الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

ذكريات سويسية .. ما أحلاها!







  يحكي هذه الذكريات الكاتب فاروق متولي، الملقب بـ "جبرتي السويس المعاصر"، في كتابه الذي يحمل نفس العنوان في طبعته الثانية التي واكبت احتفالات أهل السويس بعيدهم القومي في ذكرى انتصارهم على جيش العدو الصهيوني المتسلل لمدينتهم فتصدوا له وردوه مهزوما.

   جاء الكتاب فريدًا في إخراجه إذ تأخر الإهداء إلى الصفحة العاشرة منه التي أعقبها صفحة وثيقة تعارف بسيرة الكاتب وهو الأمر الذي يأتي متسقا مع نسق الحكي للذكريات التي حاول فيها الكاتب كسر الحاجز الوهمي بينه وبين قارئه، وهو ما نجح فيه فعلا حيث جاء أسلوبه غير متكلفا، وبعيدا عن التصنع أو التأنق، وكأنه ومن يحادثه في جلسة هادئة في إحدى النوادي.

    كما جاء الكتاب فريدًا في كونه لم يكتب في صدر طبعته الثانية عبارة "طبعة مزيدة ومنقحة"، كما لم يضم مقدمة الطبعة الثانية أو الإشارة إلى تاريخ الطبعة الأولى، وهذا لأن مقدمة بنت السويس الأستاذة أمل محمود جاءت وافية كافية لكل طبعة تالية للكتاب، فتقول: (والكاتب لا يحاول أن يكتب تاريخا كاملا للسويس، ولكنه يحاول أن يرسم خطوطًا عريضة لمدينة السويس وأحداثها وأماكنها وشخصياتها في حقبة ماضية من تاريخ السويس، يأخذكم فيها المؤلف بين دهاليز المدينة وشوارعها وحاراتها وأزقتها، يحكي لكم عنها وعن هويتها وشهرتها وثقافتها والعلامات البارزة في تاريخها).

   إذن فمنهج الكتاب لا يدعي الشمولية والإحاطة تجاه من سيتهمونه بإسقاط هذا الرمز أو نسيان ذكر هذا المكان، بل حدد الكاتب الفترة التاريخية التي يتناولها، وهو منهج علمي أكاديمي في تحديد الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب، وهذه الفترة تبدأ من نهاية حكم الملك فاروق وحتى تاريخنا المعاصر بل حتى إلى الأيام الجارية من طبعة الكتاب الأولى والثانية بالطبع.

   لقد نجح جبرتي السويس في انتقاء بعض الأماكن والرموز وسلط الأضواء عليها، غير أن الرجل بحق أضفى الحيوية في كل صفحات الكتاب؛ إذ لم يأتِ مملًا مَتحفيًا أو كأنه مرشدًا سياحيًا حافظًا للمعلومات التاريخية يصبها فوق رأس مستمعيه ويمضي، بل تميز بثقافة موسوعية تسمح له بسرد تاريخ الأثر تاريخيا ومعماريا ومن بناه ومن سكنه ومن استأجره ومن باعه ومن اشتراه ومن هدمه ومن بناه أبراجًا شاهقة تطمس معالم، وتمحو ذكريات.

   كما أضفى الكاتب الحيوية على موضوعاته في مقدماتها بما يحسب له ببراعة الاستهلال التي تجذب القارئ طواعية في التهام الكلمات دون ملل، ولم تفارق الحيوية ثنايا السطور داخل كل موضوع من السخرية الضاحكة أو المريرة، ومن الكلمات اللاذعات دون تسخيف أو تحقير أو ادعاء أو حشو  أو تكلف، بل يأتي كل هذا منسابا في نفس السياق، وكأنه ضم إلى كونه مؤرخا صفة الإصلاح الاجتماعي، كصوتٍ صارخ في قومه منذرًا من وبال محو الذكريات التاريخية الأثرية بهدمها، وعار نسيانهم للشخصيات السويسية المحترمة التي دفعت من مالها ومن دمها ولم تحظَ حتى بإطلاق شارع باسمها!

