الثلاثاء، 31 أغسطس 2021

حوار حول تاريخية الجزية في الإسلام..

 


أدارت الحوار:

الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن – مديرة مكتب سوريا للاتحاد الدولي للصحافة والاعلام الالكتروني
مديرة مكتب أخبار تحيا مصر في سورية
مستشارة رئيس التحرير لجريدة أحداث الساعة

ضيف الحوار:
دكتور السيد إبراهيم أحمد
رئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام الثقافية..
عضو شعبة المبدعين العرب بجامعة الدول العربية..

يحلو للبعض التهجم على الإسلام من خلال موضوع “الجزية” مع كونها صارت أمرا تاريخيا، بالإضافة إلى أن من يناقشونها لم يدرسونها بحيادية وعلم وتجرد وتعمق، ولأن الدكتور السيد إبراهيم له موسوعة في السيرة النبوية عالجت كثير من الشبهات المثارة حول الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، مما استدعى فتح النقاش بموضوعية وعصرانية وحيادية معه لينتفع به المسلم وغير المسلم على السواء:

ـ دكتور السيد إبراهيم: عهد الجزية لا يعود للإسلام كما يدعيه البعض، فهل هذا عائد للخطاب الديني الإسلامي أو هو مقصود من الشرائع الأخرى أم كليهما معا، وعدم نشره في المناهج لجميع الشرائع للتصدي لكل فكر متشدد من الجميع؟

من جديد أبدأ بالترحاب بكاتبتنا الكبيرة روعة محسن الدندن في هذا الحوار الذي سيعري كثير من المقولات والشبهات المثارة حول النيل من عظمة الدين السماوي الحق، وهو ليس بالأمر الجديد، وليس بالأمر الذي سينتهي عند الرد على مثل هذه الأكاذيب المغرضة التي تفتقد للحياد العلمي، والتجرد، والنزاهة، والموضوعية، والأدلة على ذلك أكثر ممن تحصى على مستوى التشريع أو على مستوى الأحداث التاريخية من عهد النبوة التي تعاملت مع الجزية باعتبارها خروجا من مبدأ الكراهة على اعتناق الإسلام من غير المسلمين بممارسة التخيير بين القتال أو اعتناق الإسلام أو فرض الجزية، وهو أمر يتسم بالعدالة المحضة، كما يتسم باحترام المسلمين لشروطهم في تعاقداتهم.

كل أهل العلم والتاريخ من كل الأديان والملاحدة على السواء يعلمون تمام العلم اليقيني عبر دراسة العصور السابقة، أن الجزية أمر معروف ومطبق عند الساسانيين والبيزنطيين بل وفي العهدين القديم والجديد والنصوص على ذلك كثيرة، والتفسيرات الشارحة لها تقرها وتبينها ولا تستهجنها ولا تنفيها، مما يعني دحض الافتراءات التي تدَّعي أن “الجزية” اختراع وابتداع إسلامي غير مسبوق، وبالتالي ينفي هذا الزعم زعم آخر بأنه محاولة إسلامية لسرقة أموال الشعوب، وما بني على خطأ وكذب فهو كذب وخطأ مثله، كما ادعى ممن لا خلاق لهم ولا مسحة من علم ولا دين، أن الجزية كانت مبلغا كبيرا حتى يعجز غير المسلم عن دفعه فيضطر اضطرارا للدخول في دين الإسلام وهو كاره، وهذا كذب وافتراء لأن “الإكراه في الدين” منهي عنه بالنص القرآني الثابت القاطع، كما ادعوا أن الجزية في الإسلام عمومية شاملة لا تقبل التفرقة بين الكبير ولا الصغير، وبين الفقير وبين القادر، وبين الشيخ وبين الشاب.

ولقد رد عن المسلمين المؤرخ “آدم ميتز” في كتابه: “الحضارة الإسلامية”: (كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار)، بالإضافة إلى أنها كانت مبلغا بسيطا يدفعه فقط الرجل القادر على القتال، وتسقط الجزية على بساطة مبلغها عن: [النساء، والذرية “الصغار”، والعبيد، والمجانين المغلوبين على عقولهم، والشيخ الفاني]..

كما يقتضيني الإنصاف ليس لديني باعتبار المعتقد بل باعتبار كونه دين رباني المصدر إنساني التطبيق، وهو ما ينفي مبدأ إكراه أحد على الدخول في الإسلام، مما يتوهم البعض أن الجزية كانت عقوبة إلهية لعدم الإيمان بالإسلام، وحاشا لله أن يكون كتاب الله متناقضا، بل الجزية ضريبة تؤخذ من غير المسلم نظير الانتفاع بالمرافق العامة للدولة، وكذلك ضريبة للدفاع عنهم من أي اعتداء خارجي، فأين كل هذا مما يقولون، والحمد لله فهو ثابت عبر الدراسات التاريخية العلمية المحكمة.

ـ إذن فما الغاية من الجزية، وممن تؤخذ، ومن أعفي منها في الإسلام؟

لقد بينتُ في إجابتي السابقة كاتبتنا الكبيرة أن الجزية ليست غاية أبدا من غايات نشر الإسلام في الأمم، ورحم الله من قال عن المسلمين: (نحن دعاة ولسنا قضاة، هداة ولسنا جباة، ولاة ولسنا قساة، مهمتنا البلاغ، مهمتنا فذكر فإنما أنت مذكر، مهمتنا أن نهدي بمعنى: أن ندل الناس على طريق الخير دلالة بالبيان، ودلالة بالعمل والسلوك والحال)، وإذا كانت الجزية هي موردًا من موارد بيت مال المسلمين باعتبارها مالا مقدرا يؤخذ من الذمي، ويلتزم به إذا ما دخل في ذمة المسلمين بأدائها إلى الدولة الإسلامية في حال اختياره البقاء على دينه أو معتقده، غير أن الجزية تسقط بعد وجوبها إذا أسلم الذمي، أو عجزت الدولة المسلمة عن حمايته، كما تسقط بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء، وعن الفقير، وعن المريض بمرض مزمن، ولقد ردّ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الجزية إلى الذميين في بعض مدن الشام عند عجز الجيش الإسلامي عن حمايتهم، كما وجب التنبيه إلى أن الجزية لا تجب إلا مرة واحدة في العام دون تكرار.

لقد ظل مقدار الجزية ثابتا طوال التاريخ الإسلامي؛ فلم تتجاوز الأربع دنانير سنويا، بل يمكن أن تقل إلى الدينار، وذلك بحسب حال من يدفع الجزية، وقد أوصى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من بعده بأهل الذمة: (وألا يكلفوا فوق طاقتهم)، ويشهد المؤرخ بنيامين في القرن الرابع الهجري: (أن اليهود في كل بلاد الإسلام يدفعون ديناراً واحداً).

ـ دكتور السيد إبراهيم، اليوم في أمريكا على سبيل المثال: يوجد هناك مايسمى بالضرائب! والضريبة هي مبلغ مالي يقتص من أموال الامريكيين و تودع مع أموال الدولة, والهدف من هذه الضرائب هو دعم اقتصاد الدولة التي ستوفر الأمن والرخاء للمواطن الامريكي، وسؤالي : ما هو الفرق بين الجزية والضريبة والزكاة؟

لقد تم التعريف بالجزية بأنها ضريبة سنوية تؤخذعلى الرؤوس لا على الأرض، ومقدارها المالي ـ كما بينت سابقا ـ زهيدًا يدفعه الرجال البالغين القادرين، بحسَب ثرواتهم، أما الفقراء، فيعفون منها إعفاء تامًّا، على أن ليس للجزية حد معين عند تحصيلها، لكونها ترجع إلى تقدير الإمام، الذي يجب عليه مراعاة طاقة من يؤديها ولا يرهقه، في الوقت الذي يجب عليه فيه مراعاة مصلحة الأمة، وفي مقابل أخذ الجزية كان الإسلام يقوم بكفالة المساكين والمقعدين والعاطلين عن العمل من أهل الذمة، من أجل خلق حالة من التوازن الاقتصادي والاجتماعي، تتماشى مع إحداث قدر من العدالة بين المسلم الذي يدفع الضريبة التي عليه وبين الذمي الذين يدفع جزية ضئيلة ليتنعم بخدمات الدولة الإسلامية التي يعيش فيها دون دفع أية ضريبة من قِبله!

الزكاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وثابتة بالكتاب والسنة والإجماع كما هو معلوم، وتجب على كل مسلم ومسلمة مَلَكَ نصابًا وحال عليه الحول فيما يشترط فيه ذلك. وتحديد النصاب من قبل الشريعة الإسلامية بحسب كل صنف من أصناف الأموال المزكَّاة، وقد اتفق الصحابة على قتال من يمتنع عن أدائها، كما أن من أنكر وجوبها فقد كفر، ولكن لا يكفر من منعها وهو معتقدًا وجوبها، غير أن الزكاة ليست حقًا موكولاً للأفراد يؤديه منهم من يشاء ويدعه من أراد، بل هي حق عام يتولاه الإمام وولاته فيقومون بجبايته ممن تجب عليه، ويصرفونه إلى من تجب له، ومن هنا تبدو الحكمة الجلية في دفعها للإمام الذي بجمعها ثم يتولى توزيعها دون قيام المالك بتوزيعها بنفسه، لأن هناك ممن ماتت قلوبهم وأكلوا حق الزكاة وهي حق للفقير، كما أن دفعها من قبل الحكومة وليس من قبل المزكي مباشرة حفظا لكرامته، ودفعها من قبل الحكومة سيكون أكثر عدالة وتنظيما.

