الاثنين، 10 أكتوبر 2016

اشتراط السوم في الزكاة بين المالكية والجمهور

    الزكاةُ أحد أهم أركان الإسلام، ولقد قرَنها الله تعالى في كتابه الكريم بالصلاة في اثنين وثمانين موضعًا؛ مما يدل على عِظم شأنها، وكمال الاتصال بينها وبين الصلاة، وقد أجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام، وعلى كُفر مَن جحَد وجوبها، ووجوب قتال مَن منع إخراجها.

وتجبُ على المسلم متى توافرت فيه خمسةُ شروط، وهي: الإسلام، الحرية، امتلاك النِّصاب، التملُّك، ومُضي الحول على المال، هذا في غير الخارج من الأرض؛ كالحبوب والثمار، إنما يبقى تمام الحول مشترطًا في النقود والماشية وعُروض التجارة.

ولقد أوجب اللهُ تعالى الزكاة في بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغَنم، وتجب الزكاة فيها بشرط:

1- أن تبلغ نِصابًا.
2- أن يحول عليها الحول.
3- أن تكون للنَّسل والدَّر، لا للعمل.
4- أن تكون سائمةً؛ أي راعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((في كلِّ سائمةِ إبلٍ: في أربعينَ بنتُ لَبونٍ، لا يُفرَّق إبِلٌ عن حسابِها))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

وهي أن ترعى الماشيةُ أكثرَ السنة في العُشب العامِّ في الفلاة، ولم يشترطه في وجوب الزكاة الإمام مالك، وهو عملُ أهل المدينة.
والجمهور على اعتبار هذا الشرط، ولم يخالف فيه غيرُ مالكٍ والليثِ؛ فإنهما أوجبا الزكاة في المواشي مطلقًا، سواء كانت سائمة، أو معلوفة، عاملة أو غير عاملة.

لكنَّ الأحاديث جاءت مصرِّحة بالتقيُّد بالسائمة، وهو يفيد بمفهومه أن المعلوفةَ لا زكاة فيها.
قال ابن عبدالبر: (لا أعلم أحدًا قال بقول مالكٍ والليثِ مِن فقهاء الأمصار).

وسأبدأ بأدلة المالكية، باعتبارِهم أصحابَ الرأي المخالف لجمهور الفقهاء، على أنْ أُورِدَ بقيةَ المذاهب على الترتيب الزمني لها، كالتالي:
• أدلة المالكية على حُكم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
إن السَّوم عند المالكية‏ لا يشترط في زكاة الأنعام، فأوجبوا الزكاة في المعلوفة من الإبل والبقر والغَنم، كما أوجبوها في السائمة سواءً بسواء؛ لعموم قولِه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ((إذا بلغَتْ خَمسًا من الإبل ففيها شاة))،‏ وقالوا‏:‏ إن التقييدَ بالسائمة في الحديث؛ لأنه الغالبُ على مواشي العرب؛ فهو لبيانِ الواقع لا مفهوم له‏.‏

يقول أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي[1]: (ورأي الإمام - يقصد الإمام مالكًا - هنا مبنيٌّ على أن النصاب في هذا الحديث، وفي حديث: ((في أربعين شاةً شاةٌ))، هنا عُيِّن بصيغة الإطلاق، فلم يقل بتقييد هذا الإطلاق المنطوق بمفهوم المخالفة في قوله: ((في الغَنم السائمة زكاة))، وأيضًا فإن علةَ الزكاة نعمة الملك، وهي حاصلة في المعلوفة كما هي حاصلةٌ في السائمة، إلا أن السومَ وصفٌ مكمل؛ فإن نعمةَ الملك مع السوم أتم، فلو قلنا: إن السومَ وصف تترتب عليه الزكاة، لوجبت الزكاةُ في الوحوش السائمة في أرض تملِكها، ولا أحد يقول بذلك، فعُلم أن علة الزكاة متمحضة في نعمة الملك، وهي حاصلة في معلوفة الأنعام وعاملتها).

يقول أبو الوليد الباجي [2]: (السائمة هي الراعية، ويحتمل أن يكونَ إنما قصَد إلى ذِكر السائمة؛ لأنها هي عامَّةُ الغنم، ولا تكاد أن تكون فيها غير سائمةٍ؛ ولذلك ذكر السائمة في الغنم، ولم يذكرها في الإبل والبقر، ويحتمل أن يذكر ذلك صلى الله عليه وسلم في كتابه لينصَّ على السائمة ويكلف المجتهدَ الاجتهادَ في إلحاق المعلوفة بها، فيحصل له أجر المجتهدين).

وقال أيضًا عند شرح قول مالك: "في الإبل النواضح، والبقر السواني، وبقر الحَرْث، إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله، إذا وجبَتْ فيه الصدقة": (وهذا كما قال؛ إن الإبل النواضح وهي التي يستقى عليها الماءُ من الآبار لسَقْي الأرض والنخل، والبقر والسواني وهي التي تسقي بالسانية لسَقْي الأرض والنخل، وبقر الحرث، وتجمع هذه كلها العوامل؛ فإن الزكاة واجبةٌ فيها كالسائمة، هذا قول مالكٍ رحمه الله، وقال أبو حنيفةَ والشافعي: لا زكاة في شيءٍ من ذلك، والدليل على صحةِ ما نقوله حديثُ أبي بكرٍ رضي الله عنه المتقدم في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغَنم، في كل خمسٍ شاةٌ، وهذا عام في السائمة والمعلوفة، فيجب حملُ ذلك على عمومه إلا أن يخصه دليلٌ، ودليلنا من جهة المعنى أن كثرةَ النفقات وقلتها إذا أثرت في الزكاة فإنها تؤثر في تخفيفها وتثقيلها، ولا تؤثِّر في إسقاطها ولا إثباتها؛ كالخلطة والتفرقة والسقي بالنضح والسيح، ولا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا في تخفيفِ النفقة وتثقيلها، وأما التمكُّن مِن الانتفاع بها فعلى حدٍّ واحدٍ لا يمنع علفها من الدَّرِّ والنسل).

• وقال القَرافي في الذخيرة: (تؤخَذُ الصدقةُ مِن الغنم المعلوفة والسائمة، وكذلك الإبل والبقر).
ويبسط القَرافي أدلةَ ما استند إليه في الفروق، فيقول: (إذا ورَد أمرُ صاحب الشرع بإخراج الزكاة مِن كل أربعين شاةً شاةٌ؛ كما جاء في الحديث: ((في كل أربعين شاةً شاةٌ))، ثم ورَد بعد ذلك قولُه عليه السلام: ((في الغَنم السائمة الزكاة))، فمَن قصد في هذا المقام حمل المطلق الأول الذي هو الغَنم، على هذا القيد الذي هو الغنم السائمة، اعتمادًا منه على أنه مِن باب حمل المطلَق على المقيد - فقد فاتَه الصوابُ؛ بسبب أن الحملَ هنا يوجب أن المقيد خصَّص المطلق، وأخرج منه جميع الأغنام المعلوفة، والعموم يتقاضى وجوب الزكاة فيها، فليس جامعًا بين الدليلينِ، بل تاركًا لمقتضى العموم، وحاملًا له على التخصيص مع إمكان عدم التخصيص، فلا يكونُ الدليل الدال على حمل المطلق على المقيد موجودًا ها هنا، وهو الجمع بين دليل الإطلاق ودليل التقييد، ومَن أثبت الحكم بدون موجبه ودليله فقد أخطأ، بل هذا يرجع إلى قاعدةٍ أخرى، وهي تخصيص العموم بذكر بعضه، والصحيحُ عند العلماء أنه باطلٌ؛ لأن البعضَ لا ينافي الكل، أو مِن قاعدة تخصيص العموم بالمفهوم الحاصل من قيد السَّوم، وفيه خلافٌ).

• أدلة الأحناف على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
يتفق الحنفيةُ مع جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وأكثر أهل العلم باشتراط السوم في وجوب زكاة الماشية، فتجبُ الزكاة في السائمة من الإبل والبقر والغنم، وكذلك الخيل عند أبي حنيفة؛ لِما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي بكر‏:‏ "في صدقة الغَنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاةٌ".

