السبت، 5 نوفمبر 2022

"قبل الإفطار" بين "أونيل" و "مرجان"..

  


       
عرفت الدراما العربية طريقها إلى مسرحية "قبل الإفطار" ذات الفصل الواحد، للكاتب المسرحي الأمريكي العالمي "يوجين أونيل" حين ترجمها الكاتب الكبير الراحل "بهاء طاهر" عام 1959م ونشرها بمجلة "المجلة" عدد (29)، ثم أخرجها للإذاعة وتم تقديمها عام 1962؛ إذ كان أول من أدخل تقديم الروايات العالمية "إذاعيا" في البرنامج الثاني للإذاعة المصرية، وقامت بدور البطولة الفنانة القديرة "سميحة أيوب" سيدة المسرح العربي.


وقد تم تقديم هذه المسرحية لأول مرة في نيويورك عام 1916م، وقد قرأتها بترجمة الأستاذ بهاء طاهر وترجمة حديثة للأستاذ عزيز الطائي، ورأيتها بنفس الترجمة الأخيرة حين تحولت المسرحية لفيلم قصير، كما رأيتها حين قدمها المخرج أيمن مرجان الذي قدم "النص" ممسرحا برؤية جديدة تخالف النصين المترجمين، من حيث الصباح المشرق الذي قد بدأ في بيت الشاعر والقاص "ألفرد رولاند" وزوجه "مسز رولاند" في تمام الساعة والثامنة والنصف صباحا؛ كما خالفه في كون البطلة "نهال فهمي" التي قامت بدور "مسز رولاند" أقل منها في السن والبدانة؛ فمسز رولاند في العقد الثالث من عمرها، والسبب أن المسرحية مكونة من طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية.


نجح مرجان في تصوير الغرفة الضيقة بمكوناتها من خلال الديكور والإضاءة في استبطان التكوين النفسي للشخصية المحورية، متعاملا مع المونودراما التي يراها البعض من أشكال المسرح التجريبي، ببداية تعبيرية الأداء من البطل والبطلة، توحي في نفس المتفرج بأنه ليس بيتا بل سجنا أو زنزانة في سجن من خلال القضبان الطويلة التي تقف بجانب القضبان القصيرة التي تسد النافذة، بل أن خلفية مقعدي المائدة على هيئة قضبان.


لا يلتزم مرجان بوجود "ألفرد" في النص الذي رسمه أونيل وإعلانه عن نفسه بالتثاؤب المسموع دون الظهور، ليقدم بديلا عنه ظلاله التي تعكسها الإضاءة على شاشة جانبية للمسرح، وكأنه تفتيت خفيف للمونودراما التي استحالت على يديه إلى "ديو دراما" خفيفة، كسر بها ملل واحدية المكان، الذي حاول أونيل كسره بكثرة الحركة من تلك الزوجة الثرثارة بابتسامتها الانتقامية.


وقد لعبت الإنتقالات الضوئية مع التلاعب بالموسيقى تصويرا رائعا في التجسيد النفسي لشخصيتين يسكنان نفس المكان، ولا يتحاوران ولا يلتقيان، ولا يتحرران من سجنهما الاختياري، ولا يجد الزوج وسيلة للخروج منه بغير الخروج من الحياة ذاتها، فيما رأت الزوجة أنها ستبادر بالخروج إلى الشارع لتتحمل وحدها المسئولية عنهما، وهذه ستسعد كثيرا المناديات بالأدب النسوي، وكأن الخروج الاختياري/الإجباري من الشاعر تمردًا على منغصات الزوجة التي تصر على البقاء في هذه الوضعية ليس حبا في زوجها، وإنما ثأرا لنفسها وكرامتها وانتصارا لها بديلا عن الهزيمة والتسليم أمام معشوقته "هيلين"، وهذا تصوير رائع من أونيل وخبرته بنفسية المرأة.


نجح فريق العمل بقيادة البارع أيمن مرجان في تقديم هذا النص العالمي لأونيل برؤية جديدة تخالف من سبقه في التعامل مع النص واستنطاقه، واستخراج مكنونات نفسية أكثر من التقاطع الظاهري بين الشخصيتين، وأجادت الفنانة الشابة نهال فهمي في تحمل هذا العبء الثقيل في الوصول بسفينة العرض إلى مرفأ الأمان والنجاح، وإعلان البشارات الباكرة بجيل جديد واعد سيعيد الشباب للمسرح العربي، ويضمن له الاستمرار بحرفية وعلمية ومهنية ورؤية إبداعية خلاقة، تنحو إلى طزاجة الإبداع الجديد وإن استندت ثقافتهم للعراقة.

السبت، 10 سبتمبر 2022

لقاء الدكتور السيد إبراهيم بإذاعة جنوب سيناء ونقد "عكس اتجاه السير"..




(امتدادًا لجيل النقاد الكبار فرسان الكتابة..
مدرسة النقد البناء وصدق البيان..
لقاء الأستاذ الدكتور السيد إبراهيم أحمد
ونقده حول المجموعة القصصية "عكس اتجاه السير"
..كل التقدير والاحترام لفارس النقد الأدبي)
Like
Comment
Share

الخميس، 4 أغسطس 2022

بزوغ وأفول الشاهنشاهية البهلوية في إيران..

 

  مايزال تاريخ إيران الحديث والمعاصر يحظى باهتمام الباحثين والمؤرخين ليس من العرب فقط بل وغيرهم أيضا؛ فإيران إلى جانب تمتعها بموقع استراتيجي فريد في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن لها مكانتها الحضارية الفارسية، كما تمتلك ثروات طبيعية وموارد مختلفة ميزتها في كثير من الجوانب، غير أن الخلط الواضح عند البعض من أن الشاهنشاهية البهلوية كانت أسرة ضاربة في عمق التاريخ الإيراني كان هو الباعث إلى هذه البانوراما التاريخية التي تبدأ مع نشأة هذه الأسرة وتنتهي بأفولها السريع نسبيا.

   تقع إيران في غرب آسيا، وهي هضبة عالية ترتفع بين سهول دجلة والفرات، وهي ثاني أكبر دولة بالشرق الأوسط من حيث عدد السكان بعد مصر،  وكذلك ثاني أكبر بلدان الشرق الأوسط مساحة بعد السعودية، لذا فهي تتمتع بموقع جيوسياسي جعلها ملتقى لثلاث جهات آسيوية: غرب آسيا ووسطها وجنوبها، يحدها من الشمال أرمينيا وأذربيجان وتركمانستان، وتطل على بحر قزوين، ويحدها من الشرق أفغانستان وباكستان، ومن الجنوب الخليج العربي وخليج عمان، ومن الغرب العراق ومن الشمال الغربي تركيا، عاصمتها طهران، وهي بعيدة عن البحر الأبيض المتوسط، وتحفها الجبال من كل جهاتها مما جعل مناخها قاري، حار جدا صيفا وبارد شتاءً، وقد جعل هذا الموقع لإيران أهمية كبرى خاصة عند الدول الكبرى مما جعلها محط أنظارهم وخاصة الاتحاد السوفيتي الذي يتجاور مع الحدود الإيرانية البرية ، وأتت كلمة "إيران" من كلمة "إيريان" وتطلق على القبائل الرحل التي كانت تسكن هضاب آسيا الشمالية، ثم استقرت بالمناطق الجنوبية الغربية، ومن سكن هذه الهضبة أطلقوا عليهم اسم "النجباء".

     تختلف الكثافة السكانية من موقع لموقع في إيران وذلك تبعا للظروف المناخية، والعوامل التي تساعد على قيام النشاط الزراعي، أو ظهور بعض الثروات وأكثرها المعدنية وهي التي تجلب السكان بحسب وجودها للعمل أو لقيام نشاط صناعي، غير أن أكثر المناطق الآهلة بالسكان هي العاصمة طهران؛ فتتميز بوجود المصانع الكثيرة بها، ولجودة مناخها، تليها في الكثافة السكانية جيلان وأذربيجان الشرقية ومازندران وكلها مناطق واقعة على بحر الخزر، وهناك منطقة الأهواز وأذربيجان الغربية، وأصفهان وشمالي خراسان ومنطقة سيستان وأهم ما يميز هذه المناطق أنها تقوم على الزراعات المختلفة، والسهول والثروة النفطية، بينما في المناطق الأخرى الإيرانية تشكو من قلة الكثافة السكانية بل لا تكاد تشغلها أفراد لفقرها.

     تتكون إيران من أربعة عشر إقليما، وعلى الرغم من أن المسلمين يشكلون الغالبية العظمى من السكان، إلا أن هناك أقليات دينية، وعرقيات مختلفة يتكلمون فيما بينهم بأكثر من مائة وعشرة لغة، وكانت إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي  مملكة دستورية وهو على قمة السلطة التنفيذية، كما أن السلطة التشريعية تضم مجلسين، أولهما: المجلس الوطني وينتخب أعضاءه الشعب، وثانيهما: مجلس الشيوخ وينتخب الشاه نصف أعضائه الذين يبلغ عددهم الكامل ستين عضوا.

     تأتي الأجناس التي تسكن إيران على الترتيب التالي من حيث الكثافة السكانية، مما يعني أن إيران تجمع مجموعات سكانية متباينة: الإيرانيون وهم الأغلب، يليهم الأتراك بفارق كبير، وبفارق أكبر يليهم العرب، ثم أقل كثيرا البلوخ أو البلوش وبنفس نسبة البلوش أجناس أخرى، ويتحدثون لغات عديدة، أغلبها مندثرة، وأشهرها: اللغة الفارسية، ثم تأتي اللغة الكردية في المرتبة الثانية، يليها في المركز الثالث اللغة البلوشية، وأيضًا هناك اللغة المازندرانية لكن الفارسية هي اللغة الرسمية لإيران، ويشكل المسلمون الكثافة السكانية الأكبر ثم النصارى من الأرمن الذين يقطنون المدن الكبرى: أصفهان وتبريز وطهران، ثم اليهود الذين يسكنون أيضا طهران، ثم النساطرة، والزرادشت، والبهائيون، على أن "التشيع" هو المذهب الرسمي للدولة.