ـ من الأهمية بمكان توضيح الفرق بين الزكاة والضريبة يا دكتور؟

نعم، ولهذا أرجأتها للنهاية، مع ضرورة معرفة مفهوم الضريبة في الفكر المالي الحديث باعتبارها فريضة إلزامية نقدية يلتزم الممول بأدائها إلى الدولة، تبعًا لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتُها في تغطية النفقات العامة من ناحية، وتحقيق بعض الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من ناحيةٍ أخرى، بينما الزَّكاة حق لله تعالى، فرضه في أموال المسلمين شكرًا منهم لنعمته تعالى وتقربًا إليه، وتزكيةً للنفس والمال..

وبناء على ما تقدم تُحصِّل الدولة الضريبة من كافة المواطنين المقيمين على أرضها على اختلاف معتقداتهم، بينما الزَّكاة فريضة خاصة بالمسلمين فقط، ولذا فهي عبادة مالية مقترنة بإيمان صاحبها، مدى احتسابه لله تعالى، بينما الضريبة ليست إلا فريضة مالية، تفرضها الدولة، لا علاقة لها من بعيد أو قريب بمدى إيمان صاحبها من عدمه، ولذا فهي تجب في جميع الأموال، دون التفريق بين مال أتى من طيب أو كان مصدره خبيث، أو كان من الأموال النامية أو غير النامية، وتتفرد الزَّكاة بوجوبها فقط في الأموال الطيبة النامية، وإذا كانت الزَّكاة ثابتة المقدار، لأنها تفرض بنسبة ثابتة، لا تتغير بتغير الحاجات، إلا أن الضَّريبة متغيرة المقدار، لكونها تتغير بتغير النفقات العامة للدولة التي تُصرف فيها، ومنها المرافق العامة من صحة، وتعليم، ودفاع، وأمن، وطرق، وغير ذلك، بينما لا تصرف الزَّكاة إلا في المصارف الثمانية المنصوص عليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].

غير أنه يجب التنبيه إلى أن الضرائب لا تُغني عن أداء الزَّكاة، كما لا تُغني الزَّكاة عن أداء الضرائب، حيث أن الإسلام يبيح للدول أن تفرض ضرائب على مواطنيها للصرف منها على المرافق مقابل الخدمات التي يحصل عليها الأفراد، غير أن الزَّكاة تؤخذ من الأغنياء الذين يستوفون شروط وجوبها ويملكون نصابها، وتصرف في مصارفها الثمانية، بينما الضرائب تفرضها الحكومات، ويتم تحصيلها من الفقراء، وأوساط الناس، وينتفع بها الأغنياء، على خلاف الزَّكاة التي يتم تحصيلها من أموال الأغنياء، وتُعطَى للفقراء، فإن ذلك بمثابة توزيع عادل للثروات داخل المجتمع، بما يقارب من تقليل الفجوات بين الطبقات، ويمنع تكدس الأموال في يد جماعات قليلة، تُترك لهم الفرصة في التحكم في اقتصاد البلاد وآليات السوق وتوجيهها لصالحهم مباشرة.

ـ وأيهما أفضل من وجهة نظرك يا دكتور؟

ما من شك كاتبتنا الكبيرة روعة هانم أن الزَّكاة باعتبارها فريضة ربانية، وصناعة إلهية لم يحدد مصارفها بشر تظل هي الأفضل والأكثر فاعلية من الضرائب في تحقيق مجموع الأهداف الاجتماعية لكافة الطبقات المجتمعية، لأنها واسعة المقدار، وتتميز بسهولة التحصيل؛ فالناس ـ في أغلبهم ـ يلجأون للتحايل من أجل التهرب من دفع الضرائب، حتى أوجدت الحكومات إدارات لمكافحة التهرب الضريبي، على خلاف الزكاة التي يدفعها المسلمون طواعية من أجل تحقيق البركة وتعميمها وسريان النماء وشيوع الطهارة، كما تتميزالزَّكاة بتحديدها الواضح، فالمسلم يعلم ميعاد دفعها مثلما يعلم طريقة الدفع والقيمة المطلوبة والمفروضة عليه لأدائها، وأنه سيثاب على فعلها مثلما سيأثم على تركها تماما بتمام.

ـ يتساءل البعض هل يعقل أن يتم أخذ مبالغ من المسلمين أكبر من الغير المسلمين من خلال دفع المسلمين لزكاة وبينما الجزية لا تتعدى أربعة دنانير في العهد الأموي دينار واحد سنويا في عهد النبي صل الله عليه وسلم؟

هذا دليل على إنصاف الإسلام لأهل الكتاب من الذين رضوا بالبقاء على دينهم، بأن ما يدفعونه أقل بكثير مما يدفعه المسلم الذي كان يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وهو ما يعني أن المبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية، ولكنها بالضرورة أمر رباني ارتضاه العباد من رب العباد دون اعتراض، وهم الأغلبية ويعلمون أن العوائد ستعود بالضرورة على حال إخوانهم من الفقراء، ومظاهر الطاعة لله فيها بادية، وإن غابت الحكمة الإلهية عن عقل المسلم لقصوره، كان عليه التنفيذ بمجرد صدور الأمر وليس عليه الإرجاء لحين الفهم، ومهما بلغت الجزية فليست الغاية منها الجباية، وإنما طريق للهداية، كلما أعمل الذمي عقله في اختيار الطريق الأقوم له ولدنياه وآخرته، غير أن أحدًا من المسلمين لا يستطيع أن يقول بانتفاء العدالة بل يحمد ربه على نعمة عبادته له بالتوحيد.

ـ في نظام أي دولة من هو المقيم والمواطن وهل يعتبر أهل الذمة مواطنين؟

يجب العلم أن تعريف الإقامة مختلف ما بين دولة وأخرى وبين قانون وآخر، وهناك من يظن أن المواطنة والإقامة الدائمة شئ واحد، وهذا غير صحيح بالمرة، فعلى الرغم من أن لكل من المواطنين والمقيمين الدائمين الحق القانوني في العيش في بلد بشكل دائم، إلا أن المقيم الدائم لا يتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها المواطن. ذلك أن المقيم الدائم هو فرد تم منحه الحق القانوني في العيش في بلد ما بشكل دائم، لكنه ليس مواطنا في ذلك البلد، وبالتالي ليس له نفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن؛ إذ لا يمكنه التصويت أوالترشح للمناصب العامة، كما لا يمكنه امتلاك أنواع معينة من الخصائص، غير أنه يمكنه التقدم بطلب للحصول على الجنسية بعد الانتهاء من فترة الإقامة المحددة، كما أن من حق الدولة التي يقيم فيها إلغاء الإقامة الدائمة له إذا ارتكب جريمة خطيرة.

ولقد أصدرت دار الإفتاء المصرية رأيها في أهل الذمة والمواطنة بأن الدولة في شكلها الحديث تقوم على مبادئ المواطنة وسيادة القانون والعقد الاجتماعي، فلم تعد تفرق بين مسلم وغير مسلم، والجميع سواسية أمام القانون، وكذلك متساوون في الحقوق والواجبات، لذلك لا فرق بين مسلم وغير مسلم في تحمل الأعباء أو نيل الحقوق، ومن ثم فلا يجوز فرض “جزية” على غير المسلمين بحجة حمايتهم أو احتفاظهم بدينهم، فمبادئ الدولة الحديثة لا تفرق بين مواطنيها في الخدمة العسكرية أو في القضاء وغيرها من الأمو، كما أنها لا تُكرهِ الناس على اعتناق دين بعينه، وقد أكد سماحة الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر أنه لا محل ولا مجال أن يطلق على المسيحيين أنهم أهل ذمة بل هم مواطنون، ولا مجال لأن يكون هناك كلام فيما يسمى بالجزية أو فيما يسمى بهذه المصطلحات التي كان لها سياق تاريخي معين انتهى الآن، وتبدَل نظام الدولة وتبدلت فلسفات الحكم، منوهًا بأن الإسلام الآن يتبنى مفهوم المواطنة الذي تبناه النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان رئيسًا لأول دولة إسلامية ظهرت في التاريخ.

ـ بعض من ادعوا أنهم ينفذون شريعة الإسلام من خلال اجبار أهل الذمة على دفع الجزية أو قتلهم في حال عدم إسلامهم وخاصة في النزاعات ومنهم من اطلقوا على أنفسهم طالبان أو داعش أو الإخوان وقد حذر رسول الله صل الله عليه وسلم من ظلم أهل الذمة حيث يقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: «من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»، ويقول: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وأن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا» فهل من ديننا ما ينسبه هؤلاء للإسلام؟

يجب التفرقة بين الشريعة الإسلامية السمحاء وبين ما يدَعيه أولئك الذين يتمسحون فيها، أو يدعون الحديث باسمها، فلا جزاهم الله خيرا، ومثلما نفرق بين الجماعات المسيحية اليمينية والمتطرفة في كثير من أنحاء أوروبا وضد كل ما ترتكبه في حق المسلمين القائمين على أراضيهم بل وممن هم من جنسياتهم وبين المسيحية دين المحبة، يجب التفرقة بين ما تقوم به داعش وبين تعاليم الإسلام، ولقد قالت دار الافتاء المصرية إن فرض تنظيم داعش “الجزية” على المسيحيين يعتبر نهبا وسرقة لأموال الناس بالباطل، مشيرة إلى أن الدولة الحديثة تساوي بين المواطنين، بينما دعا الأزهر إلى الحوار بين الأديان لوقف الحروب وحل أزمة اللاجئين، معتبراً أن العالم صار أكثر حاجة من أي وقت مضى إلى الحوار بين الشعوب والأمم.