وأما الأنعام المعلوفة فلا زكاة فيها؛ لانتفاء السوم؛ لأن وصفَ الإبل بالسائمة يدل مفهومُه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، وأن ذكر السوم لا بد من فائدة يعتدُّ بها؛ صيانةً لكلام الشارع عن اللغو‏.‏

ولِما رواه بَهْزُ بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في كلِّ سائمةٍ في كل أربعين بنتُ لَبُونٍ))،‏ ومعنى بنت لبون: هي ما أكملت سنتين ودخلت في الثالثة، وسُمِّيت بذلك؛ لأن أمَّها آنَ لها أن تلِدَ فتَصير لبونًا.

وجاء في "المختـار للفتـوى في الفقه على مذهب أبي حنيفة"[3]، باب زكاة السوائم: (السائمة: التي تَكتفي بالرَّعي في أكثرِ حولها، فإن علَفها نصف الحول أو أكثرَه، فليست بسائمة).

وجاء في رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار[4]: (قال في النهر: وبدأ محمدٌ في تفصيلِ أموال الزكاة بالسوائم؛ اقتداءً بكتبه عليه الصلاة والسلام، وكانت كذلك؛ لأنها إلى العرب، وكان جلُّ أموالهم السوائمَ، والإبل أنفَسُها عندهم، فبدأ بها (قوله: هي الراعية)؛ أي: لغةً، يقال: سامت الماشية: رعَتْ، وأسامها ربُّها إسامةً كذا في المغرب؛ سميت بذلك؛ لأنها تسِمُ الأرض؛ أي: تُعلمها، ومنه: ﴿ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [النحل: 10]، وفي ضياء الحلوم: السائمة: المال الراعي نهرٌ (قوله: وشرعًا المكتفية بالرعي إلخ)، أطلقها فشمِل المتولدة من أهلي ووحشي، لكن بعد كون الأم أهليةً، كالمتولِّدة من شاةٍ وظبيٍ وبقرٍ وحشي وأهلي، فتجب الزكاة بها، ويكمل بها النِّصابُ عندنا).

يقول الإمام علاء الدين الكاساني[5]: (وأما صفة نصاب السائمة فله صفات؛ منها: أن يكونَ مُعَدًّا للإسامة، وهو أن يُسيمها للدَّر أو النسل؛ لما ذكرنا أن مال الزكاة هو المال النامي، وهو المُعَدُّ للاستنماء، والنماء في الحيوان بالإسامة؛ إذ بها يحصُلُ النسل، فيزداد المال، فإن أُسِيمت للحمل أو الركوب أو اللحم، فلا زكاة فيها، ولو أسيمت للبيع أو التجارة، ففيها زكاة مال التجارة، لا زكاة السائمة.

ثم السائمةُ هي الراعيةُ التي تكتفي بالرعيِ عن العلف، ويمُونها ذلك، ولا تحتاج إلى أن تُعلَف، فإن كانت تسام في بعض السنة، وتُعلَف في البعض، يعتبر فيه الغالب؛ لأن للأكثر حُكمَ الكل، ألا ترى أن أهلَ اللغة لا يمنعون من إطلاق اسم السائمة على ما تُعلَف قليلًا مِن السَّنة، ولأن وجوبَ الزكاة فيها لحصول معنى النماء وقلة المؤنة؛ لأن عند ذلك يتيسر الأداء، فيحصل الأداءُ عن طِيب نفس، وهذا المعنى يحصل إذا أُسِيمت في أكثر السَّنة).

• أدلة الشافعية على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
السوم عند الشافعية أن يرسل الأنعامَ صاحبُها للرعي في كلأ مباح في جميع الحول، أو في الغالبية العظمى منه، ولو سامت بنفسها أو بفعل غاصب أو المشتري شراءً فاسدًا لم تجِبِ الزكاةُ في الأصح؛ لعدم إسامة المالك، وإنما اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف؛ لأن السومَ يؤثِّر في وجوب الزكاة، فاعتبر فيه قصده، والاعتلاف يؤثر في سقوطها، فلا يعتبر قصده؛‏ لأن الأصلَ عدم وجوبها، وبذلك يشترط عند الشافعية أن يكون كل السوم من المالك، أو مَن يقوم مقامه، فلا زكاة فيما لو سامت بنفسها أو أسامها غير المالك، وإن اعتلفت السائمة بنفسها أو علفها الغاصب القدرَ المؤثر من العلف فيهما، لم تجِبِ الزكاة في الأصح؛ لعدم السوم، أو كانت عوامل في حرث ونضح ونحوه؛ لأنها لا تقتنى للنماء، بل للاستعمال؛ كثياب البدن، ومتاع الدار‏.‏

قال الشافعي[6]: (رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في سائمة الغنم كذا))، فإذا كان هذا يثبت فلا زكاة في غير السائمة من الماشية، ويروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنْ ليس في الإبل والبقر العوامل صدقةٌ، ومثلها الغنم تعلف، ولا يبين لي أن في شيء من الماشية صدقةً حتى تكون سائمةً، والسائمة الراعية؛ وذلك أن يجمع فيها أمران؛ أن يكونَ لها مؤنة العلف، ويكون لها نماء الرعي، فأما إن عُلفت فالعلف مؤنة تحيط بكل فضل لها، أو تزيد، أو تقارب، وقد كانت النواضح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه، فلم أعلَمْ أحدًا يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منها صدقة، ولا أحدًا من خلفائه، ولا أشك - إن شاء الله تعالى - أنْ قد كان يكون للرجل الخمس وأكثر... وهذا يشبه أن يكونَ يدل على أن الصدقة في السائمة دون غيرها مِن الغنم).

ويقول أيضًا: (فإذا قيل في سائمة الغنم هكذا، فيشبه - والله تعالى أعلم - ألا يكونَ في الغنم غيرِ السائمة شيءٌ؛ لأن كلما قيل في شيءٍ بصفةٍ، والشيء يجمع صفتين، يؤخذ مِن صفة كذا، ففيه دليلٌ على ألا يؤخذ من غير تلك الصفة من صفتيه، بهذا قلنا: لا يتبين أن يؤخذ من الغنم غير السائمة صدقة الغنم، وإذا كان هذا هكذا في الإبل، والبقر؛ لأنها الماشية التي تجب فيها الصدقةُ دون ما سواها).

يقول النووي[7]: (لا تجب الزكاةُ في النَّعَم إلا أن تكون سائمة، فإن عُلفت في معظم الحول ليلًا ونهارًا، فلا زكاة، وإن عُلِفت قدرًا يسيرًا لا يتموَّل فلا أثَر له قطعًا،‏ والزكاةُ واجبةٌ، وإن أُسِيمت في بعض الحول وعُلِفت دون مُعظَمه.

ويقول أيضًا في المجموع: (وهذا المفهومُ الذي في التقييد بالسائمة حُجَّةٌ عندنا، والسائمةُ هي التي ترعى وليست معلوفةً، والسَّوم الرعي).

• أدلة الحنابلة على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
يتفق الحنابلةُ مع جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية وأكثر أهل العلم باشتراط السَّوم في وجوب زكاة الماشية، فتجبُ الزكاة في السائمة من الإبل والبقر والغنم.

يقول ابن قدامة[8]: (فإن مذهبَ إمامنا -يقصد ابنَ حنبل- ومذهب أبي حنيفة أنها إذا كانت سائمةً أكثرَ السنة ففيها الزكاة، وقال الشافعي‏:‏ إن لم تكن سائمة في جميع الحول فلا زكاة فيها؛ لأن السومَ شرط في الزكاة‏، ‏ فاعتبر في جميع الحول؛ كالمِلك، وكمال النصاب، ولأن العلَف يُسقِط، والسَّوم يُوجِب‏، ‏ فإذا اجتمعا غلب الإسقاط، كما لو ملَك نِصابًا بعضه سائمة، وبعضه معلوفة، ولنا عمومُ النُّصوص الدالة على وجوب الزكاة في نُصُبِ الماشية، واسم السَّوم لا يزول بالعلَف اليسير).