    عرف العالم تاريخ إيران القديم في أسرها الحاكمة: الكيانية والسلوقية والأزرقية، ويمثلها كورش وقمبيز ودارا، ثم جاءت الإمبراطورية المتوسطة تتمثل في الساسانية وعرفت إيران عبادة النار، وقضت الجيوش الإسلامية على هذه الدولة بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في معركة القادسية، وقد حكمت إيران الأسرة الصفوية التي أدخلتها في التشيع المذهبي، ثم "آل قاجار" الذين كانوا عبارة عن اتحاد قبلي تسللوا إلى إيران على عدة مراحل، وأعلنوا أنفسهم حماة التشيع، واستطاعت القوات الروسية والبريطانية التي أوشكت على دخول طهران مع قيام الثورة في "تبريز" أن تنهي عهد هذه الأسرة.                                                                                                                                                                                    تاريخ الأسرة البهلوية من النشأة حتى حكم إيران: 

 أخذت الأحوال تتردى أواخر عهد الأسرة القاجارية، وقد طرح رضا شاه بهلوى فكره في التغيير بنجاح، عندما كان أحمد شاه قاجارى في منفاه بأوروبا، وتم تولية "رضا خان" الذي أسس أسرة ملكية جديدة أسماها: "الأسرة البهلوية"، وقد اجتمع المجلس النيابي 1925م وأقر إنهاء حكم الأسرة القاجارية، وتم تنصيب رضا شاه ملكا على إيران، ثم تم تتويجه عام 1926م.

    جاء مشروع تغيير السلطنة بتغيير مادة واحدة وذلك بعد أن أصدر المجلس القانوني الخاص بإلغاء ألقاب التفخيم، وتحديد اسم العائلة، وتم استصدار بطاقات الهوية، وتعديل المواد التي تنص على بقاء المُلك في السلالة القجارية والتي لا تمانع في انتقال السلطة إلى رضا شاه البهلوي ونسله من بعده، غير أنهم اشترطوا أن يكون ولي العهد القادم من أم إيرانية.

     في مطلع السادس من أغسطس عام 1941م، قامت القوات الروسية بمهاجمة إيران أعقبها دخول القوات البريطانية من ناحية الحدود العراقية وتم إغراق كافة سفن إيران، وراحت أرواح كثيرة نتيجة الهجوم، ولهذا انهارت قوى الجيش الإيراني سريعا، وأدرك الجميع أن نظام رضا شاه  كان ظالما عاجزًا وفاشل على المستويين السياسي والعسكري، لتثور بعض القوى الإيرانية متحدية الشاه وهو ما فرض عليه تقديم العديد من التنازلات. في الوقت الذي بدأ تحرك جيوش الحلفاء نحو طهران عاصمة البلاد، فلم يجد الشاه من سبيل سوى التنحي عن حكم إيران عام 1941، بعد أن كتب وثيقة خاصة عرضها رئيس الوزراء الإيراني على السفير البريطاني في طهران بتوقيع رضا شاه يعلن فيها تنازله عن العرش لولى عهده وابنه محمد رضا، بينما استقر هو في "موريشيوس البريطانية" التي كانت منفاه الأخير.

  لقد أطاحت قوى التحالف بالشاه الأب رضا بهلوي؛ لأنها خافت من ميله نحو "أدولف هتلر" في الحرب العالمية الثانية وكان من الممكن أن يقوم بتزويده بالنفط الإيراني، وهذا ما سيؤدي حتما لرجحان كفة ألمانيا بقيادة هتلر على كفة الحلفاء؛ فلم تلبث أن قامت قوات التحالف باحتلال إيران، وجاءت بالشاه الجديد ونصَّبته وإيران لم تزل محتلة، لكنهم خوفا من أن يعيد سيرة أبيه، ولكي يطمئنوا إليه تماما عقدوا معه الاتفاقيات والمعاهدات، ثم يؤكدون بل يفرضون عليه إخلاصه لهم وإلا عزلوه.

الشاه محمد رضا بهلوي: حياته، وسياسته في حكم إيران من عام 1941 إلى عام 1953م:

      وُلِد محمد رضا وأخته التوأم "أشرف" في حي "سنغلج" بالعاصمة طهران في نهاية شهر أكتوبر عام 1919م، وكان الأب رضا خان والأم تدعى تاج الملك ابنة تيمور خان، وكان رضا خان برتبة كولونيل في الجيش،  أما المولود "محمد رضا" فكان أكبر الأبناء في الذكور والثاني في الترتيب بين الأخوة، وقد سافر محمد إلى مدينة "رول" قرب جنيف في "كولج دوروزي" في سويسرا  للدراسة، بعد أن أتم دراسته في طهران ليعود بعد خمس سنوات ويلتحق بالكلية الحربية الإيرانية، ثم تخرج برتبة ملازم ثانٍ وتم تعيينه مفتشا عاما للجيش، وبعد أن أصبح  والده ملكا لإيران، تم اختياره وليا للعهد، فكان الاهتمام به شديدًا لكونه  ملك إيران القادم.

       بعد تهديد دخول الجيشان: السوفييتي والبريطاني لإيران بالتزامن مع ثورة الشعب على رضا شاه، وتنازل لابنه وولي عهده الشاه محمد رضا عن العرش، كانت إيران تمر بأزمة عاصفة تمس الأحوال السياسية الداخلية، في الوقت الذي بدأت الأحزاب والعديد من الجمعيات السياسية تكوِن نفسها، ومع تنازل الشاه القديم كان الضعف يدب في الحكومة المركزية، وقد استغلت هذا  القوميات غير الفارسية  فاستمرت في نضالها والمطالبة بحقوقها، والمناداة بإطلاق الحريات وتطبيق الديموقراطية، ولم تكن الأوضاع الاقتصادية في البلاد بأحسن حالا من الأوضاع السياسية؛ فإيران تشهد وقتا خانقا تسبب فيه اندلاع الحرب العالمية الثانية، فازدادت الأزمات الاقتصادية الطاحنة، ولم تكن إيران في ذلك الوقت مستقلة بل تعيش تحت وطأة الاحتلال للدولتين: الروسية والبريطانية.

       في هذه الأثناء خرج الشاه محمد رضا شاه على الشعب ليعلن عن سياسته الخارجية في خطاب أدائه لليمين الدستوري بضرورة أن تتعاون الحكومة الإيرانية مع حكومتي دولتي الروس وبريطانيا لارتباطهما بمصالح كبيرة مع الدولة الإيرانية، وبالفعل جرى التوقيع على معاهدة بين إيران وبين الحكومتين السوفيتية والبريطانية في عام 1942 تم التعهد فيه من قبلهما بأن يحترما أراضي دولة إيران ووحدتها وسيادتها وأيضا استقلالها، وأن يسحبا قواتهما في مدة لا تتجاوز نصف العام مع نهاية الحرب، على أن يحصل الحلفاء على حق استخدام المنشآت النفطية الإيرانية في الأغراض العسكرية، وأيضا ضمان وصول الإمدادات إلى الاتحاد السوفيتي عبر أراضي إيران.      

سياسة محمد رضا بهلوي في حكم البلاد في الفترة من عام 1941 إلى عام 1953م:

     في هذه الفترة من حكم الشاه محمد رضا بهلوي كانت أحوال إيران السياسية والاقتصادية والاجتماعية سيئة والتي انتقلت إليه مع توليه المُلك بعد تنازل والده وقد بلغ عامه الواحد والعشرين، وقد عمل الشاه الجديد على كسب ود وثقة حكومات الحلفاء، مما اضطره أن يسير في سياسته بخلاف سياسة الشاه القديم، غير أن سنه الصغيرة وعدم مشاركته في الحكم لم تكفل له الخبرة السياسية في الوقت الذي فقدت فيه إيران استقلالها وعاشت في ذيل الغرب بأحوالها السياسية والاقتصادية بدعوى تحديث إيران واستلهام النظام الديمقراطي وتطبيقه.

   اتجهت سياسات الشاه في محاولة لاستقطاب ولاء الجيش له، وهو ما ضمنته له الولايات المتحدة الأمريكية حين قدمت المساعدات العسكریة لكي يستعيد الجیش قوته، ويضمن الشاه طاعته له حتى يتمكن من الهيمنة على أحوال إيران الداخلية وما فيها من ثورات ومظاهرات، وكان يضع نصب عينيه تخلي الجيش عن والده مما دفعه لأن يجعل منه أداة قوية لحمایة العرش، ولهذا حرص على أن يكون وزير الحربية بغير صلاحيات مباشرة منه على الجيش على المستويين القيادي أو الإداري، كما تم تعيين أبناء من العائلة البهلوية في الجيش لضمان السيطرة، وتأمين اتصالات الشاه مباشرة مع قواد المواقع بالجيش.

   لقد ظل هاجس فقد الشاه القديم لعرشه في رأس الشاه الجديد الذي أصبح حذرا أكثر من اللازم، وأقام كل علاقاته على الريبة والرقابة؛ فجعل الحرس الإيراني يراقب الجيش المحترف، ووضع قواد الجيش تحت المراقبة المستمرة ليعلم من فيهم القائد الذي ينطوي الثورة على العرش والإطاحة بالشاه، وأنشأ قوة للردع تم تشكيلها من المجندين وضباط الاحتياط وسلاحي الطيران والبحرية والحرس الإمبراطوري، وأصبح جهاز الاستخبارات العسكرية أكفأ الأجهزة بالجيش الإيراني تنظيما وتطويرا بشكل مستمر، ومنح الشاه لهذا الجهاز ورئيسه التواصل المباشر معه على الفور، وله حق تجاوز القائد العام ورئيس الأركان ولا يطلعهما على الأسرار أو الأخبار.

