تدريجياً حتى صاروا عرباً يتكلمون لغة عربية غير محضة، أو بنسبة أعجمية صارت تتزايد مع الاحتلالات الأجنبية وتفشي لغاتها، فضلا عن إهمال أبنائها لها، حتى وصلت إلى أعتاب حالة يُرثى لها من التناقص والانحراف.


أما اللغة العربية الخامسة فهي "الهجينة": وهي العربية المعاصرة صنعة ونتاج حركة إحياء التراث وبعث اللغة في مطلع العصر الحديث، والاحتلالات الغربية الحديثة التي نقلت حضارة الغرب. ويبين الدكتور تقي جون سبب سميتها هجينة، لكونها استنسخت الانگليزية في محاولتها لوضع مفردة أمام كل لفظ ومعنى غربي، ويرى أن العربية قد غرقت فعلا في بحر الانگليزية الطامي.


لقد بينتُ آنفا علم الرجل وتخصصه ومؤلفاته، ومحبته لتلك اللغة وجهاده فيها، وسأبين في التو الجهد المبذول من الدكتور محمد تقي جون حتى وضع مصنفه الهام موضع التنفيذ وتقديمه لأهل العلم والتخصص والمجامع اللغوية العربية، فيقول: (وقد بذلتُ جهدًا ضخما كان الهدف الأول من ورائه الدعوة إلى إحياء العربية الأصيلة وإعادتها إلى الوجود لأنها لغة القرآن الكريم وأمة العرب. ولا يمكن أن يفهم القرآن كما ينبغي والتراث الأدبي والفكري ما لم ترجع العربية التي كتب بها).


ولهذا فقد اعتمد في دراسته على عشرة معجمات، وراجع (265) كتاباً ودواوين (2300) شاعر وعشر معجمات قديمة ضمتها "الموسوعة الشعرية" في إصدارها الثالث، وموسوعة أهل البيت" التي ضمَّت (4709) كتب. وهذه الكتب متنوعة بين: معجمات، وكتب أدب، ولغة، ودين، وتاريخ، وفلسفة وغيرها. كما استعمل ثقافته العريضة في هذا المجال والمكتبات والورقية. كما اعتمد الانترنت، والكتب الانگليزية، ثم استشار المختصين باللغة الانگليزية.


ولا يسعني ـ في الختام ـ إلا أن أضم صوتي لندائه الصارخ الصادق الذي يبين فيه هدفه الأسمى، ومقصده الأسنى من وراء كتابه هذا، فيقول: (إنَّ إحياء لغة العرب واجب ديني أكثر من أي شيء آخر. وما من لغة في العالم استبيحت كما استبيحت اللغة العربية، ولا أهل لغة كالعرب لم يأبهوا لحال لغتهم. وأنا أدعو اللغويين والمثقفين والأكاديميين والمختصين فضلا عن الحكومات العربية إلى المشاركة في إعادة العربية الفصحى إلى الحياة ، وإعادة النظر في لغتنا المعاصرة "الخامسة" بإعادة الالفاظ الحيوية الميتة، والتخلص من الدخيل بما يعيد الوجه المشرق للغة العربية ويثبت اقتدارها على مواكبة العصر، فضلا عن تفوقها وأخذها الصدارة بين اللغات، ولتكون الهوية الحقيقية للعرب كحال الشعوب كلها في حفاظها على لغاتها).

الثلاثاء، 18 يناير 2022

"اللهم ثورة ثقافية في الوطن العربي": حوارٌ جامعٌ بين الموسوعية والموضوعية..

