الاثنين، 31 يوليو 2017

أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت .. الحلقة (5):






بدأ الإمام الغزالي"ربع العبادات" من كتابه "إحياء علوم الدين" بـ "كتاب العلم"،  بل هو أول كتاب في كتاب إحياء علوم الدين على الإطلاق، ويضم سبعة أبواب، على النحو التالي:

ـ الباب الأول: في فضل العلم والتعليم والتعلم وشواهده من النقل والعقل:

بدأه المصنف بالشواهد المؤيدة لفضيلة العلم من القرآن الكريم، ومن الحديث الشريف، ومن الأقوال المشهورة للعلماء.

  يرى الإمام الغزالي أن للعلم شرف يفرح من ينتمي إليه ولو في أمرٍ صغير، ويصيب الحزن  والكدر من قيل له أنك لست بعالم.

  وفي فضيلة التعلم،  يؤكد الغزالي أن الذهاب لطلب العلم جهاد في سبيل الله، وفي فضيلة التعليم  يرى أن العلم حياة القلوب، وأمَّا الشواهد العقلية، فينبه إلى أن غايته منها فقط  تبيين قيمة العلم ومدى نفاسته، وأن من أراد أن ينال شرف المثول بين يدي الله تعالى، ويفوز بالنظر الجميل إلى وجهه الكريم عز وجل، وأن من أراد الدار الآخرة وأن يصل إليها سعيدًا سعادة أبدية فبالعلم يصل، لأن أصل السعادة في الدارين إنما يتحقق بالعلم، وأن كل خير طريقه العلم وقرينه العمل.

ــ الباب الثاني: في العلم المحمود والمذموم وأقسامهما وأحكامهما:

  يبين الإمام الغزالي في هذا الباب أن العلم يدور بين أن يكون فرض عين من حيث طلبه والسعي إليه، لأن العبادات لا يمكن للمسلم أن يؤديها إلا إذا علم أحكامها من أركان وشروط، وكذلك ما يرِد ُعلى القلب من خواطر فهو أحكام اعتقادية، وأما أن يكون العلم فرض كفاية.

   يُقسِّم الغزالي العلوم بين شرعية وهي ما استفاد منه الأنبياء صلوات الله عليهم، أو غير شرعية وتدور بين المحمود ويتعلق بالمصالح الدنيوية. ومنها ما يكون فرض كفاية أو فضيلة وليس بفريضة، وعلم الكفاية هو أي علم لا يستطيع المسلم أن يتخلى عنه من علوم الدنيا، والتعمق في هذه العلوم هو الفريضة. أما العلوم التي لها علاقة بالشرع، فيراها الغزالي كلها محمودة.

ــ الباب الثالث: فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها: وهو العلم الذي لا يمدح بل يُذَم لأسبابٍ ثلاثة:

السبب الأول: أن يؤدي العلم  إلى ضرر يمس صاحبه أو غيره، مثل السحر.
السبب الثاني: عندما يكون العلم ضارًا لصاحبه، كالمنجمين.
السبب الثالث : عندما يتعلم المرء علمًا لا فائدة تعود منه عليه.  

ــ الباب الرابع: في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة، والجدل وشروط إباحتها:

ويتعرض الغزالي للفقهاء الذين أعزهم الله بعز العلم، فعرفوا للعلم حقه، فطلبهم الخلفاء فكانوا يفرون منهم، فرأى  بعض الناس إلحاح الخلفاء على العلماء وهروبهم منهم، فطلبوا العلم لما عند السلطان، فأصبحوا طالبين وكانوا مطلوبين، ولحقتهم الذلة بعد أن كانوا أعزة.
 أما المناظرة للغلبة دون طلب الحق فيرى الغزالي أنها مذمومة.
  
ــ الباب الخامس: في آداب العلم والمتعلم:

أما المتعلم فأدابه كثيرة ومنها: طهارة النفس، عدم التعلق بالدنيا، عدم التكبر على العلم، عدم الخوض في المسائل الخلافية سواءٌ في أمور الدين أو الدنيا على السواء حتى لا تصيبه الفتنة والفتور، كما يجب على المتعلم  أن يبدأ بالأهم من العلم إذ الترتيب مطلوب ولا يهجم على العلم دفعة واحدة ، كما عليه أن ينتهي من العلم الذي يدرسه أولا ثم يدخل في العلم الذي بعده حتى ينتهي منه وهكذا فالترتيب في العلوم أمر ضروري.

    وأما المعلم فمن وظيفته، الشفقة على المتعلمين كأنهم أبنائه، والاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما تقاضى على ما أفاد الناس فيه من علم أجرًا ولا شكورًا، والنصح للمتعلمين بالانكباب على ما يتعلمون دون التشاغل عنه، كما أن من وظيفة المعلم ردع المتعلم وتأديبه بالتعريض دون التصريح، وبالمودة والرحمة دون التعنيف والتوبيخ.

ــ الباب السادس: في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء:

 يرى الإمام الغزالي أن من عَلِمَ صفات علماء الآخرة سيببتعد عن علماء السوء، وأن صفات علماء الآخرة، هي: عدم المبادرة للفتوى من عند أنفسهم، ولكنهم إذا اضطروا لها تيقنوا قبل أن يجيبوا المستفتى عن سؤاله، ويبتعدوا عن التصدي للفتاوى، ويبحثون في العلم الذي يفضي إلى العمل، واتباع الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين الأخيار.

ــ الباب السابع:  في العقل وشرفه وحقيقته وأقسامه:

 يرى الإمام الغزالي أن من العقل ينبع العلم، فهو الأساس له، و والناس ليسوا سواء في العقول، فلا يجب على من قل تحصيله أن ينشغل بالعلم.

 وقال الإمام الغزالي في الختام: (تم كتاب العلم بحمد الله تعالى ومنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبدٍ مصطفىَ من أهل الأرض والسماء!)..