   لقد أهدى الكاتب للشباب قيمة من أهم القيم التي يحث عليها الدين والفكر السليم ألا وهي قيمة الوقت والحفاظ عليه حين حكى لهم عن وقته الذي أمضاه في جمع هذه المعلومات التاريخية والسهر عليها والسعي إليها من خلال المراجع التاريخية والتراكمات الذهنية في الوقت الذي يستمتع بمن هم في مثل سنه بالجلوس على المقاهي لكنه فعل الأجدى والأبقى، على أن الكتاب يحتوي العديد من القيم المتنوعة والهامة، والقضايا المتضمنة التي تصلح للنقاش والحوار.

إن هذا الكتاب لا يهم المواطن السويسي المعاصر فقط بل والأجيال القادمة من أبناء السويس وأبناء مصر أيضا، ذلك أن السويس مدينة كوزموبوليتانية "كونية" منذ نشأتها تضم كل أبناء مصر من الذين عملوا ويعملون فيها، ومن الذين يؤدون خدمتهم الوطنية في الجيش الثالث الميداني، ومن المهتمين بتاريخها الطويل والعريض ودراسته على مستويات عدة ولم لا وهي صانعة التاريخ وأرضها مسرحه في حقب تاريخية عديدة، وهنا تبرز أهمية الكتاب في معلوماته، وأسلوبه، وهو ما أطالب به الأستاذ فاروق متولي في نهاية مقالي أن لا تخرج الطبعة الثالثة إلا وقد زادها، أو يصدر كتبا على نفس المنوال، فالسويس تستحق.
    
   

الخميس، 11 أكتوبر 2018

كابتن غزالي.. شاعر المقاومة وذاكرة الوطن..


   

   
 


   صدر كتاب "كابتن غزالي.. شاعر المقاومة وذاكرة الوطن" للكاتب الصحفي والناقد الأدبي محمد حسن مصطفى في طبعته الثانية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر عام 2018م، وقد ضم ثلاثة فصول جاءت عناوينها متتالية على هذا النحو: "أوراق تجربة نضالية"، "الشعر والمقاومة"، "إحنا.. ولاد الأرض".

  جاء الكتاب في مجموع ما ضمه من فصول .. احتفالية احترافية مجدولة من الحب والفكر والموضوعية، لم ترتكز على مجرد لملمة أوراق مبعثرة من الذكريات والحكايا هنا وهناك، يبدو هذا جليًا منذ مفتتح الكتاب في تقدمة الدكتور علي السويسي أستاذ الفنون والعمارة الراحل والتي عنونها بـ "نِفْسي في وطن" وهي اقتباس من كلمات الشاعر الراحل كابتن غزالي والذي سرد من خلالها المسيرة الحياتية لغزالي الذي نزح والده القنائي الجذور إلى السويس ليسكن منطقة أقرب للبيئة الصعيدية في حي "الجناين" على أطراف المدينة، ثم حكى المشوار التعليمي والرياضي والعملي للكابتن وظروف تعرفه عليه، ثم عرج إلى اللحظة الفاصلة التي صنعت غزالي أو صنعها غزالي ليحفر في النهاية اسمه على صفحات النضال الوطني ومبدعي فنون المقاومة.  

  يقدم الأستاذ محمد حسن عبر المدخل أو الفصل الأول مبرراته ودوافعه التي قادته لدراسة تجربة "ولاد الأرض" من الناحيتين الذاتية والموضوعية، والتي من أهمها استعادة تلك المرحلة النضالية الفارقة في تاريخنا المصري الوطني المجيد، والتحام السوايسة مع منتوج هذه الفرقة بشكل صار يختزل التاريخ في لحظة امتدادية ماضية راهنة في آن تسمح باستدعائه في الغناء والترديد بحسب المواقف اليومية والموسمية في حياتهم وحياة السويس.

  كما أن المعايشة الحياتية للكاتب مع الكابتن غزالي، الراحل جسدًا والباقي ذكرًا، جعلت لزامًا عليه تخليد هذه التجربة تاريخًا يُعاش في عقول وقلوب القادمين، وهو دأبه ودأب أجيال من المثقفين الذين يتنافسون في نفس المضمار، حيث شَكَّلَ الموقع الجغرافي لهذه الفرقة أثره في نفوس متابعيها؛ فقد جسَّدت النضال فنًا ومكانا، لأنها لم تصدح بأغانيها خارج أسوار المدينة المحارِبة بل تحمل السلاح نهارًا ثم تعود إلى خندقها النضالي بزيها العسكري دلالة على معايشتها للوطن الذي تدافع عنه صباحًا وتغنيه مساءً، مما جعلها تصنع دائرة من ديمومة النضال الذي بدأ منها قاعدة له تتصل مع القمة "ناصر/ القائد"، ثم تنتشر أفقيًا مع الفرق الفنية الصديقة الناقلة لأغانيها في كل مصر، كما تتواصل مع أغلب المثقفين والفنانين والشعراء من مصر والوطن العربي.
     