ويقول أيضًا: (وفي ذِكر السائمة احترازٌ من المعلوفة؛ فإنه لا زكاةَ فيها عند أكثرِ أهل العلم).
ويقول المرداوي[9]: (لا تجب الزكاةُ في غير السائمة، والخارج من الأرض، والأثمان، وعُروض التجارة، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب).

• السَّوم الذي تجب فيه الزكاة:
وإذا كان الراجحُ مِن أقوال أهل العلم ـ وهو مذهب الجمهور كما تقدم ـ عدمَ وجوب الزكاة في الأغنام المعلوفة؛ لِمَا ثبت في صحيح البخاري، فإن القائلين بوجوب الزكاة في الأنعام السائمة يختلفون في اعتبار السَّوم الذي تجب به الزكاة؛ فاشترط الحنفيةُ والحنابلة أن ترعى العُشب المباح في البراري في أكثر العام بقصد الدَّرِّ والنسل والتسمين، فإن أسامها للذَّبح أو الحمل أو الركوب أو الحرث، فلا زكاة فيها؛ لعدم النماء، وإن أسامها للتجارة ففيها زكاة التجارة،‏ وإن أسامها بنفسها بدون أن يقصد مالكُها ذلك، فلا زكاة فيها عند الحنفية‏،‏ وأما عند الحنابلة - على الأصح - فلا يعتبر للمسوم والعلف نية، فتجب الزكاةُ في سائمة بنفسها، أو سائمة بفعل غاصبها؛ كغصبه حبًّا وزرعه في أرض مالكه، ففيه العُشر على مالكه، كما لو نبت بلا زرع،‏ ولا تجب الزكاة في معتلفة بنفسها، أو بفعل غاصب لعلفها، مالكًا كان أو غيره‏،‏ وذهب المالكية إلى أنه لا فرق بين السائمة والمعلوفة، فتُزكَّى مطلقًا.

ونقول: إنه إذا كان الإمام مالك قد ذهب إلى وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام على الإطلاق، بغير تفرقة بين سائمة وغير سائمة، بما استدل به على ورود لفظ الإبل مطلقًا في بعض الأحاديث، ولم يقيد بالسائمة، كما في كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما: (في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها في كل خمسٍ شاةٌ) - فقد ردَّ الجمهور على استدلاله بأن هذا الحديثَ مطلق، بينما الأحاديث الأخرى مقيدة بالسَّوم، والقاعدة المعروفة في هذا "أن يحمل المطلق على المقيد، إذا كان من جنسه" بلا خلاف[10]، وقد أوردنا الأدلةَ التي ساقوها واستدلوا بها على صحة ما ذهبوا إليه، مما لسنا في حاجة إلى تكراره.

وبعد استعراض أقوال المذاهب الفقهية الأربعة وأدلتهم في التمسك بشرط السوم لوجوب الزكاة، أو من وجوب الزكاة مطلقًا، إنما صدرت عن اجتهاد معتبر، وكان لتمحيص اللغة، وتفسير الأحاديث الشريفة، مع إعمال العقل دورٌ كبير فيه.
.....................................................................................................................................
[1] أحمد بن أحمد المختار الشنقيطي، مواهب الجليل من أدلة خليل، إدارة إحياء التراث الإسلامي، 1983، قطر.
[2] أبو الوليد سليمان الباجي، المنتقى شرح موطأ مالك بن أنس، مطبعة السعادة، 1332هـ، مصر.
[3] عبدالله بن محمود الموصلي، المختار للفتوى: على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، دار البشائر الإسلامية، 2012، القاهرة.
[4] محمد أمين عمر "ابن عابدين"، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، دار الكتب العلمية، 1992، بيروت.
[5] علاء الدين، أبو بكر الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتب العلمية، 2003، بيروت.
[6] محمد بن إدريس الشافعي، الأم، باب "ما يُسقِط الصدقةَ عن الماشية"، كتاب الزكاة، دار المعرفة، 1990، القاهرة.
[7] أبو زكريا يحيى النووي، روضة الطالبين، دار ابن حزم للطباعة والنشر، 2002، بيروت.
[8] موفق الدين بن قدامة المقدسي، المغني، دار عالم الكتب، 1997، القاهرة.
[9] علي بن سليمان المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، مطبعة السنة المحمدية، 1956، القاهرة.
[10] شيخ الإسلام ابن تيمية، "مجموع الفتاوى" (32 /32).

الأحد، 9 أكتوبر 2016

قصة فانتازيا: ما زالت هناك تطير...