   لم تكن أبواب القصور الشاهنشاهية تغلق أبوابها أمام رئيس المخابرات؛ فيدخلها بدون استئذان ولو من الشاه نفسه وبدون تحديد موعد، كما كانت ميزانية الدولة تسمح دوما بما يطلبه دون نقاش، وانحصرت مهام الجهاز في تعزيز الولاء للشاه ضد أي أعمال إرهابية ضد الشاه الذي أحاطوه بنوع من التقديس أو ضد النظام أو تهديد أمن البلاد، وتأمين الشاه داخليا وخارجيا.

سياسة محمد رضا بهلوي في حكم البلاد في الفترة من عام 1953 إلى عام 1965م:

    لقد تعرض الشاه لمحاولة اغتيال في زيارته للجامعة، وقد تم إفشالها، وهو ما جعله يتخذ عددا من القرارات الفورية التي كرست لزيادة إجراءات القمع  مثلما زادت ديكتاتوريته، وتسبب هذا في زيادة السخط الشعبي عليه وعلى سياساته، ثم أعلن عن تأسيس مجلسا من النواب الإيرانيين لكنه حرص على أن يعين نصف أعضائه من الأشخاص المقربين منه، ثم رد الأراضي  لأصحابها التي سبق لوالده أن صادرها في زمنه ليبدأ بعده تحركا واسعا في القضاء على كل الحركات التي تنادي بالانفصال عن الدولة الإيرانية، ثم  أجرى العديد من التعديلات الدستورية.

   قام العديد من قطاعات الشعب الإيراني وعددا من القوى السياسية بالمطالبة بإلغاء الاتفاقية الموقعة مع شركة البترول البريطانية ـ الإيرانية لكونها لم تفِ بالتزاماتها، ورفضا لتدخلها غير المبرر في شئون إيران الداخلية، ثم ارتفع سقف المطالبات والطموحات لينادوا بتأميم صناعة البترول، ونشطت على الفور الجبهة الوطنية ورئيسها الدكتور محمد مصدق فقامت بحملة غير مسبوقة في تاريخ المعارضة الإيرانية برفض المعاهدة التي كان الشاه ينوي توقيعها، وضرورة تطبيق مواد الدستور الإيراني واحترامه من قبل الشاه وتأميم صناعة البترول، غير أن الشاه رفض كل هذه المطالب، مما جعل الطبقة العاملة ورئيس الوزراء ينضمون إلى المعارضة مما مثَّل ضغطا شديدا علي الشاه، وخرجت الجماهير الساخطة عليه في الشوارع، وكان أن تم انتخاب دكتور مصدق رئيسا لوزراء البلاد، وتم تأسيس الشركة الوطنية للبترول.

  شهدت الفترة من عام 1953 إلى 1965  من حكم  الشاه، الإجراءات التي هدمت  قرار تأميم النفط الذي حاربته بريطانيا بل وحرضت ودشنت مقاطعة عالمية لاستيراد البترول من إيران، ولهذا عمد الشاه إلى رفض منح صلاحيات للدكتور مصدق ليستكمل مشروع التأميم فما كان من مصدق أن استقال على الفور، فاشتعل الشارع الإيراني بالمظاهرات المطالبة بعودة مصدق للحكم من جديد، وقد رضخ الشاه وأعاده رئيسا للوزراء ووزيرا للحربية، فاستغل مصدق منصبه في تطهير قيادات الجيش الإيراني من  الموالين للشاه وعمد إلى تخفيض ميزانية وزارة الحربية، ثم قاد انقلابا على الشاه الذي هرب من إيران، غير أن المخابرات الأمريكية تدخلت في الوقت المناسب حين أطلقت المظاهرات المؤيدة للشاه وسياساته ومطالبة بعودته للبلاد، وتنفض المظاهرات المؤيدة لمصدق ويعود الشاه من الخارج، ثم يُسجن الدكتور مصدق لمدة ثلاث سنوات ويلزم منزله تحت الإقامة الجبرية تنفيذا للحكم الصادر ضده من المحكمة العسكرية، فوافقت الحكومة على قانون تأميم صناعة البترول، وتم ملاحقة كل من أيدوا مصدق، فسجنوا وأعدموا الكثير منهم  تنفيذا لأحكام المحكمة العسكرية.

   حاول الشاه محمد رضا بهلوي القيام بإصلاحات شكلية  منذ أن تولى عرش ايران عام 1941 كان غرضه منها أن  يكسب الشعب الإيراني لصفه، خاصة بعد أن قاسى معظم هذا الشعب من ديكتاتورية أبيه رضا شاه، وقد شهد مطلع الستينيات من القرن الماضي ازدياد الأوضاع السياسية والاقتصادية سوءًا، غير أن علماء الدين عارضوا لائحة انتخابات المجالس المحلية في الثامن من تشرين الأول عام 1962م، والتي أعلنت عن حق النساء في الانتخابات والترشيح لأول مرة في التاريخ الإيراني، وألغت اللائحة شرط الإسلام عند الترشيح، وأجازت أيضا القسم على أي كتاب سماوي غير القران الكريم، وكان على رأس المعارضين الإمام الخميني مما دفع الحكومة إلى وقف قانون المجالس المحلية، ثم أطلق الشاه برنامجا إصلاحيا شاملا أراد منه تغيير بنية الاقتصاد الإيراني، في يناير 1963م، اسماه ”ثورة الشاه والشعب” والمعروفة بالثورة البيضاء، ويتكون من اثنى عشر مبدأ صدرت بالتوالي، بهدف استغلال كافة الإمكانيات للقضاء على كافة أشكال الظلم والاستغلال والتقاليد الرجعية، ونص المبدأ الأول منها على ضرورة تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، بهدف القضاء على النظام الإقطاعي، وتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، وتشجيع إدخال التقنيات الحديثة في الإنتاج الزراعي، وعمل الشاه على تأميم الموارد الطبيعية، بإعتبارها ملكًا للإيرانيين، فنص المبدأ الثاني على تأميم الغابات والمراعي الطبيعية، ويختص المبدأ العاشر بتأميم مصادر المياه.

     كما تضمنت الثورة البيضاء ثلاث مبادئ تختص بالقطاع الصناعي: المؤسسات الصناعية والعمال، وهو مبدأ بيع أسهم المصانع والشركات الحكومية حيث تعطى الأولوية في الشراء لكبار ملاك الأراضي الزراعية الحائزين على سندات دفع مقابل الأراضي التي أخذت منهم ضمن مراحل الإصلاح الزراعي، وتفعيل المبدأ الخاص بمنح العمال حق المشاركة في صافي أرباح الشركات، فأصبح للعامل الإيراني الحق في الحصول على 20% من صافي الربح السنوي للمؤسسة الصناعية التي يعمل بها، والعديد من المبادئ التي حاولت مصالحة الشعب.   

  تبلورت مبادئ الثورة البيضاء حول إصلاح التعليم، والصحة، والتعمير، وقد صاحبت إعلان هذه المبادئ حملة إعلامية واسعة سواء على  مستوى وسائل الإعلام المحلي، أو الإعلام الغربي من خلال  وكالات الأنباء التي تناقلتها عبر حملة إعلامية واسعة، من أجل  إدلاء الغالبية من الناخبين بأصواتهم في الاستفتاء لصالح هذا المشروع الذي يهدف إلى تجييش واستغلال الشباب المتخرج حديثا من المدارس الثانوية والمعاهد العليا والجامعات، أو من الذين سيؤدون الخدمة العسكرية فيدخلون في كتائب منظمة إلى مناطق الريف ويساهموا في خدمات التعليم والصحة والتعمير.

    كما صدر المبدأ الخامس من مبادئ الشاه الذي ينص على حق المرأة في الانتخاب تطبيقا لمساواتها الكاملة للرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية، والذي جاء تتويجا لمطالبات الإيرانيات من خلال المنظمات التي تم تكوينها والإعلان عنها، وأولها منظمة مسار جديد عام 1955 وكذلك الرابطة النسائية لأنصار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1956 وفي عام 1959 تشكل المجلس الأعلى للمنظمات النسائية وقد تركزت جهوده في  حق المرأة الإيرانية في التصويت.

     أصدر الشاه في أكتوبر 1965 قرارا يقضي بضرورة تشكيل دور الإنصاف في الريف ومجالس التحكيم في المدن وذلك لتحقيق العدالة وسرعة تنفيذها بين الجميع، كما تم الإعلان عن ضرورة تطبيق الثورة الإدارية في أكتوبر 1967 للتخلص من المركزية المتغلغلة في الجهاز الإداري، وإذا كان لمبادئ الثورة البيضاء أهمية من الناحية النظرية إلا أنها فشلت عند التطبيق، لأن الشاه افتقد النوايا الصادقة في تطبيقها، وكان هدفه منها فقط امتصاص غضب الإيرانيين الساخطين عليه.

سياسة محمد رضا بهلوي في حكم إيران من عام 1965 إلى عام 1979م:

   حرص الشاه محمد رضا على أن يعيد تسليح الجيش ويطوره في عام 1965م، ودافعه  يكمن في قلقه من الاتحاد السوفيتي، ودعمت هذا القلق عنده أمريكا حتى أدخلت إيران في حلف الناتو، وقد قرر الرئيس نيكسون أن تقوم إيران بدور الشرطي أو الحارس الأمريكي في منطقة الخليج العربي،  وبهذا علم الشاه أنه وإيران ونظامه ليس عليهم أن يخافوا من أية تهديدات خارجية لأنه والخليج  يخضعون للحماية الأمريكية الدائمة، ولهذا فقد اهتم بالأمن الداخلي الذي يقلقه بالفعل كثيرا.