   أبحر الكاتب في رحلة ماتعة بين الشعر والمقاومة ليضع كابتن غزالي وفرقة ولاد الأرض على خريطة الشعر المقاوم في العالم، حيث يرى أن تجربتها لا تقل عن تجارب مرت في تاريخ النضال الشعبي والثوري في دول أخرى توزعت بين قارات عديدة غير أنه تناول الثورة الفرنسية تحديدًا بإسهاب، خالقًا حالة من التوازي بين تجاوب الجنرال ديجول ومجموعة من الشعراء الفرنسيين مثل "بول إيلوار" الرائد السيريالي والإشتراكي "لويس أراغون"، وبين التجاوب الإيجابي بين الرئيس جمال عبد الناصر وفرقة ولاد الأرض، كما تعرَّض الكاتب للحركة النقدية تجاه شعر المقاومة عالميًا ومحليًا عبر دراسات نقدية وأدبية رصينة ضد من يرفضون وضع شعر المقاومة داخل النسق الإبداعي الشعري الراقي، غير أنه يحسم الجدل بانحيازه لهذا الشعر الذي يرى أن رسالته ووظيفته الفكرية والنضالية أهم وأرقى مليون مرة من الوظيفة الجمالية.

    حشد الكاتب في الفصل الثالث من كتابه موضوعات تجمع بين السياحة الأدبية والفنية الماتعة فيما أورده من نصوص، وبين القراءة التاريخية المتعمقة للأحداث التي دارت حولها؛ فقد سلط الضوء على الفرقة نفسها، وكيفية نشأتها فكرة انبثقت في عقل غزالي الذي أوجدها واقعا، ثم تاريخها الذي انشطر قسمين في مرحلة هامة وفاصلة في تاريخ مصر، والتواصل الإبداعي بين الفرقة وانعتاقها من تأليف كلماتها التي استدعتها من المخزون التراثي تارة، ومن محاولات الغزالي نفسه ومن معه من الشعراء تارة أخرى، إلى الإبداع الجديد لكبار الشعراء المصريين.

    كما تطرق الكاتب إلى أسلوب فرقة ولاد الأرض بكابتنها "غزالي" في اتخاذ المواقف الصادمة مع المتغيرات الاجتماعية التي شهدتها مصر بعد الحرب، ومحاولة شد المجتمع بأسره إلى اليقظة والانتباه والحذر ودق أجراس الخطر أن هناك على الناحية الأخرى من الوطن عدو ينتظر، كما جاءت لسعات السخرية من الفرقة في أغانيها متوازية مع البكاء المر على شهداء السويس.

   لقد أبدع الأستاذ محمد حسن مصطفى عملا أدبيا، تاريخيا، سياسيا، وطنيا، فكريا بامتياز.. على الرغم من عدد الصفحات التي لم تتجاوز المئة والأربعين صفحة من الحجم المتوسط، غير أنه عايش التجربة النضالية للفرقة الفارقة في تاريخ مصر والمقاومة في العالم، كما أن ما يشهد للرجل هو استيعابه أيضًا للحظة التاريخية التي حاول أن يستعيدها من بين أنياب الأيام حتى لا تفترسها من حاضرنا كما افترست لحظات مفصلية وألقتها في زاوية الإهمال فالنسيان، ولهذا حرص أن يضم كتابه نصوصًا لأغنياتٍ شدت بها فرقة ولاد الأرض مازالت تشع نورًا متوهجًا في ذاكرة الأجيال التي مضت والجيل الحالي آملا أن يسلموا شعلة "ولاد الأرض" التي توهجت من نور ونار كابتن غزالي فكرة انقدحت في ذهنه  ثم انطلقت في قلوب وعلى ألسنة الملايين .. ولن تموت..


السبت، 6 أكتوبر 2018

سَادَةُ السَّادَةْ ..






حين يستفزونك:

ـ أنت من عبيد البيادَةْ..