لا شئ حولها يشي بالبهجة غير التخيل مع التحديق في المساحة الخضراء التي تحيط بمنزلهم، في تلك البقعة الهادئة من الضاحية التي تسكنها، ويفصلها عن البيوت المتشابهة في الطراز المعماري الأكثر ثراءً من بيوتهم غير بحيرة تتوسطها نافورة ومقاعد رخامية حولها.
  لكن الشيء الأعظم من تصورها الدائم بهبوط طبق فضائي عند البحيرة، هو أن ترى تلك الفتاة البديعة التي تلعب بدراجتها قرب النافورة، تتسلل سامية التي لم ترزق والدتها بسواها حتى الآن، من غرفتها وهي تقفز فوق الدَرج كفراشة، وتعلو إجابتها على سؤال أمها:
ــ دقائق يا أمي وسوف أعود..
  تتوقف الأخرى وتنزل من دراجتها، وتتقدم نحو سامية في حبور، تدعوها لأن ترافقها قيادة الدراجة، يمضيان وقتًا طويلًا يمرحان في دوائر حول النافورة، يتوقفان، ثم يعدوان في خفة السحب التي تسوقها الريح بقوة، يتضاحكان.. ثم يطلقا ساقيهما للريح، لكن الفتاة تطير بحق بينما سمية تسألها:
ــ كيف تفعلين ذلك؟
تواصل الطيران، وكأنها لم تسمع، تعاود سمية السؤال مصحوب بسؤال آخر عن اسمها؟
ــ  اسمي ميريهان.. والطيران هوايتي..قدرات.. تجربين؟
ــ لا ليس الآن..
تواصل ميريهان الطيران، بينما تستلقي سامية على عشب الحديقة المائل للبرودة ..تتابعها وهي ترتفع أكثر وأكثر ذاهلة..بينما تقف سيارة تابعة لمستشفى خاصة، ينزل منها رجلان يرتديان الزي الأبيض..يتقدمان نحوها ثم يسحبانها إلى السيارة، كادت أن تصرخ، لكنها لم تستطع فقد ذهبت  في شبه غيبوبة، ترى والدها يجري في ردهة المستشفى..يدخل غرفة، ويخرج في أعقابه أحد التابعين للمستشفى، تدور بعينيها فترى أمها مستلقية على سرير في غرفة وحدها في شبه إعياء.. تخرج من بطنها طفلة باهتة الملامح، تعطيها وردة ذابلة، تمسكها سامية مترددة، والخوف يتسلل إليها.. تخطفها منها أمها ثم تلقيها بجوار الطفلة الباهتة الملامح.. تقف سامية مشدوهة من رجل يرتدي بالطو أبيض وهو يحدِّق فيها.. يرفع سبابته آمرًا من حوله أن يخرجوها بعيدًا.. تجري مسرعةً دون أن تنظر وراءها في طرقةٍ طويلة بين مقابر متراصة، تضع على قبرٍ صغير باقة ورد، وخلفها والديها يرتديان ملابس سوداء، يبكيان.. تقفل عائدة من نفس الطريق الذي أتت منه نحو سيارتهم:
ــ لن أعود وحدي..بدونها.. لن أتركها وحدها هناك..
   تتقدم ميريهان منها:
ــ ألا تتعبين من الاستلقاء والتأمل، ألم تسمعين ندائي..هيا لنطير..
تمسك يدها ..يطيران.. يمشيان فوق البحيرة، دون أن يبتلا.. من شرفة منزلها تراقبها أمها والمشهد يصعقها:
ــ تصورت أن عندها توحد حين تكلم نفسها، الآن تطير!
تنادي ابنتها.. لاتسكت. تلح في النداء، تهرول سامية نحو بيتها، وهي تعتذر لميريهان، لكن الأخرى تمضي أيضًا نحو منزلها القريب من البحيرة..
ــ مع من تتحدثين يا سامية، وكيف تطيرين، من علَّمكِ هذا؟!
ــ  كنت أتحدث مع ميريهان.. صديقتي.. هذه الفتاة الرائعة، وهي التي علمتني الطيران، ألم تشاهدينها؟!
ــ لم يكن هناك أحد سواكِ بنيتي..
ــ ألا تصدقينني.. تعالي معي.. لقد تركت ميريهان دراجتها لنعود ونلعب بها..
   تصاحبها أمها رحلة التثبت.. بينما الجو الخريفي يبعث أنوارًا رمادية، تثير الذعر والبرد معًا في أوصالهما، لكنهما لا يأبهان.. حتى يصلا للدراجة، وتركبها سامية وهي تمضي في فرح نحو بيت صديقتها:
ــ تأكدتي ماما، هذه دراجتها..
بينما أمها تتابعها وهي تحملق في المجهول بعينين زائغتين، وقلب تعلو دقاته حتى تغطي أصوات المياه الفوارة في البحيرة..
ـــ تأكدت .. انتظري قليلًا، حتى أدركك..
   تسرع سامية، لا تأبه لرجاء أمها، وتنادي صديقتها، تقترب أكثر.. وصوتها يعلو بالنداء أكثر.. وأمها في أعقابها، تخرج امرأة متوسطة السن، تسألها، من تريدين:
ــ ميريهان ..
ــ ميريهان من؟!
ــ ميريهان ابنتك، أليس هذا بيتها وأنتِ والدتها؟!
تنظر السيدة بوجهٍ تعلوه أمارات الدهشة والحيرة والحرج، لا تدري ماذا تفعل:
ــ تعاليا اقتربا.. تفضلا..ادخلا.. أهلًا وسهلًا..
ما كادا يدخلان..حتى أشارت سامية إلى صورة لفتاة موجودة في إطار فوق منضدة جانبية، وهي تصرخ فرحة:
ــ مامي ..هذه صديقتي ميريهان..
تتقدم نحو البرواز وتمسكه، ثم تقدمه لأمها كدليل براءتها..تصرخ أم هايدي فيها:
ــ دعي البرواز مكانه..
 تنظر لأم سامية:
ــ سامحيني..هذه صورة ميريهان ابنتي التي ماتت..فكيف رأتها ابنتك ولعبت معها؟!
ــ أنا أسفة لموت ابنتك، ولكن متى، وكيف؟!
ــ ماتت من عامين، حين دهستها سيارة مسرعة وطرحتها من فوق دراجتها..
  تعدو سامية مسرعة نحو بيتها، بينما أمها تعتذر لأم ميريهان، على وعد باللقاء في ظروف أفضل.. تعدو وراء ابنتها، تستمهلها لتدركها، لا تستطيع..
  تقف سمية أمام البحيرة تحاول أن تقفز لأعلى، لا تستطيع.. تحس بخيبة الأمل.. ترتمي على العشب البارد متهالكة.. تجلس أمها على المقعد الرخامي الثابت بالحديقة، تراقبها دون كلام.. تحلق ميريهان عائدة ومعها أطفال صغار يطيرون في دوائر متقاطعة، والسحب تحوطهم، كل طفل معه وردة زاهية جميلة، يلوحون لها، تلوح لهم، أمها تتابعها وهي تبتسم، فقد عاد الإشراق لوجه سامية من جديد، تتحدث أمها في الهاتف وهي تستحث الطرف الآخر على المجئ.. تتحسس الأم بطنها التي ارتفعت قليلًا، ترى في يد ابنتها وردة جميلة شديدة الاحمرار..
  تقف سيارة يتقدم والد سامية من والدتها، بينما يتبعه رجلين يرتديان الزي الأبيض، يأخذان ابنتهما في هدوء إلى سيارة الإسعاف، وفي ردهة المستشفى الطويل ترى سامية والدها يهرع مسرعًا، بينما أمها تتبعها إلى غرفتها، ورجل يرتدي البالطو الأبيض وشعره مشوب باللون الأبيض، وسماعته تتدلى على صدره يتبعهما مسرعًا قلِقًا، بينما تهمس له الأم:
ــ منذ ماتت أختها ميريهان منذ عامين، في نفس المستشفى، وهي ما تزال تفتقدها، لأنها كانت لعبتها وصديقتها، وشريكتها في غرفتها، وكانتا تلهوان كثيرًا عند البحيرة التي تتوسط الحديقة..
تتحسس سامية بطن أمها، تعطيها أمها وردة زاهية وتطمئنها، أن في بطنها يلهو جنين ينتظر الخروج...
ــ ولكنها يا أمي كانت هناك..
ــ نعم بنيتي، ستكون هناك..
   تبتسم سامية، وهي تنظر إلى البحيرة من نافذة سيارتهم، وترى ميريهان ما زالت تطير فوق البحيرة.. تلوح لها.. 


حوار إذاعي مع الأديب والكاتب التونسي رضا سالم الصامت...


السبت، 8 أكتوبر 2016

قصيدة: "ثرثرة"...






فاتتك جميع القطارات
والمحطة خاوية..
وهناك..
لا ينتظرك أحد
أوراق الأشجار تواسيك
وذرات رمال ديسمبر الباردة..
ليس في عينيك ثورة عارمة..
شوقٌ محموم..
أو ابتسامة حانية..
رخامي الملامح
جلمودي البسمات
تجيب في إيماءة
وتنتظر في ثقة..
تطوي الصحيفة ..

عزيزتي: سأستقل القطار القادم..
فهناك مثلك عجوز تنتظرني
في محطة قادمة..
سأثرثر معها.. وبائع الجرائد..
وماسح الأحذية..
هناك دومًا من ينتظر..
حتى الثرثرة..


http://kasedat-elnathr.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%af-%d8%a5%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85-%d9%8a%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ab%d8%b1%d8%ab%d8%b1%d8%a9/

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

حوار مع الأديب التونسي رضا سالم الصامت









مع انتصاف القرن العشرين جاء إلى الدنيا طفلًا صفاقسيًا من جنوب تونس، كبر قليلًا فالتحق بمدرسة قرآنية في المرحلة الابتدائية ثم أكمل مشواره الدراسي حتى الثانوية آداب ليغادر بلاده متجهًا إلى عاصمة النور باريس، وقد عمل مدرسًا للغة العربية عقب عودته من فرنسا في بدايات مشواره ، و لكن سرعان ما غادر التعليم ليلتحق بالإدارة  كإداري محنك إلى أن أحيل على المعاش منذ سنة 2012 .

من اسمه اتخذ شعارًا له في الحياة: "الرِّضا... رايتي، والسَّالم... غايتي، والصَّامت من الصمت... روعتي وحكمتي"

 إنه الأديب التونسي  رضا سالم الصامت، صامت لا يصدر ضجيجًا، ولكن محصوله الإبداعي  وفير، فرش بطول قامته ظلالًا وريفه فوق خريطة الإبداع، فكان نهمًا في امتداده واهتمامه؛ إذ عمل صحفيًا ومراسلًا، وكتب المقالات في شتى مناحي الفكر، وعكف على القصة الأدبية، ثم الرواية والمسرح، وأشبع نهم الأطفال بوفرة من القصص التي تحمل قيمًا ورؤى تأسيسية واجبة، ثم دلف إلى عالم السيناريو وأبدع فيه بعض الأعمال، ثم دخل عالم الترجمة، حيث ترجم العديد من الأعمال لشعراء من تونس ومن بعض البلدان العربية الأخرى و منهم الكاتب و الشاعر السعودي حسن الحارثي ، حيث ترجم له قصيدة شعرية  بعنوان " اقترب مني " إلى اللغة الصينية . 

لغزارة أعماله وتنوعها، سأكتفي بالإشارة إلى بعضها: مسرحية "صاحب القميص الأحمر"، ومسرحية للأطفال "الفراشة الصغيرة"، رواية "الصفعة " ورواية "الرجل الشبح"، وقصص كثيرة للأطفال، ومنها: القط لطيف والفأر خفيف، الديك المعاق التي ترجمت إلى اللغة الصينية، كما أن له العديد من الكتب التي تعكس تشعب اهتماماته، وعمق ثقافته، ومنها: "دراسة معمقة عن طبق (الشرمولة) الصفاقسية باعتباره من التراث الغذائي لأهالي مدينة صفاقس"، و كتاب عنوانه : " الطوابع البريدية في متناولك ".