 

               

   

سافر الفتي السكندري إلى باريس ليتم دراسته للفرنسية في السوربون ثم يقفل عائدا في دورة تعليمية سريعة، غير أن أستاذه الفرنسي كلَّفه بكتابة بحث باللغة العربية ما لبث أن عاد إليه الفتى بالبحث في اليوم التالي، أصابت الدهشة البروفيسور الفرنسي من كم الأخطاء التي وردت باللغة الأصلية للفتى؛ فنظر إليه في أسى: (اللغة العربية مظلومة بين أهلها)، وكان على الفتى أن يعاود دراسة العربية في قلب العاصمة الفرنسية، وهو ما جعله يتنقل مدرسا لأبناء الجاليات العربية ثم ينتهي به المطاف مترجما بالسفارة المصرية في فرنسا، وفي أثناء زيارة وزير الخارجية المصري  دكتور عصمت عبد المجيد تم الموافقة على تعيينه بالسفارة.

   لم تكن الإقامة في فرنسا أقصى طموحاته، غير أنها كانت الموطن الذي يحب أن يعيش فيه كما عاش محبوبه وقدوته في مجال الأدب والفكر الدكتور طه حسين، ولهذا عاوده الحنين مجددا لأن يدلو بدلوه في هذا المجال خاصة ما يرتبط بدينه الإسلامي ولغته العربية وحضارته الإسلامية، وحاول خلق وسيط موضوعي بين الثقافتين العربية ـ الغربية دون صدام أو انحياز، ولهذا وجد أنه من المناسب أن يؤسس كيان ثقافي يجمع عقول العرب من أصحاب القامات العلمية والفكرية والأدبية فيه، وقد نجح في تأسيس "اتحاد الكتَّاب والمثقفين العرب" سجلها في العاصمة البريطانية لتكون مؤسسة غير هادفة للربح، ومن خلالها انطلق ليؤسس روافد ثقافية جديدة، منها: "مدرسة العصف الذهني" في محاولة منه لشد الفكر العربي المعاصر نحو رؤى جديدة ومناطق بكر لم يتناولها العقل العربي الذي ظل محاصرا في العديد من القضايا والنقاشات التي لم تفارق مكانها.

      كان للرجل مساهماته العديدة منذ أن درس الأدب المقارن والفرنسية والعربية في جامعة السوربون في باريس حتى صار أستاذا للأدب العربي في المدرسة الدولية في باريس، ومن خلال عمله أمينا للقنصلية المصرية في باريس الذي غادره بإرادته في عام 1996م حيث رفض العمل في سفارة إحدى الدول الأفريقية، على الرغم من اختياره ليرأس جمعية "تحيا  أفريقيا" في فرنسا، واختياره كذلك سفيرًا للسلام في اتحاد السلام العالمي في الأمم المتحدة، غير أنه لم يكن يرضى بالبعد عن معشوقته باريس أبدا، واستكمالا لمنهجه العلمي العربي الغربي عمل على تأسيس النسبة الذهبية في نصوص القرآن، بل كان هو أول من استخدم علم المثلثات في تفسير القرآن الكريم في العالم، مثلما كان هو أول من أثبت واقع الرقم الذهبي في العالم للقرآن الكريم، وأول من استخدم واكتشف نظرية فيثاغورس للرياضة العلمية في العالم عام 2010م،  وكتب فيه مقالته الشهيرة: "مثلث فيثاغورس في القرآن الكريم بين الجانبين من التوحيد ووتر الوحي"، فتم اختياره عضوا في مجلس إدارة الجمعية المصرية والعالمية للإعجاز العلمي فى القران الكريم والسنة،كما عمل أستاذا بارزا في الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.

     كان البروفيسور محمد حسن كامل المفكر الموسوعي العالمي من أشد المؤمنين بقيمة الحوار ومكانته وأهميته ودوره في التلاقح الفكري، والتلقيح الثقافي، ولهذا فقد أولاه اهتمامه الكبير وكان دائما ما يسعى لأصحاب العقول النابهة، والفكر الجديد الرشيد، يستنهضهم لكي يحاوروه من خلال توجهاتهم الفكرية والعلمية، وقد كان رحمه الله شديد الإعجاب بحواره مع معالي الدكتورة رانيا الوردي التي أدارته ببراعة وحرفية وتخطيط مع سبق الإصرار والترصد العلمي أحاطت فيه بالخلفية الفكرية الموسوعية للمتحاور معه، وتطرقت فيه إلى موضوعات لم يكن يطرقها دكتور كامل إلا في الأحاديث الشفاهية، ولم يتطرق إليها في حواراته السابقة، وهو ما يحسب للدكتورة رانيا، ومنها:  "حسن البنا فى عصر العولمة – داعما أم معرقلا أم مفجرا"، و"سيد قطب فى عصر العولمة – بين الدعوة والتفجير".