لقد كنت في محاضراتي مع الشباب المصري والعربي المتزوج من أجنبيات ومنهن من أسلمن ومنهن من بقيت على دينها أن يحسنوا إليهن، وأنهم مسئولون عنهن أمام الله، وكنت أحذر من يفكر أن يستولي على مال إحداهن للزواج من مصرية أوعربية من بلده، وأخبرتهم أن دعوتها ستكون مستجابة عند الله فيه وإن كان مسلما لأنه سيكون ظالما لها والله لا يفرق بين عباده، وأقسم على نفسه لينتصرن للمظلوم ولو كان كافرا، هذا هو الإسلام الحق والعدل.. الدين الرباني المصدر.. الإنساني التطبيق.. الذي يقوم على العدالة والمساواة والحق.

ـ لا أملك في النهاية سوى أن أتقدم بالشكر العميق للدكتور السيد إبراهيم أحمد، لتناوله في سلاسة ووضوح قضية وإن كانت تاريخية إلا أن هناك من يحاول ربطها بالإسلام للنيل منه، إلا أن حوارنا هذا قد كشف المستور وأثلج الصدور .. وعلى أمل اللقاء بكم في حوار جديد أترككم في أمان الله وأمنه حتى نلتقي.

الخميس، 26 أغسطس 2021

مؤسس "أبوللو" وناشره "الجداوي" في السويس..

 




     هذه صفحة جديدة تضاف ليس لتاريخ مدينة "السويس" فحسب وإنما لتاريخ جماعة أبوللو ومؤسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وأيضا لتاريخ الأدب العربي في نهضته البازغة مع رواد فكر المدارس الأدبية المؤثرة في مسار الشعر العربي كمقدمة ثم بقية الأجناس، كما أنها تلقي أضواءً كاشفة على رجل له من المواهب المتعددة، والأنشطة المختلفة التي ساهمت في تاريخ "أبو شادي" في حقبة العشرينيات من القرن العشرين، وهو المهندس التجاري، والصحفي، والناقد، والأديب، والناشر، والبرلماني، والمحامي الأستاذ حسن صالح الجداوي وهو من أبناء السويس الذي لا يكاد يعرفه غير قلة منهم، وإذا عرفوه ففي جانب من جوانبه الثرية.


والأستاذ الجداوي حاصل على ليسانسيه في القانون "باريز"، ودبلوميه تجارة عليا "ليون"، وسكرتير عميد كلية الحقوق بالجامعة المصرية، وقد ذكر عنه الفيكونتت "فيليب دي طرازي" في الجزء الرابع من كتابه "تاريخ الصحافة العربية" أنه أصدر جريدته الأسبوعية "السويس الناهضة" في الرابع من تموز عام 1924م، وكان يصدر معها جريدة "الثغر الشرقي" للشاعر محمد فضل إسماعيل من نفس العام، وقد جاء في العدد السابع عشر منها أن رسالتها تتمحور حول "الدفاع عن مصالح السويس، ومنطقة القنال، وسواحل البحر الأحمر"، ولذا كان الاشتراك بها داخل القطر المصري (30) صاغا في السنة و(50) صاغا خارجه، وأن عدد صفحاتها أربع صفحات وسعر العدد خمسة مليمات، على أن الاشتراكات والإعلانات تتم عن طريق الأستاذ الجداوي نفسه صاحب الجريدة ومحررها المسئول والكائن موقعه وموقع الجريدة في شارع الورشة رقم (3) بالسويس آنذاك.


لم يكن الأديب حسن صالح الجداوي مجرد مُصدِر لجريدة بل كان كاتبا مُجيدًا، وناقدًا واعيا، ولذا فقد صدرت له بعض الكتب الهامة، ومنها كتاب:"كيف تصير خطيبًا من غير معلم؟"، عن المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1925م، وقد جاء في التقديم عنه: (اسم رسالة لطيفة كتبها الأستاذ حسن صالح الجداوي، أحد مشهوري رجال القانون في مدينة "السويس"، وموضوع الرسالة أعني الخطابة والتمرن عليها مما يتطلع إلى الإجادة فيها كل طالب وأديب، كذلك سيكون الإقبال على هذه الرسالة عظيما)، كما قيل أنه أول كتاب من نوعه ظهر في اللغة العربية على نسق علمي سهل المأخذ، حسن التبويب والتقسيم.


كما أصدرالجداوي عن ذات المطبعة كتابه: "الادب الجديد وكلمات في الشعر" عام 1926م، والذي جاء بناء على اقتراح من صديق له ليجمع فيه مقدمة الجداوي لديوان "الشفق الباكي" لأبي شادي، ومقال له عن "هدم الأدب وبناؤه"، ثم مقالة لأبي شادي عن "الشعر والشاعر"، وذلك لتعم فائدة الإطلاع عليها، وتكون مثارًا للنقد الأدبي الشريف، وللدراسة الأدبية المجدية.


مع منتصف ثلاثينيات القرن العشرين ونهايتها سيحدث التحول في مؤلفات الأستاذ الجداوي، وهي الفترة التي واكبها عددًا من المتغيرات استلزمت مني بذل المزيد من الجهد نحو التمحيص والتوثيق؛ فقد بدا في الأفق اسم "حسن الجداوي" ثنائيا بعد أن أسقط منه صاحبه "صالح" عمدًا ليساير المهنة التي أفرغ لها طاقته وهي ممارسة المحاماة بعد انتهى من دور "الناشر" لأعمال مؤسس أبوللو، ثم تحوله للنقد السياسي بديلا عن النقد الأدبي، وقد تعددت أدوار الأستاذ الجداوي؛ فهو: المترجم، والأديب، والبرلماني، والمحامي، كما سيتحول عن المطبعة السلفية إلى "مطبعة حجازي" بالقاهرة وغيرها، وهو ما يتطلب الاستيثاق عن نسبة كتب هذه المرحلة إليه.


من كتب هذه المرحلة والموثقة بدار الكتب والوثائق العراقية: "الإجرام السياسي" برقم تسجيل: 602164، ورقم التصنيف: 345.0231، ورقم المؤلِف: ج429، مكان النشر والناشر: مطبعة حجازي، وتاريخ النشر: 1937، وعدد الصفحات: (325) صفحة، وقد أعيد طبعه وإصداره عن دار نهوض للدراسات والنشر ـ سلسلة الدراسات القانونية، الكويت، في طبعته الثانية عام ٢٠١٨م، وهو من تأليف القاضي الفرنسي "لويس بروال" وترجمة حسن الجداوي، ودراسة تحليلية للدكتور علي فهد الزميع.


ومن الكتب القانونية المعتبرة للأستاذ الجداوي والتي تعد من المراجع القانونية الهامة، كتاب: "قضايا تاريخية مرافعات"، وهو موثق بدار الكتب والوثائق العراقية، برقم تسجيل: 221386، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة عطايا بباب الخلق بالقاهرة، عام 1939م، وصدرت الطبعة الثانية عام 1947م بالقاهرة أيضا عن مكتبة حسين الراعي. ويثبت مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأن لنفس المحتوى عنوان آخر، هو: "أحكام القضاء وأحكام القدر: مرافعات"، وهو موثق بدار الكتب والوثائق العراقية، برقم تسجيل: 221386، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة حجازي بالقاهرة، عام 1936م، وهو ما أثبتته دار المقتبس في موسوعتها تحت عنوان: "أحكام القضاء وأحكام القدر قضايا تاريخية ومرافعات" ويضم العنوانين معا.


ومن أشهر كتب الجداوي كتاب: "من أخطاء القضاء" الذي نشره مكتب فؤاد دانيال للطباعة بالقاهرة، بدون تاريخ نشر، وأعيد نشره عن طريق دار المعارف بالقاهرة عام 1972م، ومسجل بدار الوثائق العراقية برقم: 315353، وتم نشر المقال الأول منه بالمجلة الجديدة التي يصدرها سلامة موسى بالعدد السادس من السنة الثامنة في يونية 1939م، ثم تم نشر كل موضوعاته تباعًا في أعداد مجلة العربي الكويتية لعدة سنوات بدأت من أواسط الستينيات ونهاياتها من القرن العشرين وأوائل السبعينيات، بالإضافة إلى نشر الجداوي لمقالات بنفس المجلة حملت عنوان: "من غرائب القضايا"، وكان يرأس المجلة ـ آنذاك ـ العلاَّمة الفذ ابن السويس دكتور أحمد زكي.


كما أن للأستاذ الجداوي كتاب من أهم كتب المرافعات، عنوانه: "المرافعة: بحث في أساليبها وحقوق المترافعين وواجباتهم" صدر عن دار الكتب المصرية سنة 1933م، وقد حاز تقريظ كبار رجال القانون في مصر ومنهم: كامل مرسي، وإبراهيم الهلباوي، ومحمد علي علوبة.


يُعَد كتاب: "خطرات من عيوب الحكم في مصر" للجداوي من أهم كتب النقد السياسي والتي أحدثت العديد من ردود الأفعال المتباينة في أوساط الأدباء والسياسيين عند صدوره، ومسجل بدار الوثائق العراقية برقم: 432010، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة حجازي بالقاهرة، عام 1936م، وكتب مقدمته حافظ عفيفي باشا آخر رئيس للديوان الملكي في تاريخ مصر، واستشهد به الإمام حسن البنا في مجموعة رسائله، حيث قال: (وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه، أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء ودستوريون في صراحة ووضوح، ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا في كتابه "مبادئ وطنية"، أو الأستاذ حسن الجداوي في كتابه " عيوب الحكم في مصر" أو غيرهما من الكتَّاب، رأى صدق ما نقول). كما تناوله بالنقد والتحليل الباحث خليل حمد في رسالته للماجستير، وعنوانها: "المقال الأدبي عند العقّاد جمعاً ودراسةً"، كما تولى الرد الأديب عباس محمود العقاد على ما جاء في كتاب الجداوي بمقالة له بعنوان: "عيوب النقد في مصر".