فلا تقل لهم:

ـ نعم، أنا من عبيد البيادَةْ!

بل قل:

ـ أنا عبد الله.. وهم عبادَهْ..

لكنهم حين..

يحمون الوطن..

ويبذلون الروح

قد صاروا سَادَةُ السَّادَةْ ..


الخميس، 4 أكتوبر 2018

قصة السويس كما رواها سادات غريب..








    صدر كتاب "قصة مدينة السويس" للكاتب سادات غريب في عام 2017م، وكان بمثابة الكتاب الأول الصادر عن جريدة "البيان السويسي" التي ترأسها وقدَّمت للكتاب الأستاذة نجاح محمد علي، والغلاف يوحي بأن الكتاب قراءة تاريخية بانورامية للسويس قبل النشأة وعبر العصور حتى اليوم، ولكن الكاتب كما أوضح الحدود المكانية لكتابه عن السويس حدد أيضًا الفترة الزمانية التي سيتناولها فأشار في الغلاف الداخلي إلى أنه سيتناول صفحات مجهولة من معركة 24 أكتوبر 1973م، على أنه بدأ من قبل تاريخ النكسة بأيام في الأول من يونيه 1967م كمدخل تأسيسي  يبني عليه الأحداث التي تلت بعد ذلك تباعا.

   يأخذ سادات غريب القارئ في جولة داخل مدينته وأثر النكسة عليها وعلى شعبها الذي عانى الويلات التي دعته لتفجير النكات الناقدة المريرة، ومع هذا لعق جراحه وقام بدوره الوطني تجاه الجنود الراجعة الجائعة وكيف وزع السوايسة عليهم الطعام والسجائر بل تنازل عمال المصانع عن وجباتهم لهم عن رضا، ثم ينقلنا الكاتب بسرعة داخل يوميات المحافظ ولقطة فلاش باك على الأيام التي سبقت النكسة ودوَّنها في أجندته من الأول من شهر يونيه وحتى الحادي عشر منه، وكيف تكاتف الشعب مع القيادة السياسية  إلى أن وقعت الهزيمة المُرة وتنحى رئيس الدولة وسانده الشعب رافضًا الموقف برمته ومطالبا باستعادة الأمل واستكمال المسيرة.

   كما تطور الموقف العسكري على جبهة القتال الذي بدأ تنفيذ مهمة واسعة تستهدف إنقاذ الجنود العالقين في صحراء سيناء خاصة وأن القوات الإسرائيلية تتقدم نحو شرق القناة، ويكون لهيئة قناة السويس برجالها ومعداتها شرف هذه المهمة التي تلتها على الفور مهمة تزامنت مع وقف القتال ألا وهي إعادة تنظيم وإعداد القوات المسلحة، وكانت البشائر في قيام حرب الاستنزاف واستعادة الثقة للجيش والشعب معا، وترويع العدو باستهداف مواقعه.

  يعود الكاتب بطريقة الفلاش باك الوثائقية والتي بدأها من زاوية رسمية مع محافظ المدينة، ليبدأها هذه المرة من مذكرات أحد أبطال منظمة سيناء العربية، وهي منظمة فدائية عربية أنشأتها مصر في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي، ألا وهو المرحوم الفدائي غريب محمد غريب الذي تعرَّض من خلال صفحات مذكراته لأحداث أول عملية فدائية ناجحة قام بها ونتج عنها أسر أول إسرائيليين وإفشال رفع علم العدو على القناة، وبعدها تم تكليفه بضم عناصر سويسية تصلح لمهمة الانخراط في العمل الفدائي، ثم ذكر بعض من عمليات حرب الاستنزاف التي قام بها أبطال المنظمة، وقسوة لحظات تهجير الأهالي عن السويس على من اضطرتهم ظروفهم لذلك ثم استدعتها الضرورة الملحة تحت وطأة الضربات الإسرائيلية على رؤوس المدنيين العزَّل.