  وحسنا فعلت المحاورة حين تناولت فى الجزء السادس من الحوار "الفكر الإخوانى" لأنها ترى أنه لا يمكن الحديث عن ثورة ثقافية ودعم إعادة بناء العقلية الثقافية فى مصر والمنطقة العربية دون التعرض إلى الفكر الإخواني ووضعه في ميزان العدل لمعرفة ما له وما عليه، وإلى أى حد يقف كداعم أو كعقبة للدخول في مجتمعات الحداثة بل وما بعد الحداثة، واتفقت في رؤيتها مع مفكرنا الراحل في استحالة اعتبار جماعة الإخوان نواة لحزب سياسي له مرجعية دينية، وجاء الرفض مبنيا على قواعد عقلية وموضوعية وسياسية دون الرفض العاطفي أو المتحيز.

      وقد جاء الجزء العاشر من الحوار ليتناول إشكالية الحلم الديمقراطي في ظل الأنظمة العسكرية ولا سيما بعد الثورات في المنطقة العربية وكيفية دعم الحلم الديمقراطي، غير أن الأسئلة والإجابات لم تناقِش بشكل أكثر اتساعا العلاقة بين الديمقراطية والنظام العسكري وكيفية فض تشابكات هذه الإشكالية الجدلية، غير أن سؤالا خفيا لامس هذا الموضوع، أجاب عنه الراحل دكتور كامل بطريقة رمزية تكفي فيها الإشارة والتلميح دون التصريح حيث قال: (الديمقراطية في الأسرة لابد أن تتخلص من "سطوة فرض رأي الآباء على الأبناء".... "لابد من الحوار والرعاية والعناية دون القهر" ... "نحن نفتقد للنماذج المبدعة بسبب التسلط الأسري ... "لقد فشل القهر في أن يفرض سطوته على الحياة المعاصرة").

     لقد كان من الحق أن أقول أن الدكتورة رانيا الوردي في إعدادها لهذا الحوار المتكامل الأركان قد طالعت مشروع المفكر محمد حسن كامل التنويري وكذلك أعماله الأدبية وكونت نظرة جيدة ثاقبة ناقدة، كما لم يأتِ اهتمامها بمشروع التنوير إلا لارتباطه بمشروعها حول بناء العقلية الثقافية المصرية والعربية والمنهج الثوري للشباب حيث اختارت شخصية الكاتب الشاب الثائر الألماني "يورا صويفر" أنموذجا، وسر اختيارها له أن ثورته لم تتوجه نحو إزالة النظام الديكتاتوري المتمثل في "هتلر" بل لأن ثورته في الأساس كانت ضد ما هو أهم ألا وهي العقلية الثقافية السائدة في هذه الحقبة التاريخية التي تشمل الحاكم والمحكوم.

     ولعل من سيطالع أسئلة المحاورة رانيا الوردي خلال هذا الحوار القيم سيجد أن عنوان الحوار: "اللهم ثورة ثقافية" نابع من تكوينها الفكري والمهني الأكاديمي، وأمنية تتردد في قلبها عبر اهتمامها بثورات الإصلاح التي رسمت  الخطوط الرئيسة لمشروعها النهضوي الثقافي والتنموي الكبير، والذي ترجمته سؤالا كبيرا في نهاية حوارها:

(هل سيكون هذا الكتاب باعثًا لقيام ثورة ثقافية في مصر والوطن العربى تدعم ظهور الإنسان العربى المعاصر والمجتمعات العربية المعاصرة؟ سيظل الزمن وحده كفيل بإعطاء إجابة شافية على هذا السؤال)...