حصل الصامت على الشهادة الأممية للسلام وفاز في المسابقة الدولية لعام السلام 1986، و تم تكريمه  في العاصمة الصينية بكين، نال العديد من شهادات التقدير، إلى جانب فوزه بأفضل مقال صحفي عام 2009، بالإضافة إلى فوز بعض أعماله وقصصه بالجائزة الأولى في أدب الناشئة وجوائز أخرى، وقد مثَّل بلاده في ملتقيات أدبية وثقافية في الخارج.

    انضم كاتبنا الصامت إلى نادي القصة، ورابطة اتحاد الكتاب التونسيين للوسط، وأسس ناديًا للصداقة مع إذاعة الصين الدولية ، وساهم في بعث فصل كونفوشيوس لتدريس اللغة الصينية، ويشغل حاليًا منصب المستشار الإعلامي لإذاعة الصفاقسية ، والمستشار الإعلامي والثقافي لاتحاد الكتاب والمثقفين العرب، ويسعدني أن أدير هذا الحوار معه : 

ــ على الرغم من غزارة وتنوع إبداعك كاتبنا، لكننا نلاحظ أن يد النقد مغلولة عنها، هل هذا يعكس تردي مكانة النقد في الوقت الحالي بعامة، أم عن إبداعكم بخاصة؟

 ... بداية اسمحوا لي بأن اشكر اهتمامكم بالكتاب والمبدعين العرب وأتمنى إن أوفق في الإجابة على كل أسئلة هذا الحوار. بالنسبة للسؤال فأنا أعتبره سؤالًا قيمًا وأتفق معكم في أن يد النقد مغلولة وهي فعلًا مغلولة لا فقط على أعمالي وقصصي، بل على كل أعمال الكتاب تقريبًا؛ فالنقد هو تقييم لأي عمل إبداعي كان، شريطة أن يكون نقدًا بناءً، يبني ولا يهدم، أما إذا كان نقًدا يعرقل ويصيب أي عمل أدبي ما بتشويه صورته، فأعتبره نقدًا هدامًا ولكي يحافظ هذا النقد على مكانته السليمة يجب أن يكون بَنَّاءً، لا هدامًا، أما في خصوص إبداعاتي الأدبية فقد تعرضت للنقد من طرف كبار النقاد، قد يكون ليس كلها ولكن البعض منها وهذا لا يقلقني، بل على العكس يفرحني ويفتح لي المجال لتحسين أعمالي الأدبية وتطويرها. ولا يمكن أن أحكم على أن النقد يمر بحالة تردي فهذا شأن النقاد وتخصصهم حسب اعتقادي.  كما يقال "عين النقد واسعة وعين الإعجاب ضيقة". 

ــ مقولاتكم منها ما يتسم بالعمق والطرافة ويلتصق بكم، ومنها ما هو مشترك وبديهي ولا يدل على من كتبه، فلما الإصرار عليه؟

 ... صحيح لدي مقولات تتسم بالعمق والطرافة، وهناك إصرار وقد تكون بديهية لأنها نابعة من صميم الواقع. أعتبرها مقولات مأخوذة من تجارب مرت أمامي مثال على ذلك مقولة: "الشجـاع من تحكم في أعصابــه"،  ومقولة: "الحياة كالمرآة يا أمي، إن لم تتزيني لها، فلن تبتسم لك"، ومقولة: "الجهل كالشمعة المنطفئة تجعل الإنسان يعيش أبد الدهر في الظلام".

هذه  مقولات نابعة من صميم واقع الحياة ... قد يكون البعض منها ما هو مشترك وبديهي وهذا طبيعي لأننا نعيش نفس التجارب في هذه الحياة التي تأتينا كل يوم بالجديد الجديد.

ــ هل يكون حاضرًا في ذهنك عمر الأطفال الذين تقدم له إبداعك، فقد لاحظت بعض الألفاظ الصعبة التي تتسلل إليها، وربما حالت دون فهم مقصودها؟

 ... عندما أمسك قلمي لأكتب قصة للأطفال أتقمص شخصية الطفل إن صح التعبير، وآخذ بعين الاعتبار سنه وأسبح في خياله وملكته وأشرع في الغوص في عالمه وأحلامه، فالطفل العربي بحاجة إلى قصص تتحدث عنه وعن مشاكله وعن بلده وعاداته وتقاليده ودينه فهي تثري معرفته وتحثه على التحلي بالأخلاق الحميدة ولذلك دائمًا ما تجد في قصص الأطفال التي أكتبها  موعظة أو حكمة أو نصيحة أو مَثَل. فالحبكة مطلوبة فهي أحداث القصة وأدب الطفل له قواعده الخاصة به والدليل أن لي قصص أطفال توجت كأفضل قصة أطفال مثل قصة:  "علاء والأرنب"  و "قصة  الغراب والصخر".  

في تونس لم يكن لدينا أدب خاص بالطفل،  حيث كان يقتصر على ما يسمى بالخرافة  وحكايات الجدة، ولكن بعد فترة الاستقلال بقليل برز بعض الكتاب المتخصصين في أدب الطفل أمثال: بوراوي عجينة والعبد الفقير وحفيظة قارة بيبان وغيرهم.  

ــ إنتاجكم الغزير في أدب الأطفال متناثر هنا وهناك، فلما لا تجمع تلك القصص في مجلد من الأعمال الكاملة؟

 ليس من السهل عليَّ جمع كل أعمالي القصصية في مجلد، رغم أني فكرت في هذا، ولكن لم أجد من يساعدني على تحقيق فكرتي،  فالموارد المادية قليلة والمطابع كلفتها باهظة والوزارة أو المندوبية الثقافية  بمدينتي لا  تقدم  الدعم  المطلوب إلا الجزء الذي لا يفي بالحاجة - فالعين بصيرة واليد قصيرة  كما يقال- لذلك اكتفيت بنشر بعضها على صفحات مجلات ثقافية وصحف ورقية وعلى مواقع الكترونية وبصفتي كاتب صحفي غالبًا ما أنشر قصصي على أعمدة الصحف والمجلات وعلى بعض المواقع الإلكترونية التي أتعامل معها مثل رابطة أدباء الشام وشبكة الحوار نت وجريدة الأولى التونسية.  

ــ في وقت يسود مفهوم حرمة سماع الموسيقى، توجهت بدعوتكم لتربية الأطفال تربية موسيقية، غير أنك توقفت عن تدعيمها فيما بعد، هل لعدم جدواها، أو مخافة الانتقاد؟

... لا هذا ولا ذاك تربية الأطفال لا فقط موسيقيًا، وإنما تربية شاملة ومتكاملة أساسية لصقل موهبة الطفل ورعايته فنيًا وتربويا. والموسيقى كالرسم تهذب ذوق الطفل وتزرع فيه حب الطبيعة والحياة ثم إن الموسيقى ثقافة وأدب. بالنسبة للانتقاد  فلا أخاف من ينقدني أو ينتقدني فان كان نقده أدبيًا فأهلًا وسهلًا وإن كان نقدا "انتقادًا" فيه تجريح وخروج عن آداب الحوار واللياقة فلا أهلًا ولا سهلًا ... والقافلة تسير والكلاب تنبح كما يقول المثل ولكل رأيه، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية كما يقال.  فعندما أنشر قصة للأطفال هناك من تعجبه ويتفاعل معها، وهناك من لا تعجبه وهذا من حقه، بحيث لا يمكن لأي كان أن يبلغ رضاء الناس فمن الصعب وخاصة في الحقل الأدبي إرضاء كل الناس وبالتالي كل الرغبات لا يمكن أن ترضيها ولكل منا قادح ومادح وهذه سنة الحياة في خلقه. فيكفيني فخرًا أنني قدمت ما عليَّ، وأن البعض من أعمالي وبكل تواضع صارت مرجعًا موثوقًا به يمكن الرجوع  إليه عند الحاجة.