  وأقول بعد كلام مولانا الإمام في الختام أترككم في سلام، وألقاكم في الحلقة القادمة مع كتاب العزلة من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين.. دمتم آمنين...

عندما تتلمذ "الأعلم" على "الأدنى" .. السلجماسي والدباغ أنموذجًا


                                                     

  
  لم يكتفِ المتصوفة بأن يتخذوا من انقطاع الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء الليالي ذوات العدد، رمزًا لاتخاذهم وانتهاجهم مسلك الخلوة الذي حددوا مدته وشروطه، حتى ابتدعوا "ديوان تصريف الأكوان" وهو ديوان للأقطاب والأوتاد والأبدال ليدير شئون الكون من خلال قراراته، ويروي الشعراني في الطبقات الكبرى عن عبد الله التستري, أنه قال : (ما من ولي لله صحت ولايته إلا ويحضر إلي غار حراء  بمكة المكرمة في كل ليلة جمعة لا يتأخر عن ذلك)، وذلك للنظر في أمور الكون، وتصريف أحواله نيابة عن الله عز وجل.

  ينقل أحداث هذا الديوان وهيئته وكيفيته اثنان، أستاذ وتلميذ، فأمَّا التلميذ فهو أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي الذي نقل هذا الكلام إملاءً من شيخه وأستاذه عبد العزيز مسعود الدباغ، والتلميذ من حيث الحيثيات أكثر علمًا من أستاذه؛ إذ هو الفقيه، الأصولي، الإمام، العلاّمة، الحافظ، المتبحر، الجهبذ، المحرر، المدقّق أبو العباس أحمد بن مبارك ـ وبه عُرف ـ ابن محمد بن عمر السجلماسي اللَّمَطي؛ بفتحتين نسبة إلى لَـمَط، رهط من سجلماسة؛ الفاسي الدار والقرار، يتصل نسبه بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو أيضا البكري الصديقي.بل إنه العلامة الأوحد الحافظ المحقق المشارك في جميع الفنون، بحسب ما جاء في مخطوطة "سؤال وجواب" الموجودة بقسم المخطوطات بمكتبة الملك عبد العزيز بجامعة الرياض، كما أنه من أعلام المذهب المالكي، ويتبوأ مكانة رفيعة بين علمائها، ويعتزون به أيما اعتزاز.

من تصانيفه: "إنارة الافهام بسماع ما قيل في دلالة العام، شرح المحلى على جمع الجوامع، رد التشديد في مسألة التقليد وكشف اللبس عن المسائل الخمس، الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز".

  وقد أورد أحمد اللمطي واقعة ديوان التصريف في كتابه الأخير "الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز"  وهو عبد العزيز بن مسعود المعروف بالدباغ، (1095 الموافقة ١٦٧٩ م ـــ 1132 ه الموافقة ١٧٢٠ م)، صوفي، من أهل فاس بالمغرب، كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولأتباعه مبالغة في الثناء عليه ونسبة الخوارق إليه [انظر: معجم الشيوخ 2/100، الأعلام 4/28، معجم المؤلفين 5/262 ــ 263]. 

والدباغ نسبة إلى الدباغيون وهم أشراف أدريسيون، من سلالة علي وفاطمة الزهراء, رضي الله عنهما.

     يصفه أتباعه بأنه العارف بالله، الولي الكامل، الشيخ الشريف القطب الغوث, أحد الأئمة الأولياء ومشاهير الأصفياء، قطب من أقطاب الصوفية، صاحب الإشارات العلية والعبارات السنية والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية والأسرار الربانية، منشئ معالم الطريقة، ذي النسبتين الطاهرتين الجسمية والروحية، والسلالتين الطيبتين الشاهدية والغيبية، المحمدي العلوي الحسني، قطب السالكين، وحامل لواء العارفين. ويتباهون بأنه يخوض في العلوم التي تعجز عنها العقول مع أنه كان أميًا, لم يحفظ القرآن ولم يُرىَ في مجالس علم, وقد جاءه كل هذا العلم حين التقى الخضر عليه السلام، ولقنه وِردًا داوم عليه حتى جاءه الفتح!

      خصص له أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي الكتاب المشار إليه آنفًا، وهو من الكتب الشهيرة في أدب المناقب في العالم العربي والإسلامي، كما يزعم أتباعه،  وبدأه بالحمد الذي فتح لأوليائه طريق الوسائل، وأجرى على أيديهم الكريمة أنواع الفضائل، فمن اقتدى بهم انتصر واهتدى، ومن حاد عن طريقهم انتكس وتردى. وهو بهذا يضع الرؤيا المنطلق لترجمته للشيخ، والتي  استهلها بذكر أصل أجداده و أبيه و والدته، ثم التنبؤات التي سبقته، وإشارات إلى المكانة العظيمة التي ستكون له في عالم الولاية والكشف، فذكر حكايات وأحاديث خاصة نقلها عن الشيخ، منها طريقه في الكشف الرباني وتفسيراته لما التبس على مريديه من أحاديث نبوية وآثار بعض مشايخ التصوف، ناهيك عن "عرفانه اللدني" في مواضيع البرزخ والبعث والجنة والنار، وغيرها من أمور العقيدة، أيضًا كما يزعمون. 
     
   والسؤال: كيف قَبِلّ العلامة السلجماسي ما قاله أستاذه الدباغ حتى أفرد له كتابه هذا دون معارضة أو تفنيد لرأيه، مع كونه يجيد هذا الفن تمامًا؟

    يدون المتصوفة في كتبهم عن الشيخ أحمد بن المبارك اللمطي السلجماسي أنه العلامة المحقق شيخ علماء عصره، ولما لا وقد أعطاهم فرصة ذهبية لكي يتباهوا بأنه كان تلميذًا لسيدهم القطب الكبير عبد العزيز الدباغ الحسني وأنه نقل عنه من المواهب والأسرار ما أثبت بعضه في كتاب "الإبريز". 