   ظلت سياسة الشاه قائمة على موالاة الغرب وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل وبريطانيا، فحرص على أن يكون الحليف الأكبر لها، في الوقت الذي حرص أن يكون صديقا لكافة الحكام العرب، وتخرج العراق من هذه الصداقة؛ للتوتر الدائم بينه وبينها في العلاقات، وقد أصبحت إيران هي فردوس الغرب وأمريكا خاصة  بعد زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لها عام 1972م، وفي هذه الزيارة  تم منح الشاه تفويضا سياسيا مطلقا بشراء أية معدات عسكرية تحتاجها إيران ما عدا الأسلحة النووية.

    لقد خسر الشاه رضا بهلوي الطبقة العاملة الإيرانية طوال مدة حكمه؛ فلم تنل منه اهتماما كبیرا، ولهذا فقد ظلت هذه الطبقة محرومة من أدنى حقوقها مقارنة بنفس الطبقة في الدول المجاورة لإيران أو المتقدمة التي تستورد منها الأسلحة ولم تستورد التشريعات العمالية التي تنصف بها العامل الإيراني الذي خاض نضالا طويلا مریرا من أجل أن تتحقق أبسط مطالبه، وقد كان حزب "توده" الشیوعي من أول الأحزاب التي مارست دورها السیاسي واحتوت الطبقة العاملة وتبنت مطالبها في السنوات الأولى من تولي الشاه محمد رضا بهلوي السلطة في ایران عام 1941م، ومع بوادر الأزمة الاقتصادیة التي عرفتها ایران عام 1976م، مما اضطر  الحكومة إلى وقف العدید من المشاریع الاقتصادیة وهو ما اقتضى تسريح عدد من العمال الذين عاشوا بلا عمل مع ما يقاسونه من ظروف حياتية صعبة، فلم يكن من سبيل أمامهم إلا القیام بالإضرابات والاحتجاجات التي شاركها فيها معظم قطاعات الاقتصاد الایراني.

   لم يكن هناك سوى المؤسسة الدينية التي يلجأ إليها العمال تعبيرا عن سخطهم على الشاه وحكوماته المتعددة التي لم تنصف العمال، وقد صادف هذا فرحة لتلك المؤسسة التي كانت أيضا غاضبة بل ناقمة على الشاه وسياساته؛ فقامت حركة اضرابات واسعة في قطاع النفط في الجنوب الإيراني ما بین عامي 1977 و 1979م، فشلت السلطة الحاكمة في قمعها، وكانت فرصة سانحة لرجال الدين أن يقودوا تلك الجموع الغاضبة نظرا لكون رؤوس الحركة العمالية  من الفئات غير المهرة  بالأمور السياسية، ویفتقدون الوعي الطبقي الصلب، غير أنهم في شهر شباط من عام 1979  استطاعت هذه الطبقة أن تطيح بنظام الشاه إلى الأبد عندما أضرب عمال النفط في مدینتي الأحواز وعبادان ، وأغلقوا أنابیب النفط الخاصة بالتصدير للخارج.

   لم تكن وحدها الطبقة العاملة الإيرانية أو المرجعيات الدينية الإيرانية من أشعل لهيب الثورة ضد نظام الشاه بهلوي بل كان هناك دورا مماثلا ولا يقل أهمية عنهما وهو دور الفكر ورجاله وعلى رأسهم "علي شريعتي" مُنظر الثورة الإيرانية  من خلال فكره السياسي الموجود في معظم كتاباته وخطبه الذي يرى أن بلاد العالم الثالث مثل بلده إيران في حاجة ماسة إلى ثورتين مترابطتين ولابد أن يتعاصرا في زمن واحد، أما الأولى فثورة وطنية مهمتها أن تقضي على كل أشكال الهيمنة الاستعمارية، وتعيد للحياة  ثقافة إيران وهويتها الوطنية، وأما الثانية فثورة اجتماعية تقضي على كل أشكال الاستغلال، وتبيد الفقر والرأسمالية من جذورهما، وتعمل على إقامة اقتصاد عصري ومجتمع عادل ومتطور، ولاقت أفكار شريعتي في إيران أرضا خصبة ففي مجتمع ثقافته الدينية ثورية في جوهرها، تنسجم مع أهداف الثورة المزدوجة التي ينادي بها وطنيا واجتماعياـ وقد ألهمت  بالفعل المؤمنين الحقيقيين محاربة كل أشكال الاستغلال والظلم الاجتماعي التي حدد شريعتي شرورها في: الإمبريالية العالمية او ما تتضمنه فيها من الشركات متعددة الجنسية، والإمبريالية الثقافية، الاستغلال الطبقي، والتغريب.

     لهذا كانت مهمة شريعتي التي حددها لنفسه هي العمل على تكوين الفكر والثقافة  اللذان يعملان على الوصول بالجماهير الإيرانية إلى أن يكونوا داخل الحالة الثورية، وتكون أهداف وغايات هذه ثورة أكبر بكثير من مجرد الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي البهلوي، بل يكون الهدف هو تغيير النظام الذي لا يعرف المساواة، بل يعرف الظلم والاستغلال الاجتماعي، وأن يعاد بناء المجتمع على أسس جديدة  في كل مرتكزاته، ومن أجل الوصول إلى حالة الثورة التي ينشدها علي شريعتي إيقاظ وعي الجماهير.

  لم يفلح التسليح المتقدم، ولا القوات المسلحة، ولا السافاك، ولا علاقات الشاه محمد رضا بهلوي بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب وإسرائيل في أن يحموه من غضبة الشعب الإيراني بكافة أطيافه ورجال الدين والأحزاب الشيوعية وطلبة الجامعة، مع محاولاته العديدة حتى في إقالة رئيس وزرائه وهو من أكثر أصدقائه أن يبعده عن مصيره المحتوم .

    حاول رئيس الوزراء الجديد إقناع الشاه أن يوقف سيل التضخم بتقليص ميزانيات الجيش والتسليح لكنه رفض، في وقت تزداد الغضبة العامة التهابا عليه، وتتزامن مع تقدم الإمام الخميني نحو إيران لدخولها دخول الأبطال، ويحاول الشاه أن ينشئ حزبا يفرضه على الجميع أسماه "حزب البعث الإيراني" بعد أن أحس أن رجاله وأمريكا والأصدقاء قد بدأوا في التخلي عنه تدريجيا.

    وانتهت الأحداث المتسارعة بقيام الثورة وخروج الشاه إلى مصر، بعد أن أقدم على العديد من اتخاذ القرارات التي تحاول تهدئة المتظاهرين دون جدوى، وسقط حكم الأسرة البهلوية الشاهنشاهية ليبدأ عهد الملالي، وتتحول إيران إلى دولة كهنوتية يحكمها الولي الفقيه عبر سلطة مطلقة إلى حين.      

 

المصادر:

1ـ رزاق، فاتن محمد (2018)، الحركة النسوية الإيرانية قبل الثورة الإسلامية 1979 وبعدها (دراسة في الأهداف والمعوقات)"، مجلة مدارات إيرانية، العدد الأول، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا.

2ـ صالح، حقي شفيق (1967)،  سقوط عرش الطاووس إنهيار القوات المسلحة الإيرانية في عهد الأسرة البهلوية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة.

3ـ إسماعيل، محمد صادق (2010)، من الشاه إلى نجاد.. إيران إلى أين؟، العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.

4ـ الساداتي، أحمد محمد (1939)، رضا شاه بهلوي نهضة إيران الحديثة،  مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر.

5ـ الشمري، ذيبان (1983)، إيران بين طغيان الشاه ودموية الخميني، مؤسسة المدينة للصحافة، جدة، السعودية.

6ـ مجذوب، طلال (1980)، إيران من الثورة الدستورية حتى الثورة الإسلامية 1906 ـ 1979، دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.

7ـ ضحوة، غنية (2018)، السياسة الداخلية في عهد  محمد  رضا بهلوي 1941 -1979م، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر.

8ـ محمد، نعيم جاسم (2011)، أوضاع الطبقة العاملة في إیران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي 1941 -1979م، مجلة أوروك للأبحاث الإنسانية، م4، ع2، كلية التربية جامعة المثنى، العراق.

9ـ الجبوري، فراس صالح خضر الجبوري والعبيدي، حسن علي خضير (2016)، دور المفكرين في قيام الثورة الإيرانية عام 1979م"علي شريعتي أنموذجاً"، مجلة الملوية للدراسات الآثارية والتاريخية، المجلد الثالث، العدد الرابع، العراق.

10ـ شاكر، محمود (2016)، إيران، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.


الأربعاء، 3 أغسطس 2022

تجليات المفارقة في "عكس اتجاه السير" لعلي عيسى..

    

    عبر سرد ممتد في حيز جغرافي تتماس فيه حدود مصر مع أفريقيا صاعدا نحو حدود مصر مع آسيا، يلتقط الكاتب، من خلاله،  العديد من الشخصيات الرئيسية التي قد لا يقابل بعضها إلا قلة من الناس، وهو ما يعني أنه رآهم وخالطهم بل ودرسهم دراسة متأنية لا تعتمد على أحجامهم أو أوصافهم الظاهرة بل على سماتهم النفسية التي نقلها بدقة تساند الرسام لو شاء أن يصورهم على لوحته بعناية، وهذه من أهم الأدوات التي أعانت القاص علي عيسى في خطف عقل القارئ واهتمامه لكي يسير معه عكس اتجاه السير أو في اتجاهه، أي أنه استولى على حواس قارئه المنبهرة بهذا التنوع غير النمطي في تركيبة أبطال أغلب قصص مجموعته المسماة بـ "عكس اتجاه السير" الصادرة عن مركز نهر النيل للنشر بالقاهرة، والتي تشبه قبسات غَرفها الكاتب من نهر الحياة الجاري بالأحداث عن وعي، وعمدٍ، وعناية.