لقد ذكرت الباحثة الألمانيِّة المتخصصة في الدراسات الشرقية المعاصرة "أنتيا زيغلر" الأستاذ الجداوي في كتابها "كتابات منسية" حين جمعت وحققت فيه مائة وسبعين عملا منسيا للأديبة "مي زيادة" من مختلف الدوريات والكتب، وكان من ضمنها المقال أو المحاضرة التي ألقتها مي عن السويس، وكان ممن لقيتهم مي وذكرتهم "الجداوي" الذي كان من ضمن برنامج الزيارة وأحد الخطباء أثناء الاحتفال المقام على الباخرة "أكسبريس" الذي دعا له الاقتصادي المصري طلعت باشا حرب عام 1928م، وكان موضوع خطبة الجداوي: "مدينة السويس والسمك".


بعد أن أنهي أحمد زكي أبو شادي تعليمه الأولي في القاهرة، التحق بمدرسة الطب، التي ما يلبث فيها سوى عام فقط ثم تعرض لأزمة عاطفية حادة، ففكر أبوه في ابتعاثه إلى "انجلترا" لإكمال تعليمه الطبي في إبريل سنة 1912؛ فحصل على إجازته من جامعة "لندن" عام 1915، ثم تخصص في "البكتريولوجيا" بمرتبة الشرف عام 1917م، ثم اهتم بدراسة عالم النحل، حتى صار عالماً متخصصاً فيه، وقد امتدت إقامته في "انجلترا" عشر سنوات، تزوج خلالها بفتاة انجليزية مثقفة، وعاد الدكتور أبو شادي للوطن عام 1922 فبدأ حياته العملية بالعمل في معامل وزارة الصحة، فمديراً للمعمل البكتريولوجي في مدينة "السويس".


يقول المؤرخ الشيخ كامل محمد محمد عويضة مُلخِصا أصول أبو شادي ومنبته الكريم وقدومه للسويس وتعارفه على الجداوي في كتابه: "الأعلام من الأدباء والشعراء: أحمد زكي الشاعر النموذجي" الصادر عن دار الكتب العلمية ببيروت: (كان العلاَّمة المرحوم الدكتور يعقوب صروف يضرب المثل بالدكتور أبو شادي على توارث العبقرية الأدبية غير منقوصة عن ناحيتي الأب والأم، ولا غرو فالدكتور أبو شادي سليل أسرتين أدبيتين تجلَّت فيهما الشاعرية أقوى التجلِّي.. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الأديب الألمعي الأستاذ حسن الجداوي إشارة واضحة في تعليقاته القيمة على قصيدة "نكبة نافارين" وهي أول ما أخرجه الجداوي من آثار أبو شادي، وكان ذلك في سنة 1924 في مدينة السويس حيث توثقت بيننا نحن الثلاثة صداقة أخوية وأدبية متينة لم تشبها أدنى شائبة في مدى عشر سنوات كاملة).


وحسنًا فعل عويضة حين أكد أن بداية النشر بين الجداوي وأبو شادي كان قصيدة "نكبة نافارين" وهي قصيدة تاريخية قومية جامعة صادرة عن المطبعة السلفية، ذلك أن مقدمة الناشر حسن الجداوي للطبعة الأولى من ديوان: "زينب: نَفَحاتٌ مِن شِعْرِ الغِنَاء " من نفس العام 1924 توحي بأن هذا الديوان كان نقطة البداية، وفيها يقول: (تأملتُ نشأة أو مقر رجال النهضة الشعرية بمصر في القرن الحاضر، فرأيت لبعض المدن حظًّا كثيرًا وأكثرها عديم الحظ، وأظهر الأمثال حظ القاهرة بشوقي ومطران وحافظ والعقاد، وطنطا بالرافعي. فيحق لنا ـ معشر السويسيين ـ أن نهنئ أنفسنا والأدب بإقامة مثل الدكتور أبي شادي بيننا، عرفته منذ سنوات بآثاره: آثار طفولته الأدبية التي لم تخل مع ذلك من نفسية عالية، ثم ببدائعه في كبريات الصحف والمجلات، وبما تفضل به أخيرًا على جريدتي "السويس الناهضة"، فشاقتني قصائده الطلية على تنوع موضوعاتها، وإنما أسفتُ لأنه قليل العناية بآثاره الأدبية، ولا سيما شعره الغنائي الذي لا أشك في أنه نظمه وينظمه سلوى فؤاده وحده، فتبعثرت هذه النفحات الزكية تبعثر الرياحين، وتعرضت للنهب والضياع. فدفعني هذا الشعور والأسف إلى استئذانه في جمع وطبع شيء من هذه النخب الجميلة لشعر صباه، راجيًا أن أُوفق في الطبعة الثانية إلى الاستزادة منه خدمةً للأدب، فحرامٌ أن تضيع أمثال هذه اللآلئ السنية المتساقطة من فم قائلها الشجيِّ المترنِّم).


ثم يبين الجداوي أهمية ودور الناشر المعاصر في نشر الدرر من الأدب، فيقول:


(ولقد أصبحت مهمة الناشر العصري البحث عن كنوز الأدب المستورة، واقتناص الفرائد المنثورة، لا القنوع بالنقد والطبع وحدهما، فكم من أديب لا يحفل بالتقدم إلى الناشرين ببدائع إلهامه، قانعًا بما فيها من السلوى له وحده، فلا يلبث الزمن أن يودي بها، ويخسر الأدب والإنسانية جمالها. وإني لسعيدٌ بتوفقي إلى إذاعة هذه النغمات والمعاني الشائقة التي اخترت عنوانها الأول أحبَّ اسم للشاعر تردَّد فيها. وأملي أن تساعدني الظروف على اتباع هذه الحسنة بحسنات أخرى في أبواب جديدة لشاعر السويس الناهضة، فالعصر عصر عمل وزكاة لكل ذي علم وأدب، ومن أغفل هذا الواجب على قُدرةٍ منه أغفله الجمهور، وتبرأ من جموده العلم والأدب، فإلى أديبنا العالم الفنَّان أقدِّم شكر الأدب ورجاءه معًا).


ولقد صدر كتاب "نظرات نقدية في شعر أبى شادي" مع تعقيب بقلم الناشر حسن صالح الجداوي، عام 1925م، وفي نفس العام صدر كتاب: "أنين ورنين: صور من شعر الشباب رسمها أحمد زكى ابو شادي"، وكتاب "مصريات : نخب من شعر الوطنية", اعتني بجمعها ونشرها وتنسيقها الجداوي.‏


وفي عام 1926م صدر كتاب: "عبده بك : قصة مصرية إجتماعية من نظم أحمد زكي أبي شادي، ووقف على نشرها حسن صالح الجداوي، ثم جاء صدور ديوان "الشفق الباكي" من نفس العام وهو كبير في الحجم من حيث عدد صفحاته التي بلغت (1336) صفحة. وقد بدأ الديوان بمقدمة لناشره الأستاذ حسن صالح الجداوي التي أوضح فيها أنه قد حدث بينه وبين أبو شادي افتراق: (ما كنتُ أحسبُ أنَّ الظروف ستسمح لي مُسعِدَةً بنشر هذا الأثر الأدبي النفيس، ولكن وفاء صديقي الشاعر أبى إلا أن يتركَ نشره لي وإن تفرقنا، مُعرِضًا عن كل اقتراح يحرمني لذة الاشتراك في إذاعة هذا الشعر الكريم، وسواء أسمحت ظروف المستقبل أم لم تسمح بمتابعة هذه الخدمة الخالصة لوجه الأدب فأحسبُ أن ما سلف لي من دراسة وتحليل لشعر أبي شادي ـ في مصنفات ودواوين سابقة ـ فيه الغُنْيَةُ الوافية للأديب الذي يريد أن ينهج نهجي في دراسة الشعر).


وتوضح الفقرة أن الاقتراح بترك رسالة النشر لم يكن إلا انشغالا من الجداوي وليس من صنع الشاعر ولا من مراده، وقد بينت هذه المقدمة الضافية أصالة وعمق ثقافة الجداوي وسعة اطلاعه على الشعر العربي والغربي معا، كما بين أن هناك من الأدباء من أخذ عليه أنه كان مشجعًا لأبي شادي في نزعاته التجديدية الجريئة كالشعر المرسل، وتنويع البحور غير أنه اكتفى في رده بإحالتهم إلى كتاب الخصائص لابن جني وإلى أمهات كتب العروض والبيان، غير أنه لا ينفي عن نفسه ما قالوه، فيقول: (وأني لا أجهل أثر صحبتي ومعاشرتي في نفسية ونزعات صديقي الأستاذ أبي شادي، وأني في طليعة من حثوه على الاستمرارية في ميوله الحرة ... هذه هي تماما نفسية أبي شادي التي شجعتها من صميم نفسي، ولي الحظ والشرف باشتراكي في ذنبه إن كان لهذه النزعة الهادمة البانية جريرة وذنب!).