ــ أسقطت على بعض قصصكم للأطفال الواقع السياسي المٌعاش، وهذا شيء جيد، لكنك لا تترك للعمل أن يتكفل بنفسه إلى النهاية، حتى تقتحمه بجملة وعظية، حتى لو كنت الراوي، لماذا؟

... هذا سؤال مهم جدًا،  هنا يأتي عنصر التشويق أترك  للقارئ الكريم أن يبحث ويبحر بخياله الواسع في عالمه كما قال كاتبنا المفكر الموسوعي الدكتور محمد حسن كامل  ليكتشف القارئ الصغير النهاية بنفسه وأقتحمه فعلا بجملة وعظية هي التي ستفتح له أبواب الولوج إلى نهاية أحداث القصة وفهمها والعيش بين سطور النص. 

ــ كونك معلمًا للغة العربية، وكاتبًا للأطفال تلاحظ ولا شك تدني المستوى اللغوي لهم، فلما لم تقدم عملًا أو كتابًا ييسرها لهم أو يشوقهم إليها؟  

... صحيح هناك تدني على المستوى اللغوي لبعض الشباب والأطفال والذين هم بحاجة إلى الرعاية وصقل موهبتهم، و لكن ليس بمقدوري في الوقت الحالي أن أقدم لهم أي عمل أو كتاب يصحح لهم هذا الوضع  المتدني على مستوى اللغة  وهذا يعود ربما  لأسباب مادية بحتة. لكن يبقى عنصر التشويق في قصصي موجودًا، فأسلوب التشويق بمعناه العام له دور حاسم في قراءة الطفل للقصة فان دور العنوان، هو دور أساسي يليه جاذبيةُ الأسطر الأولى.. إلى أن نصل إلى التشويق الأعمق النابع من داخل النص وتزداد أهمية هذا العنصر أكثر فأكثر في عصرنا الحاضر إذا أخذنا في الحسبان ما دخل إلى عالم الصغار من تأثير أجهزة الإعلام، وأنواع اللعب والتسلية الالكترونية وهو حسب اعتقادي كلها وسائل تجذبهم وقد تصرفهم عن القراءة ومطالعة الكتب القصصية.

ــ ألا ترى أن إطلاق وصف رواية على "الرجل الشبح" لا يتفق مع بنائها، والاقتصار على كونها قصة كان من الأفضل، أم ما نشر كان موجزًا لها؟ 

... في الواقع  وباختصار شديد "الرجل الشبح" في الأصل هي قصة وأنا معك في هذا الوصف لكن الناشر اعتبرها رواية وكان النص الذي نشر موجزًا لها وقد نشرت لي في جريدة الأيام الجزائرية "أقواس أدبية" وفي رابطة أدباء الشام بتاريخ 8 أيلول سبتمبر 2012 وكذلك في موقع "دنيا الوطن" ونالت إعجاب معظم القراء.  

ــ امتد اهتمامك السياسي خارج حدود تونس إلى بعض البلدان العربية وأكثرها سوريا واليمن، لكنك في المقابل لم تهتم ببعض القضايا السياسية المغاربية؟  

... اهتمامي كان دائمًا واضحًا بالوضع الخارجي وخاصة الوضع العربي الراهن (سوريا والعراق واليمن ولا ننسى فلسطين)، ولكن لا أتفق مع حضرتك في أني لم أتناول في كتاباتي الوضع المغاربي، بل على العكس فقد كتبت مرارًا وتكرارا العديد من المقالات التي تهتم بالوضع  السياسي والاجتماعي العربي والمغاربي أيضًا.

ــ على الرغم من نجاح ثورات الربيع العربي في بعض البلدان، إلا أنها جرت معها قمعًا لحرية الصحفي وترهيبه، بوصفكم صحفيًا في دولة رائدة للربيع العربي، هل يعاني الصحفي التونسي نفس المصير؟

 ... طبعًا الصحفي دائمًا مظلوم ولا ننسى أن مهنته هي مهنة المتاعب فكم من صحفي تعرض للضرب والسحل والإهانة والاختطاف وحتى القتل لأن ما شهدته  بعض البلدان العربية من تغيير بسبب ما يسمى بالربيع العربي لم يقع استثماره كما ينبغي فالكل يطالب ولا شيء يتحقق أو تحقق...لأن هذا الذي يسمونه ربيع استهدف أمتنا العربية  والإسلامية، حسب رأيي الشخصي، فما نشهده الآن في عديد المناطق من مآسي وحروب دامية في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا، تجعل من الصحفي الذي ينقل الخبر من موقع الحدث مستهدفا هو الآخر والصحفي التونسي كغيره يعاني من نفس الشئ.

   وشخصيًا كتبت عديد المقالات التي تدعو إلى حماية الصحفيين من هذه الممارسات العنيفة والمؤلمة، مثلما كتبت عن ضرورة تكريس حرية التعبير، خاصة ونحن نعيش "الديمقراطية" في القرن الحادي والعشرين.

ــ عبر عدة مقالات حاولت إزالة الوهم والخوف عن صعوبة تعلم اللغة الصينية فهل أفلحت في ذلك؟ 

... اللغة الصينية لغة جميلة وهي ليست صعبة كما يتصور البعض، ولكن معظم الشباب الذين يدرسونها يجدونها صعبة في البداية، ربما أقنعت البعض من دارسي هذه اللغة، ولكني لم أفلح لحد اللحظة، ولهذا السبب ساهمت في تأسيس فصل كونفوشيوس بمدينة صفاقس لتدريس هذه اللغة بالوسائل المتطورة وبطرق بيداغوجية تسهل عليهم تعلم  المقاطع الصينية. لأن اللغة الصينية لا أبجدية فيها كاللغة العربية أو الفرنسية  فهي لغة تحتوي على كلمات أو مقاطع. فالرمز الواحد عبارة عن كلمة مستقلة. ويكتب الرمز من اليسار لليمين، ومن أعلى لأسفل، وما يخالف ذلك يعتبر خطأ. ثم لا ننسى أن اللغة الصينية هي لغة تتميز بأربعة ألحان أساسية نميز بها معاني الكلمات:  النبرة الأولى مـد والنبرة الثانية مرتفعة والنبرة الثالثة انحناء وارتفاع والنبرة الرابعة والأخيرة هي نبرة  منخفضة.

 والحمد لله أفلحنا ولو نسبيًا وصار لنا شباب يحذق بطلاقة اللغة الصينية في تونس.

ــ  لماذا لا تنشر مقالات في الأوساط الصينية تدعو فيها إلى تعلم اللغة العربية بنفس الحماسة؟

... كتبت ولله الحمد عديد المقالات ونشرتها لدى الأوساط الصينية ففي صحيفة الشعب اليومية التي تصدر بكل اللغات بما فيها اللغة الصينية الأم واللغة العربية والانجليزية والفرنسية... الخ،  نشرت عدة مقالات تعرف بالثقافة العربية. ولغة الضاد في الصين لا خوف عليها فهي تدرس في كل الجامعات الصينية تقريبًا، وخاصة جامعة اللغات الأجنبية بالعاصمة الصينية بكين والبعض من الصينيين لهم رغبة قوية في تعلمها بحماسة وشغف  وإذا سنحت لك فرصة لزيارة الصين لا ولن تجد أي صعوبات في مجال اللغة، حيث يمكنك التحدث بالعربية  ويفهمونك. فالصين تعد مليار ونيف نسمة ولا ننسى أن في الصين 10 قوميات مسلمة أبرزهم قومية هوي وفيهم الكثير ممن يحذق ويتكلم اللغة العربية وبطلاقة  أيضًا.

ــ ترجمت العديد من الأعمال التي لم أقع إلا على أقلها، كما تُرجمت بعض أعمالك إلى الصينية والفرنسية، ألم يحن الوقت بعد لتعكف على ترجمتها جميعًا بنفسك؟

... نعم، بحكم تعاملي اللصيق بالصينيين تم ترجمة البعض من أعمالي القصصية خاصة  إلى اللغة الصينية من طرف المترجم والشاعر الصيني "شيه بينغ رو" الذي تغنى بجمال وسحر الطبيعة في تونس أيام عمله بوكالة شينخوا الصينية في تونس وهو صديق  زارني في بيتي في العديد من المناسبات.