    لم يشغل علي عيسى ذهنه في السعي وراء التقنيات التي يستخدمها أغلب الكتَّاب والروائيين، وإن لم يهملها تماما، غير أنه عكف أكثر على استخدام "المفارقة" تلك التي تزخر بها الحياة الإنسانية وما تحويه من المتناقضات والغرائب القائمة في الأساس على التضاد الكاشف للصفة وضدها، والقيمة وعكسها، وهو ما حرص عليها الكاتب لإبرازها كقيمة فنية وجمالية تغطي معظم نصوص مجموعته القصصية، ليكشف زيف العلاقات الإنسانية أو تناقضها أو انسجامها، وهو ما برع فيه بالفعل حيث استأثر بوعي المتلقي واهتمامه الذي استسلم طواعية لكشف المخبوء من أحداث نثرها المؤلف بوعيِ وذكاء واحتراف في استخدام تجليات المفارقة التي تعتمد على اللغة أو السياق وإن كانت مفارقات أغلب النصوص "مفارقات نهاية".


   لقد أتت الشخصيات لترسم المشاهد داخل النص دون تدخل من القاص سواء بالتعاطف أو بالرفض، أي أن السلطة الفوقية نابعة من داخل أحداث القصة وبطلها، وكيفية تلقي القارئ لها، ذلك أن مقياس نجاح العمل في الأخير هو مدى قدرة المتلقي، وحدود ثقافته، وأبعاد إدراكه، كما أن مدى نجاح علي عيسى يقاس ليس فقط في إبراز المتضادات والمتناقضات بل في وصفها ووضعها داخل إطارها المنطقي والسليم الذي لا يوقظ عقل المتلقي برفض السرد الذي يراه بعيدا وغريبا.


   اتسمت قصص المجموعة بالطول غير الممل، والمقدمات غير المسهبة، والأحداث التي اتسمت بالموضوعية تارة والغرائبية الفانتازية تارة أخرى، غير أن من عاش في نفس الأجواء التي ساقها الكاتب سيصدقها وأكاد أجزم أنها صحيحة وصادقة، وإن كانت صادمة بالنسبة لمن لم يقابلوا مثل تلك الشخصيات أو نفس تلك الأحداث. كما تشابك الحوار مع السرد في غير إقحام أو ترهل في المترادفات، بل جاء كله بالعامية المصرية السهلة التي لم يرهق الكاتب نفسه بتعدد مستوياتها بتعدد شخوصه في كل نص، غير أنها كانت خادمة للحدث وداعمة للمفارقة سواء في سياقها أو في تصاعدها نحو النهاية.


إن مما يدل على حيادية الكاتب أنه أورد ثلاث قصص تتناول الثأر: "خط سير"، و"كله سلف ودين"، والأخيرة جاءت توظيف لأسطورة "لعنة غراب" وقد يظن القارئ أنه يشرعن هذه الجريمة النكراء، ذلك لنقله للحدث ـ بحسب المذهب الطبيعي ـ بكل الصدق، تاركا للمتلقي الحكم عليه بالسلب أو الإيجاب تبعا لثقافته في تناول مثل هذه الأحداث بالرفض أو القبول.


   يصف الكاتب شخصية "عبد الحميد" في قصة "حبيب أمه" بمنتهى البراعة حتى كأنه أخرجه على الصفحات تمثيلا، من خلال تعامله مع زوجته أو مع صديقه أو مع أمين الشرطة والضابط، كما نجح في وصف تصرفات "فتحي السايس" وهو عنوان القصة أيضا، والشيخ بختان في قصة "بركاتك يا شيخ بختان".


   صور علي عيسى الفشل في إعلان المحب عن عاطفته في "المحاولة"، وفي مدى التحام الإنسان بالحيوان في العاطفة النبيلة في "الصديق"، وفي تجييش جحافل الفشل والإحباط التي تحول دون إنسان يحاول أن يمسك خيوط النجاح، فيمسكها ثم تفلتها الظروف المخيبة حتى تنتهي به الحياة للقعود تحت "شجرة التوت"، كما صعد الكاتب بخط المفارقة في أعلاه عبر نصوص: "جحور"، و"نسيت أنك أخي".


     تنساب القصص في أحداثها بغير افتعال من كاتبها، بل عبر تأمل مضنٍ، ومراقبة جيدة لشخوصها، وصبر في انتظار تتمة النهايات التي تصنع المفارقة المؤلمة أو الصادمة أو المفجعة، كما نجح في قنص الفانتازيا المصرية الأشد غرابة من تلك التي يتصنعها بعض الكتاب أو يصنعها نقلا عن مجتمعات أخرى، مثل: "وأصبح وحيدا"، و"بركاتك يا شيخ بختان"..


لقد أتت هذه المجموعة للكاتب والإعلامي المتميز علي عيسى علي في سياق مختلف عن تلك النصوص التي تخرجها المطابع، على عجل،  متوشحة بالافتعال أو متدثرة بالمحاكاة أو محترفة لإعادة الصياغة، لتعلن عن قدم راسخة في فن القص السهل الممتنع.. تاركا للقارئ اكتشاف ما خط الرجل بيمينه، والحكم عليه، من خلال سؤال يطرحه على قارئه مستمدا منه الإجابة، ومستلهما منه الحكم: (عزيزي القارئ أقدم لك مجموعتي القصصية لعلها تكون تفسيرا لما يجري في واقع الحياة. فهل السير عكس الطبيعة والتفكير خارج إطار الصندوق، والمعايير التي حددتها الطبيعة هو الحل؟!).

الاثنين، 1 أغسطس 2022

المثقف العربي وقضايا أمته: شكيب أرسلان نموذجا..

 


           في وقت تزداد فيه القضايا الشائكة التي تمس الأمتين العربية والإسلامية نموا وتراكما، نشهد فيه انصراف بعض المثقفين العرب عنها، أو الاهتمام ببعضها دون البعض الآخر، أو مناصرة بعضها بحسب توجهات المثقف العربي المعاصر وشروطه، كان من الواجب الالتفات إلى تاريخنا القريب لتقديم نموذج لمثقف كانت الأمتين العربية والإسلامية بجغرافيتهما وتاريخهما ونضالهما لديه كأنهما “بلد عربي وإسلامي واحد”، لا يعرف التصنيف، أو الإقصاء، أو التهميش أو التحيز المذهبي أو الديني أو الشعوبي.


إنه الأمير شكيب أرسلان، من أهم الأعلام البارزة في العالمين العربي والإسلامي، المفكر والشاعر والسياسي الأشهر في بدايات القرن العشرين الذي كانت له مواقفه الواضحة تجاه الأحداث التي عاصرها في تلك الفترة التاريخية الهامة من تاريخنا، خاصة مع بداية ظهور الفكرة القومية وإحياء فكرة الجامعة الإسلامية، كما يتميز بكونه من أهم الشخصيات الأدبية التي تنوعت مجالات اهتماماتها، مثل: الأدب، والشعر، والصحافة، والتاريخ، والسياسة، والترجمة، والنقد.


ينحدر الأمير شكيب بن حمود بن حسن بن يونس أرسلان، من سلالة “التنوخيين” ملوك الحيرة، وقد وُلِدَ في الشويفات اللبنانية، وهي مركز العائلة الأرسلانية في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني عام 1869م، وتلقى تعليمه الأولي في مدارس الشويفات وعين عنوب، ثم دخل المدرسة الأمريكية في “حارة العمروسية” بالشويفات، وتلقى فيها تعليماً في حقول الجغرافيا والحساب ومبادئ اللغة الإنجليزية، في عام 1879م؛ ثم دَخَلَ مدرسة الحكمة في بيروت التي أسَّسَها المطران يوسف الدِّبس، رئيس أساقفة الطائفة المارونية، وهي مدرسة مشهورة بإتقان اللغة العربية، وظل فيها لغاية سنة 1886م، ثم التحق في العام التالي بالمدرسة السلطانية في بيروت، وأقام مع أخيه فيها يتعلَّمان اللغة التركية والفقه، وحضرا درس مجلة الأحكام العدلية على الإمام محمد عبده الذي حينما غادر إلى مصر؛ ترَكَ أثراً بالغاً في نفس شكيب الذي تعلَّق بأستاذه تعلقا شديدا.


استفاد الأمير شكيب أرسلان من تميز المدارس التي ارتادها وجودة المعلمين الذين عملوا على تعليمه علوم اللغات العربية والفرنسية والنحو، وقد عمل بعد وفاة والده بالعديد من الوظائف العامة لمدة عامين، ثم سافر إلى مصر، وهو في الحادية والعشرين من عمره، وتوطدت معرفته أكثر بالإمام محمد عبده، فدخل في حلقته التي كانت تضم أرقى الشَّخصيات المصرية والعربية، ثم توجه للأستانة وأقام بها لمدة سنتين والتقى خلالها بالسيد جمال الدين الأفغاني وقد تأثر بمنهجه الفكري والسياسي، ونال إعجاب الأفغاني، غير أنه في عام 1892م انطلق من تركيا لزيارة أوروبا وبالتحديد لندن وباريس، ليبدأ صداقة جديدة مع أمير الشعراء أحمد شوقي، وقد جمعتهما صداقة متينة ممتدة، وفي عام 1895 تعرف على تلميذ الإمام محمد عبده وهو الشيخ رشيد رضا صاحب دار المنار وتفسير المنار للقرآن الكريم، ثم عاد إلى بيروت عام 1902م وتم تنصيبه قائمقام لمديرية الشويفات مدة سنتين بعد وفاة والده الذي كان يشغل هذا المنصب ثم مدير منطقة الشوف مدة ثلاث سنوات.


لم يكن شكيب مؤيدا للأوروبيين بل وقف إلى جانب العثمانيين مثله في لبنان كمثل الزعيم مصطفى كامل في مصر، وكان بذلك على عكس اللبنانيين الذين تأثروا بالمدارس التبشيرية؛ إذ وقف على خطط الغرب ودسائسه في الاستيلاء على بلاد العرب والمسلمين، وهو ما يؤكد حرصه على إسلامه وعروبته وقضايا أمته العربية والإسلامية، وكان هذا بسبب نشأته التي رسخت فيه هذا الحب والانتماء منذ أن تلقى العلوم الإسلامية ولم يبتعد عنها من أوائل سنين حياته وحتى مماته.