يقول الشاعر أبو شادي في ديوانه "وطن الفراعنة: مُثل من الشعر القومي" في الفصل الختامي منه وعنوانه: "أدبُ العصر بقلم الناظم" تأكيدا على التشارك في الآراء بينه وبين الجداوي:


(أمَا وقدِ اطَّلَع القارئ على شِعْر هذا الكتابِ، فمِن الأمانة أنْ أتحدَّث إليه بكلمةٍ نقْديةٍ في موضوعِه، وببحثٍ عامٍّ وجيزٍ في أدب العصر، وإنْ كان شيءٌ من هذا البحث قد ظهرَ في مجالٍ آخَر إمَّا بقلمي أو بقلم صديقي الأستاذ حسن صالح الجداوي معبِّرًا غالِبًا عن آرائنا المشتركة).


يقرر الجداوي في حزم حيدته النقدية الأمينة في تناوله لإبداع الشاعر "أبو شادي"، فيقول: (أنَّ عنايتي الأدبية بنشر هذا الديوان ـ الشفق الباكي ـ ليس معناها موافقتي على جميع آراء الشاعر فيما طرقه من موضوعات، فقد أخالفه في بعضها مخالفة صريحة، ولكن معناها تقريري لشاعريته فحسب).


ولكم وقف الجداوي بقلمه منافحا ومدافعا بإخلاص شديد، وبعلم، وفهم، ولغة راقية، وآراء مسددة في وجه الحملات الشنيعة التي كانت توجه للدكتور أبو شادي وضد الجداوي نفسه أو هما معًا أحيانا، فما تخلى عنه في واحدة منها، بل دبَّج المقالات ومنها الفصل النقدي الذي كتبه في ختام قصة "عبده بك" لأبي شادي ، بعنوان: "الشعر مرآة عصره"، ومقال "هدم الأدب وبناؤه" في كتابه "الأدب الجديد.


على أنه يجب الاتفاق مع من قالوا بأن ديوان "الشفق الباكي" كان بمثابة الموسوعة الشعرية التي تجمع بين دفتيها كافة المستويات الشعرية التي كان أبو شادي يمثلها، وتعكس صورا كثيرة من حياته، وآرائه ونظراته في الحياة، والأحياء، والشعر، والوطنية، والحب، والسلام، والإنسانية، والعروبة، والكفاح، وكثير من الأفكار والقيم ، غير أنه يجب الإشارة إلى أنه ـ أي الديوان ـ كان يحمل الجينات الأولى من بنات أفكار "أبو شادي" في تأسيس مدرسة أبوللو فيما بعد.


يقول الدكتور مسعد بن عيد العطوي، في مقاله المعنون : "أهداف مدرسة أبولو" بشبكة الألوكة: (وقد ظهر أول ديوان، لأحمد زكي "1927م"، بعنوان: الشفق الباكي، وهو يمثل هذه المدرسة .... ولا يدخل فيها ديوان "أنداء الفجر" 1911م، لأنه تقليدي محافظ).


على الرغم من صدور ديوان " أشعة وظلال" دون جمع أو نشر من الجداوي إلا أن اسمه كان مذكورًا في كثير من صفحات الديوان بصفته مترجما للعديد من قصائد الشاعر والمسرحي الفرنسي الشهير "إدموند روستان" Edmond Rostand، والتي نقلها نثرا ليصوغها أبو شادي نظما، وهي: "المستقبل"، و"الجمال"، و"الكرامة".


يبين الأستاذ الجداوي سر تعلقه بالشاعر الفرنسي "روستان" وترجمة بعض قصائده من خلال محاضرة ألقاها في دار نقابة موظفي الحكومة بالإسكندرية في ديسمبر 1929م، ونشرتها مجلة العصور بعددها الثامن عشر في فبراير من نفس العام، فيقول:


(عندي أن روستان هو الشاعر كما يجب أن يكون الشاعر، ليس الرجل الذي يحس فيترجم إحساسه أصدق ترجمة لا غير؛ وإنما الرجل الذي يحس ويريد غيره على أن يحس إحساسه. الرجل المؤدب الذي يبث في قومه أصدق العواطف والعزة والشهامة. الرجل الذي يأخذ بيد أبناء وطنه فيرفعهم إلى ذروة المجد، ويشيد بفضل قومه فيزيدهم إحساسا بعظمتهم وتقديرا لأنفسهم، وشعورا بشخصيتهم، ويلهمهم حب الإنسانية ومثلها الأعلى.. وإذا قلتُ لكم أنني لذلك كنت أجد لذةوفخرًا في أن أنشر أشعار صديقي زكي أبي شادي لم آتِ لكم بشئٍ جديد).


كما تضمَّن الديوان قصيدة "عرس الصديق": (إلى الصديق الأستاذ حسن صالح الجداوي في حفلة اقترانه بالآنسة المهذبة زينات إمام فهمي)، والقصيدة ليست تهنئة خالصة، بل هي وصف لعمق الصداقة والأخوة والمحبة بين الشاعر وصديقه، وتبيان لما أحدثته الأيام مع الشاعر، وسأختار بعض الأبيات منها بتصرف:



أي عرس وفى بأكرم أنس جعلته الأحلام أبهج عرس


لك يا صاحبي العزيز ويا خلـ ـلِي الذي يُفدى بنفسي


لك من مهجتي التهاني التي كا نت لنفسي عن شطر روحي الأمسِّ


وعزيز عليَّ أني بعيد عن مجالي السرور نضو التأسي


حرمتني الأيام قربك أعوا مًا فكنت المحروم روضي وشمسي


وعذيري على احتجابي هدى قلـ ـبك في علمه بشوقي وبأسي


وأراك المسامح المتفادي عن ملامي إن لمت دهري ونحسي


كن صديقي كما يشاء لك الحظ يكن لي العزاء هذا التَّحسِّي


فأراك الحري من نعم الدنيا (بزيناتها) لقلب ورأس


عرفتك الأخلاق والأدب الغا لي كمعبودها الكريم المؤسي


وارتضاك البيان فارسه المبـ ـدع مثل ارتضاء حر بحبس


ويوافيك جمعها بتهانيـ ـه، فأجمل بجمع دنيا بعرس


وقد أهدى أبو شادي بعد عامين قصيدة "حارسة الفن" من ديوانه: "أطياف الربيع " إلى السيدة المُهذَّبة زينات إمام فهمي زوجة الصديق العزيز حسن الجداوي، نختار منها:



أَهْلًا بِجَنَّةِ دُنْيَا أَنْتِ «زِينَتُهَا» وَصَاحِبٍ هُوَ فِيهَا الْآنَ جَنَّانُ


مَحَضْتُهُ الْوُدَّ عُمْرًا وَهْوَ يُكْسِبُنِي بِوُدِّهِ مَا اشْتَهَى فَنٌّ وَفَنَّانُ


أَرْخَصْتُ كُلَّ عَزِيزٍ فِي مَحَبَّتِهِ فَمِثْلُهُ بِعَزِيزِ النَّفْسِ يَزْدَانُ


مَا خِفْتُ يَوْمًا عَلَى نَجْوَاهُ مِنْ زَمَنِي فَأَنْتِ دُنْيَا لَهُ بَلْ أَنْتِ أَكْوَانُ


لَمَّا رَأَيْتُكِ فِي الْآمَالِ حَاكِمَةً وَحَوْلَكِ الْحُبُّ أَلْحَانٌ وَأَلْوَانُ


وَأَنْتِ فِي حُسْنِكِ الْعُلْوِيِّ ظَافِرَةٌ بِكُلِّ مَا يَشْتَهِي فِي الْخُلْدِ إِنْسَانُ


زَوْجٌ وَفِيٌّ وَمُلْكٌ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَرْبَأٌ بِجَمَالِ الصَّفْوِ فَتَّانُ


وَطِفْلَةٌ كَرَبِيعِ الْحُبِّ فِي مَرَحٍ وَوَجْهُهَا بِمَعَانِي النُّورِ ضَحْيَانُ


عَرَفْتُ كَيْفَ تَصُونُ الْفَنَّ حَارِسَةٌ وَأَيْنَ يَرْوِي حَنِينَ الرُّوحِ ظَمْآنُ



على الرغم من أن الأستاذ الجداوي لم يكن من أعضاء مجلس إدارة جماعة أبوللو سنة 1932، إلا أنه ظل وسيظل اسمه مذكورا بالدراسات الأكاديمية والأدبية والتاريخية والنقدية التي تتناول أعمال الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي كواحد من نقاد مدرسة أبوللو المعدودين، بل وواحد ممن كانت له الريادة في جمع ونشر ونقد كثير من أعمال أبي شادي النثرية والشعرية، بل ومن الذين أثَّروا في آرائه التي تبلورت على أرض مدينة السويس قبل أن تخرج للنور في إطار ممنهج وتأسيسي لمدرسة من كبريات مدارس التجديد الرائدات في الشعر العربي المعاصر، وقد كانت غاية كاتب هذه الدراسة ومنهجه التأريخي الذي التزمه مع الأعلام والرواد الذين يذكرهم التاريخ في جانب وينحسر عنهم في جوانب هو التنقيب عن آثارهم، وإبراز أدوارهم، وذلك حتى تلتفت الدراسات الأدبية في المستقبل لهم عندما تبحث في إبداع مدرسة أبوللو ومؤسسها.



الثلاثاء، 3 أغسطس 2021

الست أمينة: بين انجيلكا هيلي وسالمة المغربي..