ثم يضيفون:  (وهكذا لا تجد عالما كبيرًا ومحققًا شهيرًا إلا دخل في طريق القوم والتمس البركة من أهلها ونال الحظوة بسبب الانتساب إليها، وهذا أمر معلوم يدركه من قرأ تراجم العلماء وتتبع سيرهم واستقصى أخبارهم، ومن لم يعرف أو لم يعتد به فهو جاهل متعنت لا اعتداد به ولا عبرة بما يقول.(

  يعجب صادق سليم صادق من مسلك ابن المبارك، فيقول:

 (سَلَّم أحمد بن المبارك لشيخه الأمي الجاهل: عبد العزيز الدباغ، وفيما يظهر من ترجمة أحمد بن المبارك، ومسائله لشيخه، أنه كان من العلماء ــ وهذا ما أشرتُ إليه ــ ومع هذا فهو يقول معددًا مسموعاته عن شيخه الدباغ: (... وكذا سمعتُ منه من المعرفة بالله تعالى، وعَلِيِّ صفاته، وعظيم أسمائه، ما لا يُكيَّف ولا يُطاق، ولا يدرك إلا بعطية الملك الخلاق، وكذا سمعت منه من المعرفة بأنبياء الله تعالى، ورسله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ما تحسه به كأنه كان مع كل نبي في زمانه، ومن أهل عصره، وأوانه، وكذا سمعت منه المعرفة بالملائكة الكرام، واختلاف أجناسهم، ومراتبهم العظام، ما كنت أحسب أن البشر لا يبلغون إلى علم ذلك، ولا يتخطون إلى ما هنالك، وكذا سمعت منه من المعرفة بالكتب السماوية، والشرائع النبوية السالفة الأعصار، المتقادمة الليل والنهار، ما تقطع وتجزم إذا عرفته، بأنه سيد العارفين، وإمام أولياء أهل زمانه أجمعين. وكذا سمعت منه من المعرفة باليوم الآخر، وجميع ما فيه من: حشر، ونشر، وصراط، وميزان، ونعيم باهر؛ ما تعرف إذا سمعته أنه يتكلم عن شهود وعيان، ويخبر عن تحقيق وعرفان؛ فأيقنتُ حينئذٍ بولايته العظمى، وانتسبتُ لجنابه الأحمى...) [المصادر العامة للتلقي عند الصوفية.. عرضًا ونقدًا].

 وقال أيضًا: (... فكل من سمعه يتعجب منه، ويقول: ما سمعنا مثل هذه المعارف، ويزدهم تعجبًا، كون صاحبها رضي الله عنه، أميًا، لم يتعاطَ العلم، ومن الذين أعرضوا عنه في الظاهر غاية الإعراض). 

  وأحسب أن هذا النص، ليس في حاجة إلى تحليل؛ فإن المعرفة باليوم الآخر وجميع ما فيه إن لم يكن من أنواع الغيوب فليس هناك غيب أصلًا؛ إذ العلم بشيء بذلك مقيد بما ورد في الكتاب والسنة. ونحن نعلم أن الدباغ لم يستفد من هذا العلم المزعوم منهما لأمور:

1ــ أن تلميذه الراوي صرح بأنه يتحدث عن شهود وعيان.

2ــ أن تفصيل جميع ما في الآخرة لم يأتِ في الكتاب والسنة، بل جاء فيهما ــ غالبًا ــ إجمال تلك الأمور حسب ما يقتضيه الترغيب والترهيب.

3ــ أن الدباغ أمي لم يقرأ الكتاب والسنة كما صرح ابن المبارك نفسه [محمد أحمد لوج، تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، عرض وتحليل على ضوء الكتاب والسنة، ص61، ج1].

في ضوء ما أسلفنا بيانه، وما أجاب عنه ابن مبارك وأبانه، بيقينه بولاية الدباغ العظمى، وانتسابه لجنابه الأحمى، على الرغم من تمكَّن ابن مبارك السلجماسي من ناصية جلّ العلوم، حتي أخذ يُقارع العلماء، ويرد على أكابرهم، سواء المتقدم منهم أو المتأخر، وكاد لا يحصل منه إذعان لواحد منهم، بل ويصرح لنفسه بالاجتهاد المطلق، وبالفعل فقد كانت له عارضة في المقابلة بين أقوال العلماء، والبحث معهم، والإجابة عنهم بمقتضى الصناعة والآلات، مع تفرده بأشياء يصل إليها بفهمه وبحثه.وحظي عدد كبير من التلامذة المعاصرين له بالنهل من معين علمه، والاقتباس من ثمرة اجتهاده[نشر المثاني (4/40)، التقاط الدرر، للقادري (2/393-394)، طبقات الحضيكي (1/120)، سلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني (2/203)، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (352)، إتحاف أعلام الناس لابن زيدان (1/291)، هدية العارفين (1/174)، معجم المؤلفين (2/56)، الأعلام للزركلي (1/202)].

في ضوء ما تقدم نستطيع الآن أن نتفهم ما كتبه ابن مبارك عن ديوان تصريف الأكوان ـ المزعوم ـ أو كما يقول أتباعه: "الإبريز الذي تلقاه  نجم العرفان الحافظ سيدي أحمد بن المبارك عن قطب الواصلين سيدي عبدالعزيز الدباغ".

 لقد فُتِنَ السلجماسي التلميذ بشيخه الدباغ حيًا وميتًا؛ إذ دُفِنَ بجواره بعد أن أصابه الطاعون، ليلة يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى عام خمسة أو ستة وخمسين ومائة وألف، ودفن مع شيخه المذكور في قبته، متصلًا به، ليس بينه وبينه إلا جبهة بناء، وعليهما اليوم دُربوز واحد؛ فوقه مقبريتان خارج باب الفتوح قي عدوة فاس الأندلس.   