تعليم شكيب أرسلان وثقافته:


تأثر شكيب أرسلان بالعديد من أعلام عصره وخاصة ممن تتلمذ على أيديهم وكان أول أساتذته الشيخ عبد الله البستاني الذي علمه في “مدرسة الحكمة” وكان علما من أعلام اللغة العربية، ثم درس الفرنسية على يد المعلم شاكر عون الذي كان متمكنا منها كما كان متمكنا من لغته العربية، كما تعلم اللغتين التركية والانجليزية، كما كان مقبلا على حفظ الشعر العربية وخاصة في المرحلة الجاهلية، الأمر الذي جعله ينطق الشعر في مراحل حياته الباكرة غير أنه لم يكن سوى محاكيا مقلدا، وكان أخوه نسيب أسبق منه وأكثر إجادة في قول الشعر، غير أن شكيب كان أكثر من أخيه وأصدقائه وأقرانه تمكنا من قول النثر وقد ظهرت عليه دلائل النبوغ وأمارات الذكاء.


وقد درس شكيب في المدرسة السلطانية، بعد أن وضعت الدولة العثمانية يدها عليها وألحقتها بالمدارس الأميرية، الفقه على الشيخ محمد عبده حيث كان يدَرس فيها الفقه والتوحيد والمنطق، كما طالع أرسلان كنوز التراث العربي في كافة مناحيه، وأشبع نهمه المعرفي من مكتبة والده العامرة الزاخرة بالكتب، كما قرأ الأناجيل ومزامير داود، والجغرافية والحساب، وقد أتاح له وجوده في العاصمة اللبنانية أن يطالع التنوع الثقافي والفكري في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي؛ إذ كانت بيروت عاصمة ثقافية عربية فيها الكثير من أعلام الفقه والفكر والأدب وفطاحل اللغة والشعراء المبرزين، وتعج بالمنتديات الثقافية والنوادي والجلسات الفكرية، وكان يعيش فيها إلى جانب هؤلاء بعض طلبة العلم من مختلف الأقطار والجنسيات، وتكثُر إقامة المناظرات والمطارحات في منتدياتها، وشكيب يطالع كل هذا ويتزود فكريا ومعرفيا وخاصة من الكتب والصحف والمجلات التي كانت تصدر حديثا وتباع بمكتباتها، فوجد في كل ذلك ضالته المنشودة.


تمكن شكيب أرسلان من نشر ديوانه الأول “الباكورة” في سن السابعة عشر من عمره وأهداه إلى الشيخ محمد عبده، كما احترف حرفة الصحافة ونشر مقالاته في أكبر الصحف اليومية التي كانت تصدر في القاهرة، ومنها صحيفتا الأهرام والمؤيد، هذا بجانب عمله كمتصرف أو حاكم منطقة الشوف في لبنان وعضو في البرلمان العثماني، شأنه في ذلك شأن اثنين من أشقائه، ولم يكتف بذلك في شبابه، فقد حقق مخطوطتين اثنتين ونشرهما وهو في العشرين من عمره وهما: “الدرة اليتيمة” لابن المقفع، و”المختار من رسائل الصابي”.


كما أولى اهتمامًا بالأدب الفرنسي؛ فترجم لشاتوبريان روايته “مغامرات آخر أبناء بني سراج”، ويكمن سبب اختياره لهذه الرواية هو تصويرها الحضور الإسلامي في الأندلس، وقد نشر في سن السادسة عشر مقالات له في جريدة “التقدم” وفي مجلة “الطبيب”، وكانت هذه المجلة من أرقى المجلات التي تنشر له مقالاته وقصائده، ونشرت له أيضا مجلة الاستقلال.


أضافت الأسفار والسياحات الكثيرة التي قام بها شكيب أرسلان في أوربا وبلاد العرب، والولايات المتحدة الأمريكية الكثير إلى مكونه الثقافي، كما زار بلاد الأندلس سنة 1930م، وألمانيا، والبلقان، والحجاز، وروسيا، كما كانت له زيارة للمغرب أثبتها المؤرخ المغربي محمد ابن عزوز حكيم في كتابه “وثائق سرية حول زيارة الأمير شكيب أرسلان للمغرب: أسبابها، أهدافها، نتائجها”. وكان أول ما يفعله عند كل زيارة لأية دولة أن يعمد إلى مكتباتها، ليطالع المخطوطات النفيسة المتناثرة التي لم تنشر بعد، ويزور المتاحف العلمية والحضارية، ويدون تعليقات وشروح وتعريفات عن هذه المخطوطات، ويكتب عما يراه للفت الانتباه إليه من العرب والمسلمين.


كما كان من عادة ودأب أرسلان في كل مكان حل فيه أو ارتحل عنه أن يكتب بها مقالاً أو بحثاً أو أرسل إلى أكابر القوم من أصدقائه رسالة، وقد جاء في رسالة بعث بها إلى صديقه السيد هاشم الأتاسي عام 1935م، أنه أحصى ما كتبه في ذلك العام، فكان 1781 رسالة خاصة، و176 مقالة في الصحُف ، و1100 صفحة كُتُب طبعت، ثم قال: (وهذا محصول قلمي في كل سنة)، وهو ما يدل دلالة أكيدة على انتفاعه بوقته، واستثماره لثقافته التي نماها بمعرفته للعديد من اللغات التي كانت تسمح له بقراءة الكتب في لغاتها الأصلية، وإجراء المقابلات والمحاورات وتبادل الرسائل مع أصدقائه من أهل هذه البلاد من المفكرين والأدباء، والسياسيين.


موقف شكيب أرسلان من الثورة العربية والاستعمار:


لقد كانت المراسلات التي تدور بين شريف مكة الشريف حسين، وهنري مكماهون نائب الملك البريطاني في القاهرة، هي مقدمة الثورة العربية، ولكن أهم أسبابها: الوعد الذي قدمته بريطانيا للشريف حسين بمساعدته وتنصيبه ليكون ملكا لكل العرب بديلا عن الخلافة العثمانية، بل وإقامة الخلافة العربية الإسلامية، وكان ضعف الدولة العثمانية الحاكمة للمناطق العربية في مصر والمغرب والحجاز والشام من الأسباب التي شجعت على قيام تلك الثورة، إلى جانب الخدمة التي قدمها الاتحاديين القوميين في تركيا؛ فكانت السبب في إيقاظ الفكرة القومية عند بعض الأحزاب العربية وقد بدا هذا واضحا عند عقد أول مؤتمر عربي عام 1913م في باريس، وظهور تمسك الاتحاديين القوميين الأتراك بقوميتهم، ثم أضاف جمال باشا ـ الملقب بالسفاح ـ عندما قتل عددا من أعضاء الجمعيات السرية المطالبين بالاستقلال عن الدولة العثمانية واعتبرهم من المتآمرين الأعداء. كانت هذه اللحظة الفاصلة التي رأى القوميون العرب ضرورة الالتفاف حول زعيم واحد ليشكلوا جبهة قوية.


كان هذا الزعيم هو أمير مكة الشريف الحسين بن علي، ودارت المشاورات بينه وبين القوميين من خلال بعض أعضاء الجمعيات العربية الذين تمكنوا من الهرب من جمال باشا ووصلوا للحجاز وغيرها، وقد أعلن بعض زعماء العرب والجمعيات العربية القومية والشريف حسين إعلان الثورة في الحجاز، وبعد أن تعاقد الشريف حسين مع مكماهون على أن يكون العرب حلفاءَ للإنجليز والفرنسيين خلال الحرب العالمية الأولى، وطبعا ضد الأتراك؛ لأنها كانت ضد الحلفاء، على الرغم من غضب القوميون العرب كثيرًا تنازل الشريف حسين عن بعض البلاد العربية للإنجليز أو للفرنسيين، غير أن الشريف حسين قد أعلن الثورة على الدولة العثمانية، وأطلق بنفسِه في ذلك اليوم أول رصاصة على قلعة الأتراك في مكة؛ إيذانًا بإعلاِن الثورة، واستطاعت القوات الثائرة أن تستولي في أقل من ثلاثة أشهر على جميع مدن الحجاز الكبرى، باستثناء المدينة النبوية التي حاصروها فقط.


وقف شكيب أرسلان من الثورة العربية ـ التي قامت من بعض العرب تجاه الترك ـ موقف الرافض لها، والمندد بها، لأنه كان يرى أنها ستعود بالنفع على الدولتين البريطانية والفرنسية، وهما من كان يؤيد ويؤجج قيام تلك الثورات التي تضعف من كيان الدولة العثمانية التي يعملون على إسقاطها من أجل اقتسامها فيما بينهم، وظل على معارضته لتلك الثورة منذ بداية انطلاق أول شرارة منها إلى أن انتهت، لقد كان يتحدث باستمرار عن رابطة الإسلام مع الأتراك، ويسميها أحيانا الرابطة الشرقية، ويرى أن الجامعة الوحيدة التي كانت تجمع بين الترك والعرب والكرد والأرناؤوط والجركس هي الجامعة الدينية، ولولاها لكانت هذه السلطنة قد تفككت منذ قرون، لكن يوم اتخذ أعيان العرب قرارهم، في منتصف الحرب الكبرى، بإعلان الثورة العربية ضد الدولة العثمانية استمر هو المدافع الصلب عن “الجامعة الإسلامية” وعن الدولة العثمانية التي كان يراها معقل الخلافة وصمام الأمان الذي يجب المحافظة عليه، درءاً للمخاطر التي تنتظر العرب على يد الاستعمار الأوروبي القادم.