 لقد عكف الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ عددًا من الأعوام التي بلغت الأربعة في كتابة "ثلاثيته" الشهيرة، وعددًا من الأعوام سبقت الكتابة أمضاها في الإعداد والتخطيط حتى كون من الأحداث والشخصيات "أرشيفا"؛ فقد أعد لكل شخصية ملفًا خاصًا بها حتى يحتفظ بملامحها وصفاتها، ومن أبرز تلك الشخصيات "الست أمينة" التي عبرت الحدود الزمانية والمكانية واللغوية حتى استقرت في القلوب والعقول والأذهان، بل صارت مضرب الأمثال في النزاعات الزوجية مثلما صارت موضع البحث والدرس والنقد ليس في الشرق وحده بل في الغرب أيضا لصدور العديد من الترجمات والدراسات عنها خاصة بعد "نوبل".


  لعل من أهم الأسباب التي دعت إلى اختيار الناقدة الألمانية دكتورة "انجيلكا هيلي" هو اهتمامها بنقد أدب نجيب محفوظ من منظور نسوي؛ فمعظم النقاد يقرأون أعمال محفوظ من منظور اجتماعي أو منظور سياسي أو من خلال استعراض رحلته من الرمزية إلى الصوفية أو من المنظور التاريخي، كما تقر الدكتورة سناء صليحة أن هذه القراءة النسوية هي المرة الأولى، على حد علمها، وجيد أن الدكتورة صليحة استثنت من خلال حوارها مع هيلي، لأنه على الرغم من أن دكتورة انجيلكا تقرر بعد قراءتها لثلاثية محفوظ أن "أمينة" هي بطل العمل الحقيقي، وأنها تمثل الخيط الذي يربط الثلاثية منذ بدايتها إلى لحظة النهاية، إلا أن الدكتورة لطيفة الزيات قد سبقتها منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم حين رأت في مقالتها "المرأة في أدب نجيب محفوظ" أن الثلاثية تبدأ بأمينة وتنتهي بأمينة؛ فهي تبدأ وأمينة تنتظر في منتصف الليل عودة الزوج أو السيد أحمد عبد الجواد، وتنتهي وأمينة تحتضر.    


   والسؤال لماذا اهتمت انجيلكا بالست أمينة؟ والإجابة تكمن في كونها تستعرض عبر دراسة لها أوجه التشابه والاختلاف بين الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ، وأيقونة الإبداع الألماني  بل عميد الأدب العالمي المعاصر "جونتر جراس" وهما يحملان جائزة نوبل وإن كان نجيب أسيق لحملها وللموت من "جراس" غير أنهما عشقا المدن القديمة، وآثارا الجدل، وكانت لهما مواقفهما الإنسانية سواء ضد الإرهاب أو الصهيونية عند جراس، كما أن كلا منهما كانت له ثلاثية شهيرة، وكان سؤال "انجليكا" الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن أن يتسق ويتشابه خيال ورؤى كاتبين ينتمي كل منهما لجنسية مختلفة وثقافة أكثر اختلافا؟! هل يمكن أن تتخطى الرؤى الإنسانية والفلسفية الحدود الجغرافية والمسافات الزمنية لتتوافق وتتسق سويا؟!


   لقد قرأت الدكتورة هيلي أعمال محفوظ بعد قراءتها لجراس الذي حصلت في أدبه على درجة الدكتوراه، ولذا فقد لاحظت أن: (أمينة التي قدمها الكاتب كراوية في بداية الثلاثية وتعمد أن يغفل اسمها ـ الأمر الذي أثار حيرتي ـ هي الخيط الذي يربط أبطال الرواية.. هي البطل الحقيقي للعمل، الذي ينتهي بموتها.. دائما توجد في الخلفية ولكن حضورها طاغ مؤثر على الحدث لتمثل قيمة مثالية بعيدة المنال وهي في حضورها الذي لا يمثل وطأة على القارئ، ولها ما يقابلها في أعمال جونتر جراس الذي صور الجدة العجوز التي تمثل المحرك الذي يدفع الرجل).


    تنفرد القاصة والروائية والناقدة المصرية سالمة المغربي بأنها تكاد بل هي بالفعل الكاتبة الوحيدة التي تعاملت بفهم ووعي لأبعاد "الست أمينة" حين جسَّدت شخصيتها في عمل أدبي مسموع ومصور تولت كتابته وإعداد السيناريو والحوار والمؤثرات الصوتية والمونتاج، وقامت بالتمثيل والإخراج، بل قامت بأداء دور سي السيد أيضا، ولعل من المقدمات التي أهلتها لذلك كونها تملك زمام الكتابة بالفصحى بعلمٍ ووعي وإجادة مثلما تتقن التحدث بالعامية المصرية المفهومة للمصريين ولغيرهم من المتحدثين بالعربية لسهولتها وبعدها عن الإغراق في المحلية أحيانا، كما أنها عربية الامتداد من حيث الأصول؛ فقد كانت والدتها سكندرية تنتمي لأم مصرية صعيدية الأصل وأب شامي، أما والدها فأمه تركية ووالده مغربي، وهو ما يعني أن الكاتبة سالمة المغربي قد عاشت في عائلة كونية، ومدينة كونية هي الإسكندرية.


   وهو ما جعلها مؤهلة للتعرف على طبائع النساء وتعاملهن مع أزواجهن من خلال معاملة والدتها لوالدها في نفس أجواء سي السيد والست أمينة ومناداة والدها له بـ "سي محمد"، وإن كانت ترى أن العلاقة بينهما قائمة على الحب وليست في حدة علاقة أمينة "محفوظ" بزوجها سي السيد، وهو ما اعترف به محفوظ في المقارنة بين والدته وشخصية أمينة في  إطار عصرها كما جاء في كتاب جمال الغيطاني: "نجيب محفوظ يتذكر"، فيقول محفوظ: (كانت أمي تتمتع بحرية نسبية، وبعكس ما تبدو عليه "أمينة" في الثلاثية .. أمينة فيها من أمي القليل .. والدتي برغم جيلها كانت منطلقة).


    وهو ما دعا الكاتبة هويدا صالح لكي تقول في مقالها: "نجيب محفوظ بين الرمز الفني والواقعي" أن: (شخصية السيد أحمد عبد الجواد .. ربما لم تكن مصرية خالصة .. ربما لم يكن في المجتمع أحد يشبهها .. لم يكن الرجل المصري بهذا التناقض الصارخ .. وهذه السطوة الذكورية المبالغ فيها .. ولكنها بعد أن كُتبت بهذا الإحكام وهذه المهارة .. وأوجد لها نقيضها في ذات العمل الست أمينة المقهورة المستسلمة ساعتها تحولت الشخصية بنقيضها من رمز فني أدبي إلي رمز واقعي .. فصار كل رجل يريد أن يؤكد علي رجولته وسطوته أحمد عبد الجواد .. وصارت كل امرأة في الحقيقة ترضى بالذل والقهر كالست أمينة).      


   لعل التعرف على ما أصدرته الكاتبة سالمة المغربي يفي بالدلالة على اطلاعها العميق وتفهمها لعالمي الرجل والمرأة بحيث استطاعت أن تصوغ من كُنه تلك العلاقة الجدلية الأبدية صراعا طالعته في الثلاثية، والتاريخ، والأدب، والواقع، فترجمته قصة قصيرة، وشعرا، وخاطرة ورواية، ومسلسلات، وهي: "عطر رجالي" مجموعة قصصية صدرت عام 2014، و"قيثارة ووتر حب" ـ شعر وخاطرة صدر عام 2016، و"فضفضة واحدة ست" مجموعة قصصية صدرت عام 2017، ثم أصدرت راوية "عدل افتراضي" 2020م، يضاف لما سبق ويفي بالدلالة على تمكنها من أدواتها الإبداعية أنها: عضو باتحاد كتَّاب مصر، وعضو باتحاد الكتَّاب والمثقفين العرب بباريس، وعضو بمختبر السرديات ـ مكتبة الإسكندرية، كما أنها عضو بمبادرة "أكوا ACWA" الإسكندرية مدينة إبداعية.


   لا تتعامل الكاتبة سالمة المغربي مع "الست أمينة" وعلاقتها بزوجها من منطلق "النسوية" أو الجندر" أو "النوع الاجتماعي" من حيث زحزحة الهيمنة الذكورية من تركيبة الأسرة النووية، وإعادة تبديل الأدوار بين الرجل والمرأة بحيث تكون المراكز متساوية بينهما تماما، وربما تفوق مركز المرأة تبعا لتفوقها المادي أو بحسب تمكينها الاقتصادي من سوق العمل، وهي بهذا تفارق نظرة "انجيلكا هيلي" النسوية إلى الست أمينة وتأتي متجاوبة مع فهم العلاقة الخفية القائمة بينها وبين زوجها كما ترصدها دكتورة لطيفة الزيات: (تتميز أمينة بقدرة هائلة على التكيف والتجاوز، وبقدرة هائلة على الحب والعطاء، وعلى تقبل الآخرين على ما هم عليه لا على ما ينبغي أن يكونوا، وبولاء لا حدود له لأسرتها ودينها ولمبادئها، ولكل من تحب، ولكل من تحب. وتتمتع أمينة بحاسة عملية تتيح لها المصالحة بين الواقع والمثال، واستيعاب كل المتناقضات، دون أن يترتب على ذلك أي اختلال في شخصيتها).