     وأشهد أنني استمتعتُ بقراءة الحوار الذي يضمه الكتاب المعنون: "اللهم ثورة ثقافية في الوطن العربي" وهو من إصدارات مؤسسة الحسيني الثقافية بالقاهرة، والكتاب قيم في مضمونه، وبنائه، وإعداده، وتسلسل موضوعاته، وعمق إجاباته،  وأبعاد الأسئلة الموضوعة بعناية ووعي وعلم.

 

الخميس، 6 يناير 2022

حدث في الأول من يناير 2022م..



قد تراه حدثا عاديا بعد أن تفرغ من قراءة مقالي، ربما، لكن من المؤكد أن إنسانيتك، ومصريتك وعربيتك ستحتاج لمراجعة فكرية، وتاريخية، وربما انثروبولوجية لتمر بكل عادات البشر من التزلف لصاحب السلطان، والهرولة عند أبواب أو موائد من عنده المنفعة، لكن ما حدث في هذا اليوم وتحديدًا في منتصف نهاره أمرٌ لو لم أحضره وأشهده لكان صعب التصديق عليَّ إلى حدٍ كبير.

لقد تنمرتْ إحدى القيادات في مديرية التعليم بالسويس بالمربية الفاضلة السيدة مريم عامر والتي كانت تشغل مدير التعليم الابتدائي، ونتيجة لكثرة المكائد والمؤامرات التي حيكت ضدها، كان عليها إما أن تواجه وتهدر طاقتها التي وظفتها لخدمة التعليم والتلاميذ وأولياء أمورهم فيما ينفعهم، وإما أن تخرج بسلام وهي متوجة على عرش الكرامة الإنسانية، محتفظة بتاريخها الناصع، ومواقفها المشرفة، ووقفاتها الداعمة النبيلة في نفوس كل من عرفها أو سمع عنها ممن عمل معها أو لم يعمل بشكل مباشر، خرجت وقلوب الناس تعلم صدقها ونصاعة تاريخها، ومدى الظلم الذي وقع عليها، وألسنتهم تلهج بالثناء عليها، والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أنشئت لدعمها من داخل مجال التعليم أو من خارجه، لقد صارت حديث مدينتها.

     لم تخرج السيدة مريم عامر منهزمة أبدا في تلك المعركة التي خسر فيها التعليم واحدة من أكفأ من عمل في مجالها، ومن الذين أعطوا بلا مقابل، ولم تتحاكى بما تصنع، أو توظف من يشيعون أخبارها وحكاياتها عبر الإعلام من أجل تلميعها وإبرازها؛ فلم تكن تسعى لتبوأ المناصب، بل تسعى لخدمة من يسعون لطلب العون والمساعدة من صاحب المنصب، وهذا كان من أهم وأوسع مجالاتها، لم تكن ترد صاحب شكاية وله فيها حق إلا وأعانته على استرداد حقه، وتبنت قضيته كأنها قضيتها، لم تحابي أحدًا من علية القوم ومنحته حقا ليس من حقه، انتصرت السيدة مريم عامر لكافة القيم النبيلة التي يجب أن يتحلى بها المعلم وتعلم هي قدر من اختاره الله لتبوأ هذه المكانة السامية وإن شئت قل "المقدسة"؛ فهي مهمة الأنبياء والرسل والحكماء.

    مر عامان على خروج هذه السيدة من منصبها، ولم تقاضِ أحدًا، أو تواصل الانتصار لقضيتها في ساحات المحاكم، قبعت في بيتها بين زوجٍ حنون داعم لها ومساند لمواقفها أثناء العمل وبعد الخروج منه، كانت عنده هي الأهم من الوظيفة والمنصب، مثلما كانت في عين أولادها وقد كانت خير داعمٍ لهم ونعم السند؛ فالنجاح لا يتجزأ أي أن الناجح في عمله لابد أن يكون ناجحا في بيته، إذا كان الصدق والإيثار والتضحية شعاره ومنهاجه وليس حب الظهور، وتصدُر المشاهد، واستهلاك وقت أسرته في المعارك من أجل قنص منفعة هنا أو هناك، كما كان هناك الدعم من عائلتها الكبيرة وعائلة زوجها والجمع الغفير ممن حولها ممن تعرفهم وممن لا تعرفهم.