لقد اخترع الدباغ وظيفة لغار حراء لم ترد على خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم حال حياته، وجمع الأحياء مع الأموات، وقدم مذهب مالك على المذاهب كلها، وأشاع أحمد بن مبارك هذا الهراء حتى أصبح كثير من أهل التصوف يصدقون هذا الكون المخفي عنا، بل يتعجبون من تكذيبنا له باتهامنا بالغفلة والعمى والزيغ عن طريق النور، والحقائق الجلية لهم بظنهم.

أن كل كتابة جرى بها قلمٌ لصوفيّ وكل عبارة نطق بها وسُمِعَتْ عنه، مما أراد به نقل خبرته الروحية إلى الآخرين، هو من قبيل الشعر الذي يخرج من مجال المعقولات مهما تكن له من قيمة تعبيرية في مجال الفن الأدبي؛ وإن أعجب العجب في هذا الصدد هو أن الأدوات نفسها التي ندرك بها المدركات العقلية هي الأدوات التي يعدها المتصوفة مؤدية إلى الضلال؛ فإذا كانت المشاهدات العلمية وسيلتها الحواس، فالحواس عند الصوفي لا ترى إلا الظاهر دون الباطن، والحق إنما يكون ــ عندهم ــ فيها هو باطن مستور، ولا يكون أبدًا فيما تراه الأبصار مما يظهر لها على أسطح الأشياء؛ وإن كانت المعرفة العلمية قائمة على تحليل الموضوع المراد معرفته إلى عناصره الأولية التي منها يتألف، فالتحليل عند الصوفي يفسد علينا حقيقة الشيء، لأن حقيقته هي في جملته مجتمعةً في مركَّب واحد، لا في أجزائه وهي فرادى.

   والخلاصة هي أنه بينما "العلم" يقف دائمًا عند حدود ما يظهر لنا من الكون يزعم المتصوفة أن العالم الحق هو ما يكمن وراء الظواهر، فهم بذلك يعيشون في عالم غير عالمنا الذي نعيش فيه، ومن ثم يبطل بيننا تبادل المعرفة على النحو الذي نألفه في العلوم وفي الحياة العملية على حد سواء؛ وإن هذا العالم المستور عنا والمكشوف للصوفي، يبهره بهرًا قد يُشيع فيه رجفةَ الخوف، وكثيرًا ما يراه الصوفي وكأنه يرى  نورًا ساطعًا يستعصي على الرؤية الكاملة، ويخيل إليه أن الحقيقة الباهرة تلك تروغ منه وتختفي كلما ظن أنه قد أوشك على شهود كامل، فتراه عندئذ ينحو باللائمة على ما يزال باقيًا عنده من غلالات الأباطيل التي تخلقها في الإنسان حواسه؛ وإننا إذ نُشَّبه رؤية المتصوف هذه برؤية الشاعر والفنان والعاشق الولهان بموضوع حبه، فإنما نضيف القول بأن هؤلاء الأشباه جميعًا لا يتلقون من هذا العالم المحجوب إلا لمعات خافتة يرونها ثم يعودون إلى حياة الحس المألوف.

   وأمَّا المتصوف فيغمس روحه في ذلك الضوء غمسًا، فلا عجب أن نجد المتصوفة على عقيدة راسخة بأن ما يعرفونه عن "الحق" بمثل تلك الرؤية المباشرة المستغرقة فيما تراه، لا يجوز أن يقاس إليها أي معرفة أخرى، فكل معرفة أخرى ــ ومنها المعرفة العلمية ذاتها ــ إن هي إلا جهالة عمياء إذا قورنت بالحقيقة التي تشرق على المتصوفة في لحظات وجدهم. تلك الرؤية الكاشفة عما حجبته الأستار عن سائر  الناس، هي إذن أولى خصائص التصوف، وهي خصيصة تكفي وحدها لنُدخِلَ التصوف في "عالم اللا معقول" [دكتور زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري].
   يقول المستشرق الألماني فريتز ماير:  (إن العقلانية والدين قد اقترنا إلى حد جعل المسلمين يتباهون بأن دينهم هو الأكثر عقلانية بين كل الأديان).

   وأعتقد أن الرجل لم يطالع ما نقله ابن مبارك السلجماسي عن أستاذه الدباغ، ولو قرأ لكان له رأي آخر ليس في الإسلام بالطبع ولكن في بعض أتباعه الذين كادوا أن يتفوقوا على مبدعي أفلام الخيال العلمي، لتجاوزهم المعقول، ومحاولة الزج بالإسلام إلى مناطق تفوق اللامعقول، فكانوا أشد خطرًا عليه من أعدائه.  
 
   ويبقى السؤال مطروحًا فوق مائدة البحث لم يجد له سبيلًا إلى الإجابة عليه سوى إجابات غير منطقية من أتباع الدباغ دائمًا والتي تصب في صالح ولايته، وتضخيم وجوده الروحي، وقطبيته: كيف ولماذا تابع التلميذ "الأعلم" شيخه "الأدنى" منه علمًا؟!

   والسؤال الأهم: كيف قبل أن ينقل هذا الهراء عن شيخه مما جاء في كتابه "الإبريز"، وهو الذي له باع طويل وتبحر في المنطق والبيان والأصول والحديث والقراءات والتفسير. وله عارضة في المقابلة بين أقاويل العلماء والبحث معهم لم تكن لغيره حفظا وبحثا ومعارضة واستنباطا، ويصرح لنفسه بالاجتهاد ويرد على الأكابر من المتقدمين والمتأخرين، وكان كثير التنويه بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمل الناس على شدة محبته؟!