   تصل أحداث الكتاب إلى النقطة الارتكازية المفصلية وهي انتصار السويس في الرابع والعشرين من أكتوبر التي أولاها الكاتب عناية خاصة منذ أن رصد دخول العدو والاستعداد للمواجهة معه، وحين عرض أحداث ذلك اليوم دقيقة بدقيقة، واستعرض كمائن أفراد منظمة سيناء في صباح ذلك اليوم أيضا، كما سجل يوميات السويس لمدة عام تبدأ من أكتوبر 1973 إلى أكتوبر عام 1974 وما فيها من أحداث هامة، ثم اختتم الكتاب بملحق يحوي سيرة ذاتية قصيرة ممعن الذين استشهدوا ومن رحلوا ومن بقوا على قيد الحياة من منظمة أبطال سيناء، وكذلك صورًا تذكارية لهم ولبعض الأحداث التي شهدتها السويس وهو ما أعطى زخمًا للكتاب.   

    تعود أهمية الكتاب لشخص الرواي "سادات غريب محمد" من كونه ليس فقط قد أرَّخ لهذه الفترة التاريخية المفصلية بأمانة ولكن لأنه نجل شيخ الفدائيين المرحوم غريب محمد غريب، ومن المهتمين برصد وتسجيل أحداث مدينة السويس، ومن وراء كتابه هدف أسمى يتجلى في تخليد ذكرى من قدموا حياتهم وأرواحهم وشبابهم فداءً للسويس مدينتهم، ولمصر وطنهم بل للعروبة كلها، وسجلا يحفظ تاريخهم المتصل بتاريخ مدينتهم في فترة تاريخية حاسمة وهامة، ورسالة إلى القادمين من أجيال قادمة من أبناء المدينة ومصر ليعرفوا ما قدمه أجدادهم من تضحيات كانت سببًا في استعادتهم لوطنهم وأن يعيشوا فيه أحرارًا بلا خوف من عدو، ويتخذونهم قدوة.. يتمثلون حياتهم وحماسهم وجهادهم ضد من يريدها بأذى أو مؤامرة أو حرب.

    كم أتمنى أن يواصل الكاتب والمؤرخ الوطني السويسي الغيور سادات غريب محمد غريب عرض مذكرات باقي أبطال نجمة سيناء، كما أتمنى أن يكون هناك آلية مصرية ترعي مثل هذه الكتابات وجمعها في مجلدات كالأعمال الكاملة عن السويس، وأن يقرر من خلالها مستخلصا عن تاريخ السويس يوزع على طلاب مدارس المدينة الصامدة من الأجيال الجديدة أو كقصة مقررة عليهم، لتترسخ في وجدانهم، وتعيها ذاكرتهم؛ فالوطنية والجهاد إرث وجينات تسري في الدم والروح، وهو ما انتقل إلى الكاتب من والده وسينتقل منه لأبنائه لتظل دائرة الوطنية متواصلة لا تعرف التوقف.  



الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

“القراءة”.. المكون الفكري للشباب.. عبد الناصر أنموذجًا…

   



   قد تسأل لماذا جمال عبد الناصر أنموذجا؟!.. لأن الندوة التي دُعيت للحديث فيها كانت عن الرجل بمناسبة ذكراه في مجموعة من الناس كان أكثرها من الشباب، وقد رأيتني ألغي ما كنت أعددته لأوجه سؤالي لهم ـ أي للشباب ـ عن آخر ما قرأوه، فكان إجابتهم من الإناث والذكور يتمحور حول قراءة الرواية، وكانت إجاباتهم عن سؤالي: لماذا قام عبد الناصر بالثورة؟ لأنه رأى الظلم، وإجابات دلت على أن ولا واحد منهم قرأ سيرة الرجل، ولو قراءة عابرة، بديلا لهم عن قراءة رواية!