 بالنسبة لقصصي، أذكر على سبيل المثال قصة "الديك المعاق" التي ترجمت إلى اللغة الصينية ولغات أخرى وفي البرنامج سوف أحاول ترجمة أعمال أخرى إن شاء الله بالتعاون مع السيد "شن باو بينغ" وهو أستاذ لغة صينية يعمل حاليًا بصفاقس التونسية. ثم ترجمة نص أدبي ليس بالأمر الهين، فهذا يحتاج إلى مجهود كبير وخبرة ودراية بفن الترجمة وقواعدها وأدواتها.

ــ بصفتكم رئيسًا لفرع صفاقس لجمعية الصداقة التونسية الصينية، ما هو المردود من هذه الصداقة على الأدبين، والبلدين؟

 ... هي جمعية عريقة ولها فرع في مدينة صفاقس، تربطنا علاقات صداقة حميمية وتعاون مثمر في شتى المجالات مع الصين ولدينا اتفاقيات تعاون في التبادل الثقافي الذي يشمل كل الأعمال الأدبية والفكرية  وساهمنا في عديد المرات في التعريف بالثقافة  التونسية والعربية من خلال تنظيم معارض وملتقيات فكرية  وأدبية ونظمنا أسابيع ثقافية سواء في تونس أو في بكين. يعني هناك تبادل أدبي وتعاون ودي بين مثقفي البلدين. وفي 25 سبتمبر 2016 كان لي لقاء مع مديرة المكتب الإعلامي لإذاعة الصين الدولية بالقاهرة  الأستاذة  "تشانغ لي"  بمدينة صفاقس في إطار تظاهرة صفاقس عاصمة الثقافة العربية 2016 .

ــ لاهتمامكم العميق بالأدب الصيني القديم والحديث، وزيارتكم المتكررة للصين، ما مدى تأثر إبداعكم بهذا الأدب؟ ولماذا لم تترجم بعض الأعمال الصينية الحديثة إلى العربية؟

... الأدب الصيني، من أشهر وأعرق الآداب في العالم وبحكم زيارتي للصين في عديد المرات لم تغب عن ذاكرتي كلمات شاعر الصين "تيان هان" وهو يقول في مطلعها: (انهضوا يا من ترفضون ... أن تكونوا عبيدًا – من دمنا، من لحمنا– نبني لنا سورًا عظيمًا جديدًا وقرأت لأدباء أمثال: "لو شيون" و"ماو دون". ثم إن الصين مشهود لها عبر التاريخ بكونها صانعة للحضارة البشرية التي تستوعب كل الثقافات بما فيها الثقافة العربية، وعلى سبيل المثال الكاتب الكبير نجيب محفوظ  الحائز على جائزة نوبل في الأدب  في سنة 1988 لديه مؤلفات ترجمت له إلى الصينية حتى أصبحت جزءًا لا غنى عنه في الثقافة الصينية . كما ترجمت روايات ومجموعات قصصية ومختارات شعرية أو نثرية، ونال الكتّاب المصريون واللبنانيون حظًا أوفر في النقل إلى اللغة الصينية، حيث يأتي نجيب محفوظ في صدارة هؤلاء الكتّاب، إذ ترجمت له حوالي عشرين عملًا بما فيها ثلاثية  "بين القصرين وأولاد حارتنا"  ويليه إحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وطه حسين وغيرهم وترجمت المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، إضافة إلى ترجمات كثيرة لمختاراته نثرًا وشعرًا، كما ترجمت أعمال لميخائيل نعيمة وترجمت أيضًا أعمال متفرقة لأبي القاسم الشابي شاعر تونس الخالد. أتمنى أن يأتي يوم وتلقى أعمالي نفس الاهتمام وتترجم إلى اللغة الصينية، لكن هذا يبقى حلمًا يراودني قد يتحقق يومًا.

ــ مع اهتمامكم بالترجمة واتصالها بقضية تعريب العلوم والاكتفاء بتدريسها بالعربية فقط من بعض من ينادون بهذا ومعارضة غيرهم لهم في هذا الاتجاه. في أي الجانبين يختار الوقوف أديبنا؟ 

... الترجمة أعتبرها إضافة وأنا شخصًيا معها، لأنها وسيلة نقل للمعلومة ذاتها وبالتالي نقل لفكر الكاتب وثقافته وأسلوبه وهي تساهم في تقريب الثقافات، ومع ذلك تعريب العلوم وتدريسها بالعربية أعتقد أنه منهاج ضروري وأساسي، لأننا شعب لدينا هوية ولغة وثقافة وحضارة. وبالمناسبة أريد أن أغتنم الفرصة لأوجه تحية تقدير لسعادة سفير اتحاد الكتاب والمثقفين العرب بالولايات المتحدة الأستاذ محمود عباس مسعود الذي بصراحة يتعاون معي في ترجمة العديد من النصوص الأدبية لكتاب عرب وترجم لي أخيرًا مقولاتي إلى اللغة الانجليزية مشكورًا.

ــ ما موقع رضا سالم الصامت أديبًا على خريطة الإبداع التونسي؟ وما موقع الأدب التونسي على خريطة الإبداع العربي؟

 ... أنا لا أحكم على موقعي كأديب كيف يكون في خارطة الإبداع التونسي، بل أترك غيري يحكم وَيُقيِّمْ، أما بالنسبة لموقع الأدب التونسي على خارطة الإبداع العربي فأعتقد أنه موجود  وحالته الصحية ــ إن صح التعبيرــ بخير.  يكفي أن تونس أنجبت أدباء، مثل:  ابن خلدون ومقدمته الشهيرة، وشاعر الخضراء أبو القاسم الشابي وإرادة الحياة،  ومحمود المسعدي صاحب رواية "السد"،  ومحمد العروسي المطوي وغيرهم  كثير.

ــ  تقدم الفن التونسي عبر وجوه شابة عدة في التمثيل والغناء عبر الميديا العربية، بينما تراجع دور الأدب التونسي على الساحة تقريبًا، فما تحليل كاتبنا في الاتفاق والاختلاف؟

... الفن هو فن وهو أيضًا ثقافة، صحيح لاحظنا لا فحسب وجوه شابة تونسية، بل وحتى عربية ظهرت سواء في الغناء أو التمثيل أو ما شابه ذلك ولا أسمح لنفسي أن أحكم على شيء جديد حل علينا مثل غناء "الراب"، المُغني أحيانًا في أغنية "الراب"  يقع في منطقة رمادية بين الكلام والشعر والنثر والغناء ولكن لهؤلاء الفنانين ولهذا الفن عشاق كُثُر. وللناس فيما يعشقون مذاهب.

    أما بالنسبة لدور الأدب التونسي هل تراجع على الساحة، فأعتقد أنه لم يتراجع بل دعني أقول تأثر كثيرًا من هذا الفن الجديد (فن العصر) بين ظفرين، وليس فقط الأدب التونسي هو من تأثر، بل وحتى الفن العربي والعالمي.

ــ مارست كتابة السيناريو، ولك فيه عدة أعمال، فهل تحولت كلها أو بعضها إلى أعمال درامية؟ 

... لا أنكر أنني كتبت السيناريو، ولكن لم تتحول إلى أعمال درامية لأن هنالك ربما عوائق وشروط  تمنع ذلك، ثم إن أهمية ذلك يأتي في الترويج للنص وللمبدع في نفس الوقت، خصوصًا مع ارتقاء وعي طاقم العمل الدرامي إلى مستوى النص الأدبي.