    ولذا فيحسب للكاتبة سالمة المغربي أنها حين استدعت الشخصيتين التاريختين من عصرهما لعصرها أتت بهما وهما على نفس القدر من التفاوت الجنسي، والتركيب الطبقي بما يمثلانه داخل الأسرة، غاية ما صنعته هو "عصرنة" العلاقة بينهما طبقا للمتغيرات الاجتماعية التي طرأت على الرجل والمرأة في ذات الوقت وصبغتهما بصبغتها، ثم ألقت على رأسيهما المشكلات الاجتماعية المواكبة لحياتهما في نسختها الحديثة، وتبنت النقد المجتمعي والبيئي في رصد كل مشكلة تطرحها بعمق وفهم حيت تنثرها حوارا على لسان شخوص فضفضتها، وحين تفارق النسوية في الانحياز المريب للمرأة بحيث تضعها في موقف المتهم من إثارة المشاكل والافتئات على الرجل، وحين تجعل الصراع النامي بين الست أمينة وزوجها منطقيا مسايرا لأجواء الأحداث، لا يغيب عنه روح الدعابة، أو عنصر التشويق أو الإثارة نحو الحل، وحين تؤطر للعلاقات الاجتماعية السائدة وعدم نقدها ومنها قضية تعدد الزوجات؛ فقد تجاوزت خيال محفوظ نفسه وخلقت أمامنا في بعض فضفضاتها الرضا بالزوجة الأخرى في حياة سي السيد الذي لم يعرف التعدد بل طلاق أم ياسين زوجه الأولى ثم زواجه من أمينة.


   كما أن الفضفضات لا تأتي كلها على وتيرة واحدة بحيث تكون الغلبة فيها دائما للست أمينة، بل أحيانا تجعل المنتصر هو سي السيد، وقد يجد المستمع والمتفرج نفسه في حالة شيكسبيرية من ترويض النمر تارة وترويض النمر تارة أخرى، وهو ما يجعلها ممتعة  وعملا أدبيا خالصا حين زايل المباشرة والتقريرية التي تسود بعض الأعمال الدرامية حين تدَّعي أنها توعوية وهادفة وموجهة للسلوك والأخلاق للأفراد في المجتمع.


   كما لم تقتصر المعالجات الدرامية لموضوع الفضفضة على الأحداث الاجتماعية التقليدية، بل والمتطورة منها والمسايرة لروح التغيير والتعامل مع النت والمحمول واستخدامه استخداما خاطئا، والولادة المجهرية، في حين لم تغفل إلى جانب هذا أن تعري المرأة وعقليتها التي  ظلت في مستوى عقلية العصور السابقة في تعاملها الأنثوي والغرائزي مع الرجل من حيث الغيرة عليه، وإيقاع الظنون به، وتعرية الرجل أيضا الذي لم يزل كما هو في عصوره الغابرة يحن للخروج من كهف الأسرة إلى حيث مواطن النساء الجميلات في الواقع أو النت.


      على الرغم من أن "الست أمينة" صناعة رجالية .. صاغها كاتبنا الكبير بإنسانية واقتدار وواقعية ومثالية وكونية تتخطى الحدود، إلا أنني آثرت أن تكون النظرة في التعامل معها وإبداء الرأي حولها أدبيا ونفسيا ونقديا وإبداعيا من خلال رؤى نسائية شرقا وغربا، وهو ما تلتقي فيه الكاتبة سالمة المغربي مع الدكتورة انجيلكا هيلي والدكتورة لطيفة الزيات في أن "المرأة/الست أمينة" هي البطل الحقيقي ليس في ثلاثية محفوظ أو ثلاثية "جراس" بل في الحياة أيضا، وهي إن لم تبدو أمامية في المشهد إلا أنها على الرغم من تواجدها في خلفيته ولكن حضورها طاغ مؤثر على الأحداث، والوقائع على هذا كثيرة حتى في ثلاثية محفوظ؛ فلم تكن الست أمينة مقهورة طوال الوقت بل أثرت في بعض الأحداث الهامة وغيرت مجراها لصالحها وصالح أولادها على الرغم من طاعتها لسي السيد في ظلمه وعدله غير أن هذا كان من أجل أن تحتفظ بأسرتها وتماسكها، وهو ما نراه تماما من موقف الست أمينة التي صنعتها الكاتبة سالمة المغربي خاصة في فضفضتها بعنوان: "الفَضَلة" أي "ما يتبقى من الأشياء"، أو الفضفضة المعنونة: "الست أمينة طالبة الخُلْع"، وهو ما ينافي الندية في التعامل المفضي لانهيار الأسر وبالتالي انهيار المجتمع مع انهيار قيم الإيثار والتضحية كما فهمته "الست أمينة".




الاثنين، 2 أغسطس 2021

ثورة 1952 وآراء المثقفين عام 1993...

 




  على الرغم من عدم رضا بعض الأكاديميين المصريين الناصريين المناصرين لثورة يوليو عن قلة الأعمال الفنية التي تناولتها وخاصة السينمائية، إلا أنه كان من الجيد أن نشير إلى أن الأغنية عبر جيل الفنانين المعاصرين للثورة من الكبار والشباب كان كافيا للدلالة على كل مرحلة من مراحلها باستصحاب أشهر الأغنيات التي عبرت عنها، وهي إحدى الدلالات الجيدة لحركة يوليو في بواكيرها عند استخدامها هذا السلاح الناعم في تصديرها للجماهير المصرية والعربية في آن منذ عهد نجيب وزادت كما وكيفا في عهد عبد الناصر، كما أن فيه ملمحا من أهم ملامح اتصال الحركة ثم الثورة فيما بعد بالثقافة والمثقفين بين الاستقطاب والعراك.


   كما كان من الجيد رصد هذه العلاقة في استطلاع آراء المثقفين عن الثورة خاصة وقد مضت الأعوام الفاصلة بيننا وبينها حتى صار استدعاء أحداثها تاريخا في ذاكرة قرن مضى، ونحن في قرن جديد بمتغيراته التي أنبتت أجيالا قد تشكلت عقولها ورؤاها طبقا لما نحتته فيها أقلام من ناصروا الثورة أومن أدانوها، ومن بالغوا في تمجيدها وبين من أهالوا عليها تراب النكران، وصبوا عليها جام لعناتهم الغاضبة وحمَّلوها أوزار الحقب التالية لها كنتيجة عنها.


   من هنا كان من الأفضل الاقتراب من آراء المثقفين الذين عاصروا الملكية والثورة والنظام الجمهوري والانتصارات والانكسارات، واستطاعوا أن يقرأوا مقدمات الثورة وأحداثها بعد أن انقشع غبار التحيز أو الرفض، واستوت على "جودي" الواقع المصري والعربي والأفريقي والدولي عبر مسيرة أربعة رؤساء "نجيب ـ مبارك" في زمن التسعينات من القرن الماضي.


  بادرت مجلة الهلال القاهرية في عددها الشهري الصادر في يوليو 1993م، فخصصت قسما منه استكتبت فيه عددا من كبار الكتاب تحت عنوان رئيس: "المثقفون والثورة: أرباح وخسائر 23 يوليو 1952"، جاءت كلمة محرر المجلة في مقدمتها، وقد رأى أن ثورة يوليو قد تميزت بكونها الثورة التي هوجمت وأُدينت من كثيرين بعد انقضاء زمانها، ورحيل فرسانها، وأن هذه الثورة قد سلكت طريق الأحلام الكبيرة في عصرنا، فتصدعت أمام أبصارنا وأسماعنا، ولكن بقيَ فيها روح الحلم الذي لا يمكن أن يموت، بل يمكن أن يُبعث من جديد في صورة جديدة غير مكررة من صور الصعود والنهوض بعد العثار والانكسار.


   تأتي على رأس مقالات المجلة مقالة بعنوان: "المثقفون والثورة" التي كتبها الأستاذ أحمد بهاء الدين وكانت في الأصل مقدمة لأطروحة دكتوراه للباحث مصطفى عبد الغني؛ فقد كان أحد المشرفين عليها، وصدرت في كتاب بعنوان: "المثقفون وعبد الناصر"، وقد أقر بهاء الدين أن ثورة يوليو تفردت عن غيرها بأنها حققت أهدافها حين استطاعت أن تستولي على الحكم في مصر وهو ما فشلت فيه ثورة عرابي وثورة 1919م، ويقول: (التغيير لابد أن يصحبه القهر، أو فلنقل إن عنصر القهر جزء أساسي من أية ثورة في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، لقد حاولت تحقيق إنجازاتها في عالم متخلف يكاد يرفض التغيير، ولو استفتي الشعب المصري في قانون الإصلاح الزراعي لرفض الفلاحون).


  يذكر بهاء الدين كيف كان هو نفسه ضد الثورة في أول أيامها، كما يذكر أنه لم يكن الوحيد الذي اتخذ هذا الموقف حيالها بل طالب بعض كتاَّب مجلة روز اليوسف بعودة "العسكر" أو الـ (12) ضابطا إلى ثكناتهم خاصة وأن إعلان العودة قد جاء على لسان من قاموا بالثورة أو الحركة أنفسهم، بل أعلن فريق من هؤلاء الكتاب أن الثورة فشلت وأن الخطوة القادمة يجب أن تكون من أجل إخمادها، وهو نفس الموقف الذي اتخذه بعض المحامين الذين رفضوا الثورة وجاهروا بالهجوم عليها هجوما عنيفا، وطالبوا بعودة ضباط الحركة لثكناتهم، غير أن هناك كان من يناصر العسكريين أصحاب الثورة لأنهم قاموا بأعمال مجيدة وأن عليهم أن يسايروهم لآخر الشوط اختبارًا لصدقهم.


  لقد كان هذا المحك من الثورة بالغ الخطورة ـ كما يقول بهاء الدين ـ فقد تباينت التيارات وتداخلت في الحكم على العسكر الجدد، خاصة من الأحزاب القديمة وعلى رأسها حزب الوفد، وجماعة الأخوان المسلمين علاوة على عدد كبير من قدامى الساسة.