الخميس، 27 يوليو 2017

” أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت ” الحلقة (04):



الحلقة الرابعة:


كتاب: "إحياء علوم الدين"






أوجزت لك الكتاب القيم والشهير كتاب: "إحياء علوم الدين" تصنيف الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي، المتوفى (505هـ)، وذلك لأنه من أعظم الكتب الإسلامية في معرفة الحلال والحرام، والذي جمع فيه المصنف أسرارًا دقيقة، وأصول من المسائل والفروع، وحوى فيه من علوم المعاملات التي يتقرب بها  العبد لله تعالى بين الظاهر والباطن، حتى قالوا أن من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء.

   ولهذا فقد حظيَّ هذا الكتاب بالطبعات الكثيرة التي صدرت بطول العالم الإسلامي وعرضه، وما زالت تطبع حتى الآن، كما أنه من الكتب والمشتهرة والمنتشرة على مواقع الشبكة العنكبوتية، أي أن الحصول عليه ليس عسيرًا على كل حال، ومن هنا لم أشأ أن أتكلم عن طبعة بعينها، غير أن تكون عنايتي بها جاءت من أحدث الطبعات التي راعت تخريج الأحاديث وتحقيقها بعناية تامة.
 
  كثيرًا ما يخلط بعض المعاصرين من المسلمين بين الشيخ محمد الغزالي، والإمام أبي حامد الغزالي، وسنتعرف على الإمام الغزالي الآن، وسنترك التعرف على الشيخ الغزالي عندما نتعرض لبعض كتبه لاحقًا إن شاء الله تعالى.

   لقد أورد الإمام الذهبي سيرة الإمام أبي حامد الغزالي في التاريخ والتراجم من كتابه الشهير "سير أعلام النبلاء" في حديثه عن الطبقة السابعة والعشرين منهم، التي َصدَّر كلامه عنه بقوله:  (الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف، والذكاء المفرط).

 ولد  الغزالي بطوس بخراسان من بلاد فارس سنة  450 ه، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له بتلك البلدة غير أنه مات مبكرًا بعد أن أوصى بابنه لأحد أصدقائه، وقد درس الغزالي الفقه ببلده، ثم علم الكلام، والجدل، والفلسفة، ودخل عالم التصوف متنقلًا بين العواصم العربية، وقد مارس التدريس زمنًا، غير أنه عاد إلى بلده إلى أن توفي بها، وكان له العديد من المؤلفات، منها: المنقذ من الضلال، المضنون على أهله، إلجام العوام عن علم الكلام، أساس القياس، تهافت الفلاسفة، الاقتصاد في الاعتقاد، أيها الولد، قواعد العقائد، وغيرها.

  أسس الإمام الغزالي كتابه على أربعة أرباع، كالتالي: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات يتصدرها جميعًا كتاب العلم.
  
   يذكر الإمام الغزالي الأسباب التي جعلته يقسم كتابه هذا التقسيم الرباعي، والتي يرجعها إلى أمرين: الأول منهما، هو أن الترتيب في التحقيق والتفهيم ضرورة يراها مهمة في العلوم التي تتوجه إلى الآخرة وتنقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة، وعلم المكاشفة عنده يعني كشف المعلوم فقط، بينما يعني علم المعاملة عنده هو الذي يكون مع المعاملة طريق إلى علم الكشف، غير أنه في كتابه سيلتزم فقط بعلم المعاملة الذي تكلم به الأنبياء والرسل عليهم السلام، لما في علم المكاشفة من رمز وإيماء على سبيل التمثيل والإجمال تكلم به الأنبياء بها لعلمهم بقصور عقول البشر. أما علم المعاملة عند الغزالي فينقسم إلى علم الظاهر وهو علم الجوارح، وعلم الباطن وهو عمل القلوب.

    أما الأمر الثاني الذي حدا بالغزالي إلى هذا التقسيم الرباعي لكتابه فيكمن في استدراج قلوب طلبة العلم ومحبي الفقه والتعلم، والعلم يفيد حياة الأبد، وثمرته طب القلوب والأرواح.

 وكل ربع من هذه الأربعة يضم عددًا من الكتب تبلغ العشرة، فيصبح مجموع العدد أربعين كتابًا، سنختار كتابًا من كل ربع يعبر ــ ولو جزئيًا ــ عن ذلك الربع الذي ينتمي إليه، وذلك بغية الإلمام ـ إلى حدٍ ما ـ بحدود الكتاب الأربعة للوقوف على فكر الكاتب وتطبيقه لمنهجه الفكري.

   يضم الربع الأول الموسوم بربع العبادات عشرة كتب، هي: كتاب العلم، وكتاب قواعد العقائد، وكتاب أسرار الطهارة، وكتاب أسرار الصلاة، وكتاب أسرار الصوم، وكتاب أسرار الحج، وكتاب آداب تلاوة القرآن الكريم، وكتاب الأذكار والدعوات، وكتاب ترتيب الأوراد في الأوقات. وقد اخترت منه كتاب العلم لأوجزه لك.

   ويضم الربع الثاني الموسوم بربع العادات عشرة كتب، هي: كتاب آداب النكاح، وكتاب قواع أحكام الكسب، وكتاب الحلال والحرام، وكتاب آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق، وكتاب العزلة، وكتاب آداب السفر، وكتاب السماع والوجد، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة. وقد اخترت منه كتاب العزلة لأوجزه لك.

   ويضم الربع الثالث الموسوم بربع المهلكات عشرة كتب، هي: كتاب شرح عجائب القلب، وكتاب رياضة النفس، وكتاب آفات الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، وكتاب آفات اللسان، وكتاب آفات الغضب والحقد والحسد، وكتاب ذم الدنيا، وكتاب ذم المال والبخل، وكتاب ذم الجاه والرياء، وكتاب ذم الكبر والعجب، وكتاب ذم الغرور. وقد اخترت منه كتاب ذم الغرور لأوجزه لك.