  لكن لدي مسرحية واحدة فقط، تحمل عنوان "الزيتونة"  عرضت على خشبة المسرح عدة مرات وأعجبت المشاهدين. ثم إن المسرح هو أداة تعبير للغير وإن بقاء المسرح وديمومته يعتمد على شبابنا في اكتشاف نفسه وذلك من خلال استيعابه لكل ما هو جديد من معدات وتقنيات ولغات ومن خلال المسرحيات التي تعرض على خشبته مما يسهم في حل عديد المشاكل الاجتماعية العالقة في كل مجتمعاتنا العربية ونشر لغة التسامح والتفاهم بين الناس كما يحمل الجمهور قضايا شعوبنا العربية بروح متفتحة, فالمسرح أحد فنون التعبير البارزة عبر التاريخ، وهو نموذج من نماذج الثقافة العالمية التي رصعت تاريخ الإنسانية وعبرت عن أفراحه وأتراحه وتناقضاته وطموحاته وتصوراته. كيف لا وهو مرآة الشعوب بما تحمله أفكارهم ونفوسهم وأمانيهم وأحلامهم ومشاكلهم وأفراحهم وحتى أحزانهم. وبالنسبة لأعمالي الروائية، فأنا أعتبرها حالة إبداعية لها صورتها وخصوصيتها، وليس بالضرورة نجاحها لا يكتمل إلا إذا ما تحول إلى أعمال درامي.

ــ وقفت إبداعاتكم عند حدود النشر الورقي والالكتروني والترجمة لبعضها، فلماذا لم نشهد تفعيلًا دراميًا لها على مستوى الإذاعة والتليفزيون؟

... أعتقد أن السؤال يتكرر بصياغة أخرى وجوابي واضح، صحيح أن لي أعمال نشرت لي ورقيًا والكترونيًا، ولكن قد تكون لم تصل إلى مستوى معين يجعلها تشهد تفعيلًا دراميًا على مستوى التلفزيون خاصة أما في الإذاعة فقد شاركت في عديد البرامج الثقافية والأدبية ومنها برنامج المقهى الثقافي وتحدثت عن أعمالي المتنوعة، وبحكم أني كاتب صحفي لدي سلسلة من المقالات الاجتماعية تنشر لي أسبوعيًا تحت عنوان "الفاهم يفهم" بجريدة الأولى التونسية ونفس الشئ في شهر رمضان من كل عام لدي أيضا سلسلة مقالات يومية تنشر لي تحت عنوان: "نسمات رمضانية" الخ... غالبًا ما تتحدث عنها وسائل الإعلام وخاصة المسموعة من إذاعات محلية وجهوية ماعدا التلفزيون, ولكن لنعلم أنه ليس بالضرورة ــ حسب اعتقادي ــ أن نجاح أي عمل أدبي مرتبط  بتحوله إلى عمل درامي.

ــ سافرت إلى فرنسا، وإلى الصين، وبعض البلدان العربية، ولكنك لم تقدم لنا انطباعاتك حول تلك الرحلات، فيما يسمى بأدب الرحلات، هل ستفعلها قريبًا أم الفكرة غير واردة، والسبب؟

... كتبت مقالات موجزة فقط عن رحلاتي التي قمت بها إلى فرنسا والصين وبعض البلدان الأخرى وتعرضت فيها عن انطباعاتي عن هذه البلدان وعادات الناس فيها، ولكن ربما قد  أفكر في أن انشر سلسلة مقالات عن هذه الرحلات التي هي راسخة في ذهني والحمد لله. 

ــ اتصلت بالكثير من الشخصيات العربية وغيرها، ولكنك حرمت المكتبة العربية مما يسمى بأدب المذكرات أو الذكريات عن الأحياء منهم ومن رحل، ترى ما الداعي لذلك أديبنا، مع ما لهذا النوع من الأدب أهمية ومكان؟

... المكتبة العربية تزخر بأدب الذكريات وفيهم من رحل كالأديب محمد العروسي المطوي  وشاعر تونس الصغير أولاد حمد "رحمه الله"،  وهو الذي قال في قصيدته:

نحبُّ البلادَ 
كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ 
صباحًا مساءً 
وقبل الصّباحِ 
وبعد المساءِ 
ويوم الأحدْ

ولو قتّلونا 
كما قتّلونا 
ولو شرّدونا 
كما شرّدونا

لعُدنا غزاة لهذا البلدْ ....

فهذا النوع  من الأدب، أكيد له أهميته ويحتل مكانه بين رفوف المكتبات العربية وشخصيًا لديَّ أيضا مؤلف عنوانه "الطوابع البريدية في متناولك" وهو كتاب موجود بين رفوف المكتبة الوطنية التونسية للكتب صدر عن دار النشر للطباعة فسيفساء عام 1994 والذي يعتبر مرجعا ثقافيًا وتربويًا لمن يبحث عن تاريخ الطوابع البريدية في العالم وفي تونس وفي عديد البلدان وحتى الصين ويهم أيضا هواة جمع الطوابع وغيرهم.

ــ يعكف كثير من الكتاب في كتابة سيرتهم الذاتية لتكون شهادة منهم على فترة حياتية هامة في تاريخهم وتاريخ أمتهم، وليس في هذا نوع من الادعاء بحريتهم في سيرتهم، ولكنها حقٌ للأجيال القادمة، فهل نرى سيرتكم قريبًا أديبنا الكبير؟ 

... ككل كاتب له سيرة ذاتية تجدها في محرك البحث "غوغل" أو بالموسوعة الحرة العالمية ويكيبيديا، فهذين المؤسستين لا يعرفان  سوى الحياد والتدقيق في المعلومة وهذا يكفي لكي تعرف أكثر عن السير الذاتية لكتاب وأدباء كبار دخلوا التاريخ  الفكري والأدبي والعلمي من بابه الواسع، ويعدون من أهم الشخصيات سواء كانوا من الأحياء أو من الأموات. و مثلما ذكرت في سؤالك هذا حق للأجيال القادمة للتعرف عن هذا الكاتب أو ذاك. مثال على ذلك  الأديب طه حسين، نجيب محفوظ، لطفي المنفلوطي والقائمة تطول. أما بالنسبة لسيرتي أعتقد أن الوقت ما يزال مبكرًا ومثلما قال الدكتور والمفكر الموسوعي محمد حسن كامل في إحدى مقولاته: (إذا بلغت القمة، فاعلم أنك على أولى درجات الصعود. و نحن مازلنا نمشي الهوينا). 

   ختامًا، أريد أن أتوجه بالشكر لمحاوري "المشاكس" الأستاذ الناقد والشاعر المرموق السيد إبراهيم أحمد الذي وجه لي مشكورًا أسئلة أعتبرها جد قيمة، لأنها تدخل في إطار تخصصي الفكري والثقافي والأدبي إن صح التعبير، حيث وجدت نفسي أجيب على كل سؤال  بأريحية ورضاء تام، لأن  الرضا هو رايتي و السالم ...غايتي والصامت ... من الصمت حكمتي  والثقافة العربية الصينية هي أثري من الأثر وتأثري من التأثر، وقلت وما زلت أقول أن كل ما أكتبه سواء كان عربيًا أو فرنسيًا أو صينيًا "بيتكلم عربي"  كأرضنا الفلسطينية التي تتكلم عربي... كل ما أتمناه أن أكون قد وفقت بإذن الله تعالى في الإجابة عن كل أسئلة هذا الحوار الشيق وأن لا أكون قد أزعجتُ أحدًا، أو خرجت عن صلب الموضوع، فللقراء الكرام محبتي وتقديري والله ولي التوفيق.

ــ أشكر أرض تونس الخضراء التي أنجبت مثل هذه القامة التي تبدع في صمت، وتعمل في صمت، وكان في كل ما يكتبه مفيدًا وهادفًا، مد يده في السياسة محاولًا التحليل والتأصيل لوضع الحلول، نفع أطفال بلده وأطفال العالم العربي بما يبثه من حكم وقيم في ثنايا قصصه، ومع كونه لا ينتمي لعمل ثقافي حكومي استطاع أن يبني جسرًا ثقافيًا بين تونس والصين، وجعل له وجودًا ماديًا على الأرض، كل الشكر لكم أديبنا الكبير الهادئ الفعال الخلوق الأستاذ رضا سالم الصامت، محاورة شيقة، شاكستك بالأسئلة المزعجة، وكنت أنتظر منكم إجابات مشاكسة ولكن هذا ضد طبيعتك الهادئة المسالمة الراضية، متعكم الله بالصحة والعافية، وأتمنى أن تنتبه الجهات الثقافية بتونس وتسلط وتزيد بقعة الضوء نحو نشر أدبكم والتعريف بكم، فمثلكم قيمة مخلصة نافعة لتونس وللعرب وللصين.