   ينهي أحمد بهاء الدين شهادته بذكر العلاقة بين المثقفين والثورة: (أن المثقف أعطى الثورة الكثير، وأعطى ـ من أجلها ـ قبل أن تبدأ الكثير، وإن اختلفت الاجتهادات).


   يجمع الكاتب عبد الرحمن شاكر في مقالته: "ثورة 23 يوليو من بعيد" عددا من المقولات الشائعة التي حاولت التهوين من الأدوار الرئيسية الكبيرة التي قامت بها الثورة، ناعيا بُعد الشُقة بين الأجيال التالية للثورة والتي لم تشهدها ومن ولدوا في عهدها، ومنهم من عاش الثورة حلما بالنسبة للجيل الذي عاصر الملكية وقيام الثورة؛ فيقرر الحياد في شهادته بقوله: (فهذه شهادة تلزمنا أمانة التاريخ أن نجهر بها، مهما تبدل أو تلون رأي الناس في الثورة، ممن يبكي بعضهم على ماض قبلها لم يعرفوه، ولم يشهدوه، أو كانوا له من الشاهدين.. مسألة الحلم كانت جوهرا رئيسيا من جواهر الثورة أو هي لُب من ألبابها ولولاها لما كانت لها مكانة تحتلها في التاريخ).


  كما يرى شاكر أن الضباط الأحرار أعضاء الحركة لم يكونوا أنبياء مرسلين أو ملائكة هبطوا من السماء، ولكنهم استمدوا قيمتهم من كونهم قد صاروا صبيحة يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952م تجسيدًا لآمال أمة بأسرها، أو قل الغالبية الغالبة من أبنائها على أقل تقدير، غير أنه يقرر بأن: (الشعب المصري لم ينعم بالديمقراطية التي كان يصبو إليها، حينما كان يسعى إلى التخلص من النظام الملكي، بل فرضت الثورة العسكرية استبدادًا أشد من هذا الأخير، ولا يزال البناء الديمقراطي الذي شرع يقوم في مصر بعد تحولات كثيرة في حاجة إلى تدعيم وتطوير في نواح متعددة، لكي يتخلص من حكم الحزب الواحد الدائم في السلطة).


  يرصد الكاتب حلمي شعراوي في مقاله: "ذكريات أفريقية: الثورة المصرية .. والثورة الأفريقية" أثر ثورة يولية على القارة السمراء بدءًا من اعتراف مصر بضرورة حق تقرير المصير للسودانيين، ثم انطلاق مصر إلى أعماق أفريقيا وسعيها لتأسيس موقفًا يواجه الاستعمار القديم والحديث بعد تأميم قناة السويس، وتأسيس حركة عدم الانحياز لتجابه المعسكرين الغربي والشرقي على السواء، معلنةً أنها حركة تحرير وطني لن تسمح بنفوذ استعماري من أحلاف وقواعد في بلادها.


  يشير دكتور عبد العظيم أنيس في مقاله: "عبد الناصر وقضية الصلح" إلى أن مسئول المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط "كيرميت روزفلت" بعد عودته من القاهرة لوطنه قدَّم لوزير خارجية بلاده تقريرا قبيل اندلاع ثورة يوليو ما موجزه: أن الثورة الشعبية المتوقعة في دوائر الخارجية والتي يسعى إليها الشيوعيون والأخوان ليست مطروحة، وأنه لا توجد طريقة لإبعاد الجيش عن التحرك، وأن الضباط الذين يرجح أن يقودوا الانقلاب على فاروق لهم دوافع سياسية، وأن على الولايات المتحدة أن تقبل إزاحة الملك فاروق وربما نهاية الملكية.


  على الرغم من المقال الرائع الوارد في نفس العدد من المجلة وعنوانه: "مصر في عيون جمال حمدان" للكاتب كامل زهيري إلا أنه لم يورد رأي عالمنا الجليل دكتور حمدان في ثورة يوليو والذي جاء في ثنايا كتابه: "شخصية مصر"، ويشهد على موقفه منها، فيقول: (وهنا لابد من وقفة مركزة عند هذه الثورة التي أزالت الإقطاع،  والتي تعكس جوهر مصر الأصيل من حيث حقيقة بيئتها الفيضية فحسب بل ومن حيث دورها ومكانها في العالم).


  يقرر حمدان بعد أن عقد مقارنة بين الثورة المصرية والثورتين: الفرنسية والروسية، أن لكل من تلك الثورات شخصيتها المتفردة تاريخيا واجتماعيا، بأن: (الثورة المصرية كانت تاريخيا بمثابة ثورة بدورها على الثورة الأخيرة ـ يقصد الثورة الشيوعية ـ بصورة مباشرة، أو على الأثنتين السابقتين ـ الفرنسية والشيوعية ـ بصورة غير مباشرة)، ذلك أنه يرى أن الثورة المصرية ثورة كل فئات الشعب العاملة ـ لا فئة واحدة ـ ضد كل من الإقطاع والبرجوازية على حد سواء، لا على حدة، وهي لا طبقية .. تذيب الفوارق بين الطبقات ولكنها لا تفرض كالثورة الشيوعية ديكتاتورية أي طبقة، وتأخذ بالديمقراطية الثورية على عكس الثورة الفرنسية التي تبنت الديمقراطية الغربية، كما أنها لا تنفي الرأسمالية ولا تنكر الملكية الفردية بل توسعها بعد أن تهذبها.


  يُنهي الدكتور حمدان شهادته بقوله: (من حيث الشكل: الثورة المصرية كحدث تاريخي أتت ثورة بيضاء أو قل خضراء بلون الوادي.. ومن حيث الموضوع: أتت الثورة المصرية ثورة اشتراكية بالمعنى الدقيق.. الثورة المصرية نبت بيئي أصيل يعبر عن طبيعة المركب الفيضي من تعاونية كامنة، واعتدال الحد الأوسط، وسلمية المجتمع المائي).


  وفي نفس الإطار الزمني والتاريخي من استدعاء آراء المثقفين في تسعينيات القرن المنصرم، يذكر الدكتور غالي شكري في كتابه: "ثقافتنا بين نعم ولا" أن حركة 23 يوليو كانت تجسيدا حيا للنموذج الجديد على بلدان العالم الثالث، باعتبارأنها كانت الإطار الذي جمع في حياته المد الديمقراطي الذي مثلته الحركة الفدائية في منطقة القناة بل بطول الشارع المصري المناضل في وقت شاخت فيه الملكية وحزب البرجوازية الديمقراطي، والتنظيمات السرية والعلنية.


  مما تقدم تنبثق شهادة شكري على حركة يوليو، فيقول: (إن النموذج الجديد الذي تبنته حركة 23 يوليو لم يكن نموذجا برجوازيا متكامل السمات فيسمح لدورة الفكر الجدلية بنصف دورة هي حرية النشر دون حرية التأثير، ولم يكن نموذجا اشتراكيا متكامل السمات تنفرد في ظله الطبقات الشعبية بحرية الفكر والتعبير، وإنما هو ألغى المكتسبات الليبرالية البرجوازية ولم يحل مكانها مكتسبات الديمقراطية الشعبية، ومن ثم أصبحت أصداء الصوت الواحد هي حصاد كل الفكر، وتحول الكتَّاب المعتمدون إلى شُرَّاح عِظام يتبارون في "الاجتهاد" دونهم والخَلْق والاكتشافات أسوار وأسوار).


    يشهد الدكتور مصطفى الفقي في كتابه: "تجديد الفكر القومي" الصادر في تسعينيات القرن العشرين أيضا أن المثقفين المصريين مسئولون بالدرجة الأولى عن ضعف الجانب العروبي  في أركان الهوية المصرية، وأن: (المضمون القومي للبعد العربي لمصر، لم يتبلور بشكله الحالي إلا على يد "جمال عبد الناصر"، الذي استبدل بوحدة "وادي النيل" اتجاها عروبيا شاملا جعله صاحب النداءات القوية على طريق الفكر القومي).


   يعيب الفقي على المشككين في ثورية 23 يوليو ويرون أنها ليست إلا انقلابا عارضا، حيث يجد في هذا الرأي ليس تجنيا على ثورة قومية فحسب بل هو مغالطة علمية لا تخفى على ذي عينين، لأنها بحسب قوله: (ثورة في الخريطة الاجتماعية للمجتمع وفي توزيع الثروات)، وأنها الحدث القومي العربي الذي يرجع إليها الفضل في أنها كانت تدرك أكثر من غيرها   التصاعد المنتظر لمخاطر قيام إسرائيل في المنطقة.


    كانت هذه الإطلالة على آراء المثقفين في تسعينيات القرن العشرين في ثورة 23 يوليو 1952م، خالية من التحيز لها أو ضدها التزاما بالحيدة العلمية وبعدا عن الانتقائية، وقفتُ فيها موقف الناقل الأمين دون الإدلاء برأي على الرغم من كوني محسوبا على المثقفين، وممن عاين وعانى واستفاد في بعض سنوات عمره من خيرها وجمرها، غير أني أؤثر أن أترك للقارئ من هذا الجيل أو من الجيل الذي يسبقني أو جيلي حرية النظر والتعبير والتأمل والتأويل في ثورة شغلتني مثلما شغلت وستشغل أجيال قادمة حولها بنفس الحماس والحمية في الانتقال بين الرفض والتأييد أو الثبات على واحد من الموقفين.. وهذا هو شأن الأحداث التاريخية الكبرى في العالم ومنها ثورة يوليو 1952م.