كان شكيب أرسلان يعلم مقدمات وأسباب الثورة العربية كما يعلم بمراسلات حسين مكماهون، ويعلم بأن الدولة العثمانية لما حكمت كل هذه المناطق العربية من الشام والحجاز ومصر والمغرب أصابها بعد فترة من الزمن الضعف وبدأت النظرات العنصرية وظهور الاتحاديين القوميين لها واضحا، وعلى الرغم من مناصرته للدولة العثمانية إلا أنه كان يعلم مدى انتشار الظلم في الدولة على نطاق كبير، وأن سياسة الاتحاديين هي التي نبهت الفكرة القومية العثمانية وأرادوا تخويف السلطان العثماني من العرب لأنهم يريدون أن يقيموا مملكة عربية لوحدهم، غير أن الواقع أن شكيب أرسلان رأى خطر الاستعمار القادم حتى قبل انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م، لأن فرنسا لها مطامح في سوريا، ورأى أنه لا يجوز أن يُعقد مؤتمر كهذا بينما الدولة منهمكة في الحرب “الطرابلسية” ضد الجيش الإيطالي الزاحف لاحتلال طرابلس الغرب.


كان أرسلان من أوائل الذين دعوا إلى إنشاء جامعة عربية، وواصل جهوده ودعوته بعد الحرب العالمية الأولى، بل كان من أوائل الذين شرحوا معاني الوحدة العربية في محاضرة شهيرة له في النادي العربي بدمشق عام1937 ممتدحا العرب ومثنيا عليهم: بأن فيهم النجابة والصلابة وخفة الحركة، وحدة الذهن، وتمام القابلية لكل ما يرقّي الأمم، وفيهم مع ذلك العدد الجم الذي يجعلهم من أكبر الأمم.


لقد كان شكيب يرى أن بريطانيا تشعر بقوة الدولة العثمانية وحلفائها، ولهذا سعت إلى الشريف حسين من أجل أن تتحالف معه من أجل إقصاء العرب والمسلمين عن تلك الدولة، من أجل تخفيف العبء الحربي على الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، كما نبه الشريف حسين أن بريطانيا تلك التي تسعى للتحالف معه الآن ـ أي بعد الحرب ـ هي التي رفضت التحالف معه في أولها لأنها كانت متفقة مع الفرنسيين على تقسيم سوريا ولبنان، بل أن شكيب قد قابل مستشار السفارة البريطانية في الأستانة واستفسر منه عن الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي فأنكر، وكان الاتفاق هو “معاهدة سايكس ـ بيكو”.


بعد انهيار الدولة العثمانية، وخضوع بلاد الشام للاحتلال الغربي، رأى الأمير شكيب أن الوحدة العربية هي البديل القوي للحفاظ على كيان الأمة العربية، وبدأت تتسرب المفاهيم القومية إلى فكره منذ بداية عشرينات القرن العشرين، وأصبحت القضية السورية والفلسطينية شغله الشاغل في أوروبا وفي المحافل الدولية، وسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1927 للمشاركة في مؤتمر “حزب الاستقلال” السوري الذي عقد في مدينة “ديترويت” في العام ذاته، وعلى الرغم من مناصرته للدولة العثمانية إلا أنه كان يرى أنه حتى لو دخلت تركيا في الرابطة الإسلامية إلا أنه لا يوجب قبول العرب استيلاء الترك عليهم؛ فالعرب عرب والترك ترك، وكلا الفريقين يجب أن يكون سيدا في أرضه، وأنه على الرغم من رفضه للثورة العربية فلا يعني هذا قبوله للحكم التركي، ورفضه الاستقلال للعرب، بل وضح الأمر أن مقاومة استعمار تركي مسلم ستفتح الباب للغرب بجيوشهم.


كان من أبرز مواقف الأمير شكيب أرسلان موقفه الصلب من الدول الغربية الطامعة في الأقطار الإسلامية والعربية، والتي كان بعض المخدوعين من العرب يعتبرونها دولاً حليفة، وكان يرى الخديعة من قبل هذه الدول فيما أنزلوه بالإسلام والمسلمين والعروبة.


إن العرب من الهوان باسم الديموقراطية التي استعبدوهم بها بزعم أنهم أنصار الحرية، وكان موقفه واضحا سواء في الاستعمار الذي حل على المشرق العربي وهو الاستعمار البريطاني في مصر، والاستعمار الفرنسي في سوريا، والبريطانيين والخطر اليهودي على شرق الأردن، كما كان له جهوده في الدفاع عن القضية السورية والقضية الفلسطينية في عصبة الأمم، ووقف مع استقلال العراق وسوريا ولبنان، بل شارك في أعمال المؤتمر السوري ـ الفلسطيني في جنيف عام 1921م، لدراسة مطالب استقلال سوريا وفلسطين عن الوصاية الفرنسية والبريطانية، وعلى الرغم من وجوده في بيته بجنيف، إلا أنه كان متابعا للقضايا العربية والإسلامية تجاه الاستعمار في المشرق العربي والمغرب العربي أيضا بل كانت الرسائل ترد إليه من الملايو والصين والهند وأفغانستان وإيران والبلاد العربية وإثيوبيا ومن إفريقيا وأمريكا، وكلها تشكو من أحوال المستعمر أو تطلب الدعاية لقضية بلادها.


كان أرسلان يعتبر الاستعمار مهما تعددت جنسياته “استعمارا واحدا” من حيث الهدف؛ إذ لا فرق بين الاستعمار البريطاني والفرنسي بل حتى الأتراك أنفسهم وإن كانوا مسلمين، ويتجلى هذا أثناء زيارته الأولى إلى ألمانيا في العام 1917، حين تحدث مع المسؤولين هناك حول ضرورة تغيير نظام السلطنة بعد الحرب بحيث تتحوّل إلى فيدراليات تضم إمارات عربية مستقلة مرتبطة بالدولة العثمانية. لكن بعد خروج الدولة العثمانية مهزومة من الحرب، وجد أرسلان خيارين أمام العرب، إما البقاء تحت سيادتها، أو تطبيق “مبادئ ويلسون” عليهم في تقرير مصيرهم كما كان يحث المصريين في البرلمان بأن يحققوا الاستقلال التام للدولة المصرية، وقد كان يؤكد لهم أن حفظ الاستقلال يتطلب إنشاء مصانع للأسلحة، وفرض التجنيد الإجباري وإنشاء جيش قوي مدرب وإلغاء الامتيازات الأجنبية، كما نادى بمقاطعة البضائع الأجنبية تماما.


ألقى الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” خطابًا باسم “النقاط الأربع عشرة” في الثامن من يناير عام 1918 أمام جلسة مشتركة للكونجرس، وما دعاه إلى هذا تورط العالم في الحرب العالمية الأولى وكان يحاول البحث عن طريقة لإنهاء هذه الحرب بل وضمان ألا تقوم حرب مثلها مرة أخرى، ويمكن إيجاز النقاط على النحو التالي: عدم وجود تحالفات سرية أخرى، الحرية المطلقة للملاحة في البحار، خارج المياه الإقليمية، في السلم والحرب ، باستثناء ما قد يتم إغلاقه لتنفيذ المواثيق الدولية، اقتراح من ويلسون بفتح التجارة المفتوحة بين البلدان، والحد من التسلح، والتعرف على احتياجات الشعوب المستعمرة، ثم تناولت مبادئ ويلسون: من المبدأ السادس إلى الثالث عشر مطالبات الأراضي المحددة لكل بلد، أما المبدأ الرابع عشر فقد كان الأكثر أهمية، حيث دعا إلى إنشاء منظمة دولية تكون مسؤولة عن المساعدة في الحفاظ على السلام بين الأمم، أو ما نصه: (يجب تشكيل اتحاد عام للدول بموجب مواثيق محددة لغرض توفير ضمانات متبادلة للاستقلال السياسي وسلامة الأراضي للدول الكبرى والصغيرة على حد سواء)، وكان هذا الاتحاد هو عصبة الأمم التي تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، وبسبب دوره في تأسيسها حصل ويلسون على جائزة نوبل للسلام.


وبعد سقوط الدولة العثمانية، تبدلت فكرة أرسلان من “الجامعة الإسلامية” إلى العروبة، والمناداة باستقلال البلدان العربية ووحدتها وعدم وقوعها تحت حكم الاستعمار أو انتدابه. كما دعم الحركة الوطنية وقادتها ضد دول الاستعمار الفرنسي في أقطار المغرب العربي، أمثال: عبد العزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة في تونس، وعبد الحميد بن باديس وبشير الإبراهيمي ومصالي الحاج في الجزائر. وقد ناهض أرسلان السياسة الفرنسية هناك، وطالب بوحدة أقطار المغرب العربي لمقاومة الاستعمار، كخطوة ممهِّدة للوحدة العربية الشاملة بين أقطار المشرق والمغرب العربيين. وقام بحملة واسعة ضد سياسة فرنسا الاستعمارية في بلاد المغرب العربي لدى الرأي العام الأوروبي، كما دعا العرب والمسلمين إلى مقاطعة سلعها وسلع وإيطاليا ومؤسَّساتها كذلك.


لقد دأب شكيب أرسلان على مراسلة كبار رجال العصر الذي يعيش فيه، وهي رسائل كثيرة تناثرت في أقطار الأرض خاصة ان عدداً منها ما زال في المغرب وسورية والجزائر وتونس والقاهرة وبرلين وجنيف وروما وباريس، ومن الذين راسلهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وقد بدأت الرسالة الأولى من شكيب في السابع من يناير عام 1924م من الأستانة العليا، وكانت تتناول علاقة بريطانيا باليمن وبعض المسائل الداخلية .


لقد بلغ عدد المراسلات الخصوصية (1781) مراسلة، وكان ممن راسلهم غير الثعالبي: شكري القوتلي، خليل مطران، شبلي الملاط، رياض الصلح، الإمام محمد عبده، عبد السلام بنونة، الملك فيصل الأول، حبيب جاماتي، الحبيب بورقيبة، محمد على الطاهر، أكرم زعيتر، الملك عبد العزيز آل سعود، أمير اليمن سيف الإسلام، الشيخ عبد العزيز جاويش، عجاج نويهض، جميل مردم بك، عبدالله البستاني، أمين ناصر الدين، ومؤرخ تطوان محمد داود.