   ويضم الربع الرابع الموسوم بربع المنجيات عشرة كتب، هي: كتاب التوبة، وكتاب الصبر والشكر، وكتاب الخوف والرجاء، وكتاب الفقر والزهد، وكتاب التوحيد والتوكل، وكتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، وكتاب النية والصدق والإخلاص، وكتاب المراقبة والمحاسبة، وكتاب التفكر، وكتاب ذكر الموت. وقد اخترت منه كتاب التفكر لأوجزه لك.




الثلاثاء، 25 يوليو 2017

” أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت ” الحلقة (03):








الحلقة الثالثة

سياحة مع "أوجز"، ومن "أوجز"


   تأتي كلمة (أوجَزَ) بالنصب فوق حرف الجيم، كما تأتي (أوجِزْ) بالكسر تحت حرف الجيم، في الأولى تأتي للحديث عن الغائب بمعنى أنه أو أنها أوجَزَ أو أوجَزِتْ، وإذا جاءت متصلة بتاء الفاعل فقد توثقت عراها بضمير المتكلم كما في أول كلمة بعنوان هذا الكتاب "أوجَزتُ"، أما إذا جاءت بالكسر فقد اتصلت بالرجاء والأمر "أوجِزْ"، بحسب مقام الراجي أو الآمِر من المرجو أو المأمور حال المخاطبة.

   ومن هنا كانت هذه السياحة مع "أوجز" تلك التي استغربتها مسامع من تليت عليه، وهي موجودة في جسد لغتنا وصفًا للقرآن الحكيم، وفي حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضوان الله عليهم، وفي ثنايا أدبنا العربي من شعر ونثر وغيرهما، كما أن عنوان كتابنا لم يأتِ بِدعًا في مضماره؛ فالعديد من الكتب في القديم والحديث أتت بـ "أوجز" في عنوانها كما سنرى ونعاين.

سياحة مع "أوجز" في الأدب العربي:

  ومعنى أوجز من "وجز" في معاجم اللغة العربية، واخترت أولها "لسان العرب" الذي يقول: وَجُزَ الكلامُ وَجازَةً ووَجْزاً وأَوْجَزَ (قَلَّ في بلاغة) وأَوْجَزَه (اختصره)، يقال أَوْجَزَ فلانٌ إِيجازًا في كل أَمر، وأَمرٌ وَجِيزٌ وكلام وَجِيز أَي خفيف مقتصر، يقال وَجَزَ في كلامه وأَوْجَزَ. ومعنى "وجز" في مختار الصحاح و ج ز: أَوْجَزَ الكلام (قصَّره) وكلام مُوجَز بفتح الجيم وكسرها. بينما معنى وَجَزَ في المعجم الوسيط في منطقه ـِ (يَجِزُ) وَجْزاً، ووُجُوزاً: (أسرع فيه واختصره). وـ الكلامَ: قصَّره وقلَّله. فهو واجز.(وَجُزَ) في منطقه ـُ (يَوْجُزُ) وَجْزاً، ووَجازة: وَجَزَ فيه. وـ الكلامُ: قصُر في بلاغة. فهو وجيز، ووَجْز.(أَوْجَزَ) الكلامُ: قلّ في بلاغة. وـ في الأمر: أسرع فيه ولم يُطِلْ. وـ كلامه، وفي كلامه: قلَّله واختصره. وـ العطيةَ: قلَّلها. وـ عجَّلها.(تَوَجَّزَ) الشيءَ: تنجَّزه والتمسه.(اسْتَوْجَز).

    يبدأ كلام الخطباء والوعاظ في الغالب:  (الحمد لله الذي نور بكتابه القلوب, وأنزله فى "أوجز" لفظ وأعجز أسلوب، فأعيت بلاغته البلغاء, وأعجزت فصاحته الفصحاء, وأسكتت حكمته الحكماء, وأذهلت روعته الخطباء, فهو الحجة البالغة, والدلالة الدامغة, والنعمة الباقية, والعصمة الواقية, وهو شفاء الصدور, والحكم العدل فيما أحكم وتشابه من الأمور).

    وأتت "أوجز" بالكسر مع وصيَّةٍ وجيزةٍ وموعظةٍ بليغةٍ من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، والعظة جاءت موجزة بناء على طلب ورجاء الطالب، وليس أمرًا منه، وقد ضم العظة مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه وغيرهما، من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ، وفي رواية عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا، وَأَجْمِعِ اليَأسَ مِمَّا فِي يَدَيِ النَّاسِ" [حديثٌ حسنٌ].     

 وفي صحيح مسلم، عن أنسٍ قال: ما صلَّيت خلفَ أحدِ أوجزَ صلاةً من صلاةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في تمامٍ كانت صلاةُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم متقاربةً، وكانت صلاةُ أبي بكرٍ مُتقارِبةً، فلمَّا كان عمرُ بنُ الخطَّاب مدَّ في صلاةِ الفجر، وكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا قال: «سمع الله لمن حمِده»؛ قام حتَّى نقولُ: قد أوهم، ثمَّ يسجدُ ويقعدُ بينَ السَّجدتينِ حتَّى نقولُ: قد أوهم.

قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، أي: ابن ياسر، فَأَوْجَزَ، وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ، أي: أطلتَ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا" [رواه مسلم: (869)].   
ومعنى "مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ" أي علامة على فقهه ودليل عليه.

ويدل على ما سبق قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة  بين الأيام مخافة السأم علينا "(متفق عليه).