   وكانت الدعوة الكريمة من صديقي العزيز دكتور علاء حراز مدير عام الشئون القانونية بديوان عام محافظة السويس لحضور حفل تكريم لهذه السيدة الموقرة في اليوم الأول من عام 2022م وهو الموافق ليوم مولدها، وما كنتُ لأتأخر عنها مهما كانت المسئوليات، وكانت المفاجأة التي أبهرتني حين تتالت أعداد الوافدين والوافدات على قاعة الاحتفال من قيادات التربية والتعليم من الذين أحيلوا للتقاعد أو في الخدمة، ومن زميلات وزملاء في مجالها خدموا معها ومن لم يخدموا معها، ومن أناس يعرفونها وأناس لا يعرفونها من خارج مجال التعليم.

  وتوالت الكلمات الطيبات الصادقات في ذكر مناقب السيدة الفاضلة، وقصص تسمع هي لأول مرة ونحن معها ممن خدموا معها، أو من العاملين في نفس المجال سمعوا عنها، وأناس كثر حكوا عنها مواقف إنسانية نبيلة ومعبرة قدمتها وصنعتها لقاء وجه الله تعالى لم تنتظر من أحدهم جزاءً ولا شكورا، بل لم تطالب أحد أن يذيع ما صنعت، وتشهد صفحتها على موقع الفيسبوك بما كانت تكتبه من إرشادات للمتعاملين مع التعليم الابتدائي وإرشادهم لما فيه الصواب وراحتهم، والرد على أسئلتهم واستفساراتهم، فكانت الثناءات والدعوات تتتالى على صفحتها وهي ممتنة شاكرة، ويشهد من خدم معها بأنها كانت آخر العاملين انصرافا من عملها على الرغم من مسئولياتها كزوجة وأم.

  جاء الناس يهرولون امتنانا وشكرًا وإظهارا للمحبة علانية وجهرا تسبقهم قلوبهم عن صدق وقناعة، وهو أمر يجب أن يتوقف عنده القارئ لأخلاق الناس، وتعاملاتهم، وتفاعلاتهم، ومشاهد الدراما التي تظلم إنسانيتهم، لتعلن من خلال هذه الاحتفالية: أن أصحاب العطاء من المسئولين وغير المسئولين لا يذهب تاريخهم سدى، كما أن الناس مازال فيهم مساحات كبيرة من النبل، والتوقير، والمحبة لكل من يمس قلوبهم بالعطاء الصادق، وتجاه الذي لم يتاجر بمشاعرهم من أجل مصالح خاصة به، من هنا وجب أن يتغير المشهد الدرامي في مسلسلاتنا التي تؤكد على نجاح الانتهازي، والمنافق، وفشل الصادق والأمين والمخلص، لقد كان هناك حَدَث تم في اليوم الأول من عام 2022 شاهد على الوفاء وعلى حياة القيم التي لم تمت؛ فقد وفى كل من احتفل ومن دعا لهذه الاحتفالية للمحتَفل بها السيدة مريم عامر التي وفت لمهنتها ورسالتها ولأهلها ولزوجها ولوالدتها الراحلة التي ذكرتهم جميعا في كلمتها الختامية.

    لقد كان يوم ميلاد السيدة مريم عامر.. يوم تكريمها.. ويوم الوفاء .. ويوم الإحسان .. ويوم المكافأة .. ويوم رد الله تعالى فيه المظالم ليس بالقضاء العادل وإنما من الله العادل، وكان الرد أجزل وأوفى وأفضل حين صدر الحكم لصالحها من قلوب الذين أحبوها واحترموها ورأوا أنها بحق فخر سيدات مدينة السويس.