ولقد كانت معظم هذه الرسائل بخط أرسلان نفسه، أما الرسائل القليلة فهي التي أملاها على أحد، وكان الخط السائد فيها هو خط النسخ مع ميل الأمير للكتابة بخط الرقعة، وهو يستعمل بعض الصفات الدالة على بعض الأشخاص، كما كان يضع توقيعه على الرسالة بكلمة (أخوك) أو الأمير.


مؤلفات أرسلان وقضايا أمته:


لقد قدم أرسلان العديد من الكتب القيمة إلى المكتبة العربية التي تتناول الإسلام والمسلمين في معظمها، وكان فيها السياسي، والمحقق للتراث العربي والإسلامي، وكان المؤرخ، والصحفي، والشاعر، والناثر، والناقد، ولهذا تنوعت هذه الكتب والآثار بين المطبوع والمخطوط، والمقالة، والمشروح، والمعلق عليه، والرسالة، والمحاضرة، والبيان السياسي، والمخطوط الموجود، والمجهول المصير.


وأبدأ بالكتب التي اهتم فيها الأمير المفكر المناضل شكيب أرسلان بقضايا أمته، ومنها: كتاب “النهضة العربية في العصر الحاضر”، و”لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم”، و”غزوات العرب في فرنسا وشمالي إيطاليا وفي سويسرا وجزائر البحر المتوسط”، و”حاضر العالم الإسلامي”، و”التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي تعليقات الأمير شكيب أرسلان على كتاب مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية”، و”سورية الشهيدة سلسلة فظائع ارتكبتها مدنية القرن العشرين في ديار الشام”، و”تاريخ غزوات العرب”، و”عروة الإتحاد بين أهل الجهاد”، و”مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه”، و”كتاب تاريخ الدولة العثمانية” جمع أصوله وحققه وعلق عليه حسن السماحي سويدان”، و”الإسلام والحضارات مجموعة مقالات”، و”زمن العروبة الأبتر مقالات للأمير شكيب أرسلان في صحيفة الفتح”، و”الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية”، و”الرحلة الحجازية المسماة الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، و”بني معروف أهل العروبة والإسلام”، ” و”الباكورة”، ديوان شعره الأول، و”السيد رشيد رضا” أو “إخاء أربعين سنة”، و”شوقي” أو “صداقة أربعين سنة”، و”القول الفصل في رد العامي إلى الأصل”، و”روض الشقيق في الجزل الرقيق”، وهو ديوان أخيه نسيب، الذي قدمَّ له في 150 صفحة من أصل 176 صفحة، و”محاسن المساعي في مناقب أبي عمرو الأوزاعي”،”ورسائل الصابئ”، تحقيق وتقديم الأمير شكيب، و”أناتول فرانس في مباذله”، كتاب فرنسي ترجمه الأمير إلى العربية، و”رواية آخر بني سراج”، ترجمها الأمير إلى العربية وأضاف إليها ملحقاً من ثلاثة أقسام، و”الدرة اليتيمة” لابن المقفع، من تحقيق وتصحيح الأمير، وتعليقاته على كتاب “حاضر العالم الإسلامي” المنقول عن الإنجليزية بقلم الأستاذ عجاج نويهض، ورسالة تاريخية للأمير شكيب حول محاولة فرنسا إخراج البربر من الإسلام، ومختارات نقدية في اللغة والأدب والتاريخ، وتعليقات الأمير على الجزء الأول والثاني من تاريخ ابن خلدون، وكتاب “لا يمكن لأية دعاية في العالم أن تشوه صورة إنسان” وهو بالفرنسية، ومحاضرة “النهضة العربية في العصر الحاضر”، ومحاضرة “الوحدة العربية”، ومذكرات باللغة الفرنسية.


كما أن للأمير شكيب المئات من المقالات في الجرائد والمجلات منذ أول مقالة له في الأهرام القاهرية عام 1887م حتى آخر مقالة في جريد الاستقلال في الأرجنتين في 10 تشرين ثاني عام 1946م، وفي عام عام 1937 أهدى الأمير مجموعة من عشرين ألف ورقة إلى نظارة الخارجية السورية. وهي حصيلة مراسلاته ومرافعاته أمام عصبة الأمم في جنيف خلال سنوات 1923 ـ 1936.


من مؤلفات الأمير التي كانت مخطوطة وصدر بعضها: “رحلة إلى ألمانيا”، “بيوتات العرب في لبنان”، “مذكرات الأمير شكيب أرسلان”، وقد أودعها مكتب المؤتمر الإسلامي في القدس لتنشر لعد وفاته، وله العديد من المخطوطات تجاوزت الـ “24 مؤلف” ومعظم هذه المخطوطات موجود في المكتبة الخاصة بالملك المغربي الحسن الثاني، أو موزعة لدى العديد من أبناء الجبل في لبنان وحوران، وقد عثر الشيخ أحمد الشرباصي على العديد من رسائل شكيب أرسلان التي أرسلها إلى الشيخ السيد محمد رشيد رضا حوالي (130) رسالة.


لقد تبين من خلال ما تقدم بيانه أن الأمير شكيب أرسلان كان من أعمدة الفكر المبرزين الذين غطوا بمؤلفاتهم وآرائهم وأفكارهم العالمين العربي والإسلامي، وقد تعددت جوانبه المعرفية فكان: الشاعر، والناثر، والناقد، والأديب، والكاتب، والمفكر الوطني والإصلاحي والسياسي، وقد شهدت له مواقفه الواضحة تجاه الأحداث التي عاصرها في بواكير القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ظهور الفكرة القومية وإحياء فكرة الجامعة الإسلامية، وكان من نتائج تنوع مجالات اهتماماته الأدبية، والشعرية، والنثرية، والنقدية، والدينية، والتاريخية، والسياسة، والترجمة، والكتابة الصحفية في الجرائد والمجالات أن جعلت له في كل جانب موقف يشهد له بنضاله ومساهماته.


كان من نواتج اهتمامه بالقضايا العربية والإسلامية أن يجد المطالع لأعماله العديد من الكتب والمقالات المنشورة في المشرق والمغرب، وفي الصحافة الفرنسية، بل لم يكتفِ بالنضال عبر المقالات فقط؛ فأدار المراسلات بينه وبين كبار رجال عصره سواء في المشرق أو المغرب العربي، من أية بقعة كان ينتقل إليها ويسكنها سواء سكن البلاد الأوروبية أو العربية، من أجل التعرف على آرائهم ومتابعة جهادهم ودعمهم ضد الاحتلالين البريطاني والفرنسي.


كما هاجم أرسلان الاستشراق الذي رآه جنديا من جنود الاستعمار، ولذلك حيا البربر على تمسكهم بدينهم ورفضهم للتنصير، وحارب بالكلمة شعرا ونثرا، وتوجيها وتصويبا، وكان عمليا في تفكيره السياسي الذي لم يكن يتمسك به لموقف شخصي بل كان يغير أفكاره السياسية كلما كانت في صالح العرب والإسلام والمسلمين، ولذا كان شكيب أرسلان أول من نادى بالوحدة العربية، والوحدة الدينية، ورفض تفكيك الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة مع تحفظه على أن يحتل التركي العربي أو العكس باسم الدين.


كما كان من الفكر المستقر في ذهنية أرسلان أن الاستعمار مهما تغيرت دوله وأسمائه فهو ـ في النهاية ـ ليس إلا “استعمارا واحدا” من حيث الهدف والتوجه، ويرى أن الاستقلال التام لأي دولة عربية لن يدوم ويستقر إلا من خلال حفظ الاستقلال الذي يتطلب من كل دولة استقلت أو ستستقل أن تنشئ مصانع للأسلحة، وأن تفرض التجنيد الإجباري بين أبنائها، وأن تبني جيشا قويا مدربا مسلحا، وأن تعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية، كما نادى بمقاطعة البضائع الأجنبية. وهي كلها خطوات تنم عن عملية وديناميكية وواقعية فكر الأمير شكيب أرسلان الذي يجب استدعاء تاريخه ونضاله أمام المثقف والأكاديمي العربي المعاصر ـ أيا كان دينه ـ من أجل الاصطفاف والتمترس في الدفاع عن قضايانا وهويتنا وثقافتنا وخصوصياتنا التي مازالت أسنة الرماح الغربية الممنهجة موجهة بحنكة واستراتيجية ودأب وانتظام من أجل اختراقها، بل وتقويض بنيانها.


المصادر:


1ـ عمايرة، محمد سالم أحمد (2000)، شكيب أرسلان 1869 – 1946: دراسة في فكره السياسي، رسالة دكتوراه، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، الأردن.
2ـ بن جمعة، بوشوشة (1984)، شكيب أرسلان مفكرا سياسياً، رسالة دكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة التونسية، تونس.
3ـ الشرباصي، أحمد (1963)، أمير البيان شكيب أرسلان، دار الكتاب العربي المصري، القاهرة، مصر.
4ـ نصر، سوسن النجار (2008)، الأمير شكيب أرسلان: سيرة ذاتية، الدار التقدمية، بيروت، لبنان.
5ـ الدهان، سامي (1960)، الأمير شكيب أرسلان حياته وآثاره، مكتبة الدراسات الأدبية 21، دار المعارف، القاهرة، مصر.
6ـ الشرباصي، أحمد (1978)، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، سلسلة أعلام العرب 21، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر.
7ـ أرسلان، شكيب (2011)، الرسائل المتبادلة بين الأمير شكيب أرسلان والشيخ الثعالبي، الدار التقدمية، بيروت، لبنان.
8ـ أرسلان، شكيب (2011)، مراسلات من أمير البيان إلى كبار رجال العصر، الدار التقدمية، بيروت، لبنان.