وكان عبيد بن عمير المكي يعظ في الحرم، ويُبْكي ابن عمر من حديثه، ولكنه يطيل الوعظ، فقالت له عائشة رضي الله عنها: "يا عبيد: إذا وعظت فأوجز، وإياك وإملال الناس وتقنيطهم" أخرجه الطيب في جامعه".
وفي رواية قالت له: "يا عبيد إذا وعظت فأوجز، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بحديث لو عده العاد لأحصاه".

وجاء الشعر ليؤكد على "أوجز" تأييدًا لنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطبة، وللسيدة عائشة رضي الله عنها حين طالبت بالإيجاز في العظ؛ فقال الشاعر:
طَبِـيـبٌ بـداء فُنُون الكلا           م لَمْ يَعْيَ يوماً ولم يَهْذُرِ
فإنْ هو أَطْنَبَ في خُطْبَةٍ         قَضَى للمُطِيل على المُنْزر
وإن هو أَوْجَزَ في خُطبَةٍ          قَضى للمُقِلِّ على المُكْثِرِ

قال الحسن البصري: (رحم الله عبدًا أوجز في كلامه واقتصر على حاجته فإن الله يكره كثرة الكلام).

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: أمّا بعد فإذا أتاك كتابي فعظني وأوجز.

فكتب إليه الحسن: أمّا بعد، فاعصِ هواك والسلام.

عن أبي المغيرة بن شعيب قال: حضرت يحيى بن خالد البرمكي يقول لابن السماك: إذا دخلت على هارون أمير المؤمنين "فأوجز" ولا تكثر عليه، قال: فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله مقاماً، وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر إلى أين منصرفك؟ إلى الجنة أم إلى النار. قال: فبكى هارون حتى كاد أن يموت.  

وفي المقامة المراغية، من مقامات الحريري: (وإني لأعْرِفُ الآنَ مَنْ إذا أنْشا. وشّى. وإذا عبّرَ. حبّرَ. وإنْ أسهَبَ. أذْهَبَ. وإذا أوْجَزَ. أعْجَزَ. وإنْ بَدَهَ. شدَهَ. ومتى اخْتَرَعَ. خرَعَ).

"أوجز" في الشعر لها مكانها:

يقول أبو العتاهية:

نو الحكمة يخوضُ أُناسٌ في الكَلامِ ليُوجزُوا      وللصَّمتُ في بعضِ الأحايينِ أوجَزُ
فإنْ كنتَ عنْ أن تحسنَ الصمتَ عاجزاً        فأنتَ، عنِ الإبلاغِ في القوْلِ، أعجَزُ

ويقول أبو العلاء المعري:  

أوْجَزَ الدّهرُ، في المقالِ، إلى أنْ        جَعلَ الصّمتَ غايَةَ الإيجازِ
مَنطِقاً ليسَ بالنّثيرِ، ولا الشِّعـ             ـري، ولا في طَرائقِ الرُّجّازِ
وعدَتْنا الأيّامُ كلَّ عَجيبٍ،                    وتَلَوْنَ الوُعودَ بالإنجاز
هيَ مثلُ الغَواني إنْ تَحْسُنِ الأوْ        جُهُ منها، فالثّقلُ في الأعْجاز
مَنْ يُرِدْ صَفوَ عِيشَةٍ يبغِ، من دُنـ             ـياهُ، أمراً مبيَّنَ الإعجاز
فافعَلِ الخيرَ إن جَزاكَ الفتى عنـ          ـه، وإلاّ فاللَّهُ، بالخَيرِ، جاز
يقول ابن نباتة المصري:

أوجز مديحك فالمقام عظيم          من دونه المنثور والمنظوم
من كان في سور الكتاب مديحه        ماذا تساور فكرة وتروم
جبريل راوي نصّه الأحلى وفي        ورق الجنان كتابه مرقوم
قل يا محمد تفصح الاكوان عن         حمدٍ كأنّ مزاجه تسنيم

سياحة مع من "أوجز" في دنيا التصنيف:

  جاءت أوجز لتتسيد عناوين الكتب والمؤلفات والمصنفات من قديم زماننا العربي حتى المعاصر، وسأقصر ذكر العنوان ومؤلِفه، وأذكر أحيانًا، كلمة مقتضبة منه بحسب الأحوال، على النحو التالي:

ـ كتاب: "أوجز البيان في متشابه القرآن"، لمؤلفه محمد ابراهيم الحمد.

ـ كتاب: "أوجز البيان في متشابه القرآن"، لمؤلفه السيد محمود محمد سند.

ـ كتاب: "أوجز البيان في سيرة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه"،  لمؤلفه  زياد بن محي الدين الرفاعي.

ـ كتاب: "أوجز البيان لما شغل الأذهان حول ليلة النصف من شعبان"، لأحد الدعاة.

ـ كتاب: "أوجز المطالب لكل عالم وطالب"، لمؤلفه  سعد الدين بن محمد الكبي.

ـ كتاب: "إظهار الإفادات من أوجز المختصرات"، لمؤلفه الشيخ الدكتور سمير بن سامى القاضى نسبًا الكيفونى ثمّ المدنى موطنًا، يقول:
 (وسمَّيتُهُ أوجزَ المختصراتِ فى علمِ الحالِ على مذهبِ السَّادةِ الشَّافعيَّة إشارةً إلى قِلَّةِ ألفاظِهِ وكثرةِ معانيه وصِغَرِ حجمِهِ وسهولةِ تعَلُّمِهِ وأوضحتُ عباراتِهِ بحلٍ وَجيزٍ لها سمَّيتُهُ إظهارَ الإفاداتِ مِن أوجَزِ المختصراتِ إشارةً إلى ما يحويه من الفوائد).

ـ كتاب: "أوجز خطاب في نسب عمر بن الخطاب"، لمؤلفه السيد بن أحمد بن إبراهيم، والكتاب يرد على افتراءات الشيعة الأمامية حول نسبه هو وبعض الصحابة رضي الله عنهم.