لقد أدرك عبد الناصر في نهايات الصبا وبواكير الشباب أن القراءة هي أهم ما يحرص عليه في سنوات تكوينه، غير أنه لم يقع فيما يقع فيه بعض شباب اليوم من الانكباب على لون واحد من الثقافة يتعمقها ويهمل غيرها، وربما كانت هذه وتيرة أكثر أبناء جيله فيما قرأناه من سيرتهم الذاتية.
بمراجعة بسيطة للكتب التي انكب عليها عبد الناصر قارئا وأخذت اهتمامه سواء قبل التحاقه بالكلية الحربية أو بعدها، أو قبل قيامه بالثورة أو بعدها، نجد أنها تدور حول الدراسات الدينية والأدبية والتاريخية وسير المشاهير، والدراسات الاستراتيجية فيما بعد؛ فقد قرأ مبكرًا الكتاب الذي نشره وقدم له الزعيم مصطفى كامل “المدافعون عن الإسلام”، وكتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، وقرأ ما كتب الأستاذ أحمد أمين عن زعماء الإصلاح في العصر الحديث، وقرأ عن الثورة الفرنسية ورجالها وعن فولتير وجان جاك روسو في مرحلة التعليم الثانوي، ولم يحرم نفسه من القراءة في الرواية وخاصة المترجمة ومنها رواية “البؤساء” لفكتور هوجو ولم تكن عاطفية بقدر ما كانت تصب في أفكار ناصر عما يراه من ظلم اجتماعي واقع في مصر يتطلب التغيير وهو عين ما تحكيه الرواية عن الظلم الاجتماعي الحادث في فرنسا في الفترة التاريخية ما بين سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب.
كما قرأ الطالب عبد الناصر لتشارلز ديكنز “قصة مدينتين” التي تتناول أيضا الفترة التاريخية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية من خلال الظلم الاجتماعي الواقع من علية القوم الأرستقراطي الفرنسي على الطبقة العاملة المطحونة من الفرنسيين أيضا، وهي الرواية التي كان لها أكبر الأثر في تكوينه النفسي الداخلي وتصوره المستقبلي من حيث رفضه لإراقة للدماء طريقا لأنه يصعب حقنها، كما ذكر فيما بعد.
لم تكن فقط الرواية هي الجنس الأدبي الذي جذبه في عالم الأدب بل قرأ دواوين أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، مثلما قرأ كتب توفيق الحكيم وكتب عباس محمود العقاد بالتبادل بين كتبهما مع صديق له، وقد كان إنتاج الحكيم موزعا بين المسرح والرواية ومنها “عودة الروح” التي أثرت تأثيرا كبيرا في البنية الفكرية والرؤية الوطنية لعبد الناصر من حيث إثارتها للفكرة القومية، وضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم وقيادتهم للنضال، وهي الفكرة التي أخذت تنمو في داخله بحثا في نفسه أو مجتمعه عن ذلك القائد الشعبي العادل.
على أن المتتبع لقراءات ناصر سيرى أن العشوائية تغيب عنها، كما يغيب عنها استقطاب فكر واحد لعقله ونهمه الثقافي؛ فقد بات منفتحًا حتى في قراءة الجرائد على الصحف باختلاف نزعاتها ومشاربها في فترة كانت تموج الحياة السياسية في مصر بالحراك الحزبي النشط، وهي القراءات التي كانت تصب في نهر واحد ثائر داخله يتمحور حول الوطنية، والأفكار الراقية ذات القيمة التي ترتبط بالأعمال المجيدة، وهي الفترة التي كان ناصر لم يزل بعد في مرحلة ما قبل التحاقه بالكلية التي سيتطور فيها تكوينه الثقافي تبعا للتطور العمري والفكر والتعليمي والعقلي له، والخبرة التي اكتسبها من تعرفه على الجماعات السياسية، واشتراكه في المظاهرات، وتكوينه الثوري الوليد الذي رغم فورانه إلا أنه كان ينضجه على نار هادئة.

إن كل ما رأيناه وسمعناه وقرأناه وعايشناه عن الفترة الناصرية والتحولات التي أحدثتها في المجتمع المصري والمحيط العربي والأفريقي والعالمي أيضا، جاءت كلها انعكاسًا لما قرأه عبد الناصر في سنوات تكوينه، والتي لولا المساحة لأسهبنا في تناول ما قرأه في فترة الكلية الحربية وما بعدها، والتي تعطي انطباعًا للشباب الحاضر والقادم من أهمية القراءة أولا في بناء تكوينه الفكري، وأهمية التنوع الفكري والثقافي، وأهمية التخطيط الجيد لما يقرأ حفاظًا على الوقت والمجهود، والقراءة الواعية بالعقل والفهم ومناقشة الأفكار من رفض أو قبول، وهو ما يجب أن يعلمه ويفعله عند قراءة هذا المقال أنه ليس تمجيدًا لشخص عبد الناصر؛ فله ما له وعليه وما عليه، وسواءٌ اختلفتَ مع الرجل أو اتفقتَ معه فليس هناك ما يمنعك من استلهام تجربته في سنوات تكوينه الفكري فقد ثبت جدواها ونفعها في أمور كثيرة.