ـ كتاب: "أوجز المسالك في الإبانة عن أخذ القانون الفرنسي التي تحكم به مصر من الفقه المالكي، فإلى متى؟"، لمؤلفه أحمد علي طه ريان.

ـ كتاب: "أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب"، لمؤلفه أبو محمد الحسيني.

ـ كتاب: "أوجز العبارة في حكم الإشارة"، لمؤلفه الدكتور فهد بن عبد الرحمن المشعل، الذي يقول:

(كلما تأخر الزمان كثر البعد عن نور النبوة، واحتاج الناس إلى قبسات العلم وهدي الدين، وإن مما رأيت في هذا الزمان اختلاف الناس في مسألة وضع السبابة في التشهد في الصلاة، فمنهم من يضعها ولا يرفعها، ومنهم من يرفعها عند الشهادتين فحسب، ومنهم من يرفعها مستمرا، ومنهم من يحركها، ومنهم من لا يحركها، ويقع كثيرًا من الجدال في ذلك، فرغبت أن أكتب في هذا الموضوع بحثًا يجلي كل ذلك، ويبين أقوال العلماء واستدلالاتهم، وأقرب آرائهم إلى الحق إن شاء الله تعالى. وسميته "أوجز العبارة في أحكام الإشارة" وجمعت فيه كل أحكام الإلشارة بالسبابة في التشهد في الصلاة).

ـ كتاب: "أوجز العبارة بالجرح والتعديل بالإشارة"، لمؤلفه الدكتورة سعاد جعفر حمادي، ويعرض لمسألة مهمة من مسائل الجرح والتعديل، وهو ما يلحق بألفاظ الجرح والتعديل، ويقوم مقام بعضها.

ـ كتاب: "أوجز السير لخير البشر"، لمؤلفه أبي الحسين لأحمد بن فارس الرازي، وهذا الكتاب يعتبر رسالة وجيزة لعلها أوجز ما كتب في السيرة النبوية الشريفة، تم تأليفها في القرن الرابع الهجري بيد إمام من أئمة اللغة وعالم من علمائها الثقات.

ـ كتاب: "أوجز العبارات من كتاب الأخلاق للبنين وللبنات"، للمؤلّف الشّيخ عمر بن أحـمد بـارجاء.

ـ كتاب: "أوجز المسالك إلى موطأ مالك، مؤلفه شيخ المحدثين في العصر الحديث, وبقية السلف, العلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي المدني المتوفي سنة ۱۴۰۲ هجرية بالمدينة المنورة، قالوا عنه: هو شرح جامع للنفائس العلمية، والمباحث اللطيفة, والتحقيقات العجيبة, وهو بذلك من الكتب المستفيضة في شرح موطأ الإمام مالك, الذي يجدر بأن يعتبر موسوعة في علم الحديث, و مذهب الإمام مالك.

ـ كتاب: "النظم الأوجز فيما يهمز ولا يهمز"، لمؤلفه  الإمام محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني الأندلسي، في مئتي بيت تقريبًا.

ـ كتاب: "أوجز العبارات .. شرح أخصر المختصرات"، لمؤلفه محمد بن حامد القرني.

ـ كتاب: "أوجز المقال في اختصار لامية الأفعال"، لمؤلفه سعيد بن محمد المري:

             قالَ أبُو مُحَمّدٍ سَعِيدُ:
        وأفْضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْليمِ             وَبَعْدُ فَالتَّصْرِيفُ لِلأفْعالِ
          مُخْتَصِراً في ذلكَ اللاميّةْ             مَنْظُومَةٌ قَرِيبةُ الْمَنالِ    
          وما ذَكَرْتُهُ مِن اقْتباسِ               فأسْألُ اللهَ لها القَبولا   
               الْحَمْدُ للْفَعَّالِ ما يُرِيْدُ
         على النبيِّ المصطفى الكريمِ        نَظَمْتُ فيهِ أوجَزَ الْمَقالِ

أما من حيث المقالات، فجاءت العناوين كالتالي:

 "العربية أوجز عبارة و أخصر كتابة" بقلم محمد شوقي أمين بمجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1970م، ومقال: "مَسْكُوكَاتُ لُغَتِنَا أَوْجَزَتْ اللَفْظَ وَأَشْبَعَتْ المَعْنَى" بقلم عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ، بمكتبة صيد الفوائد، ومقال: "علي جمعة: العربية أوجز اللغات وبها 2 مليون كلمة" بقلم محمد شحتة بصحيفة صدى البلد القاهرية، ومقال: "رئيس جامعة الأزهر: لغة العرب أوجز لغات العالم وأبلغها" بقلم أحمد عبده بصحيفة الفتح القاهرية، وقد ذكرت صحيفة الجزيرة: (وقد لاحظنا أن نظم "عبيد ربه" من أوجز أنظم الأجرومية وأقربها إلى نص الكتاب الأصلي، وأنه منتشر اليوم لدى متعلمي النحو عبر الإنترنت ومسجل بأصوات متنوعة على اليوتيوب).


  انتهت سياحتنا مع "أوجز" ومع من "أوجز" من حيث هذا المسار اللغوي والأدبي والتاريخ، لتبدأ سياحتنا مع الكتاب الذي بين أيدينا، ومع هذه السياحة الفكرية في فروع العلم المختلفة، بغير إسهاب ممل، أو إيجاز مخل، يلتزم شرط الكتاب الأساسي من حيث الوسيلة والغاية؛ فأما وسيلته "أوجزت لك"، وغايته "لتقرأ أنت"، أي قراءة "ما أوجزته لك" حتى يكون السبيل إلى قراءة النص الأصل غير الموجز، لتتم عملية الثقافة من حيث الأخذ والرد، والتلاقح الفكري، والعطاء المعلوماتي.