الاثنين، 29 أبريل 2019

مصطلحات الزحاف والعلة في "الميزان"..



   

 

    عمد الشاعر والعروضي الراحل محجوب موسى لتيسير العروض العربي إلى الزحافات والعلل وقد هاله أن مصطلحاتها القديمة تشكل ثمانية وعشرين مصطلحًا منها (16) علة و(12) زحافا، وقد ضمنها كتابه: "الميزان"، فأتى بمصطلحات أقل وتسميات جديدة منبتة الصلة تماما عن المصطلحات المعهودة في علم العروض؛ فقد لغى ثلثي الزحافات ونصف العلل عندما لغى العصب، والعقل، والإضمار، والوقص من الزحاف المفرد، وأبقى على الخبن، والطي، والقبض، والكف، وتلى ذلك بإلغاء الزحاف المزدوج كله.

كما أبقى على علل الزيادة، وهي: الترفيل، والتذييل، والتسبيغ، غير أنه لغى من علل النقص: الحذذ، الصلم، والقطف، والبتر، والقطع، والعلتين الشاذتين: الخرم والخزم، وأبقى على الحذف لفعولن فقط، والتشعيث عوضا عن القطع، والقصر، والوقف، والكسْف؛ فهو يرى أن الزحاف المزدوج كله لا خير فيه لأنه مفسد لموسيقى الشعر.

خيرًا فعل الرجل بما رآه يخفف العبء عن كاهل من يريد الولوج إلى كتابة الشعر العمودي وتعجزه كثرة مصطلحات الزحاف والعلل التي رصدتُها من مراجعة كتب ودراسات أكاديمية كثيرة وعبر أزمنة متباينة تبين بحق أنها أكبر وأكثر مشكلات تعلم عروض الشعر العربي.

إذن فقد انتهينا من الشق الأول في عنوان مقالتنا وعنينا به كتاب "الميزان" وما أحدثه صاحبه من تخفيض العدد في مصطلحات الزحاف والعلة، ويبقى المقصود الثاني، وهو مصطلحات الزحاف والعلل التي أحدثها العروضي محجوب موسى ومكانتها في "ميزان" النقد، ذلك أن الرجل لو توقف عند هذا لكان أمرا طيبا غير أنه لم يسكت حتى استحدث مصطلحات جديدة من عنده بالكلية، ويرى محجوب أنه من حقه ذلك باعتباره الحفيد لجده العظيم الخليل بن أحمد الفراهيدي لأنه يملك أيضا ما يسوغ له الإلغاء والإحلال بالجديد من المصطلحات إذا كانت الغاية هي تطوير العروض أو تحسينه بحيث يجعله سائغا عذبا بعد نفي مرارات تراكمت عليه عبر الأجيال والقرون.

وقد يقول قائل أنه كان لحازم القرطاجني ألفاظا ومصطلحات نقدية خاصة به لم يستعملها أحد من قبله، غير أن "المصطلح" هو عقد اتفاق بين الكاتب والقارئ وشفرة مشتركة يتمكنان من إقامة اتصال بينهما لا يكتنفه غموض أو لبس، ولعل فوضى المصطلح هو الداء العضال الذي يتهدد دراسة الأدب، كما يقول محمد بنلحسن في "الوعي المصطلحي في النقد العربي"، غير أن حازمًا نفسه لم يأتِ بمصطلحات مغايرة لمصطلحات الخليل، فقد تقبل مبدأ الزحاف والعلة في الوزن واتخذ له مصطلحا دالا عليه هو "التغيير" الذي يقال أنه استعاره من علم الموسيقى تأثرا منه بالشيخ الرئيس ابن سينا في تناوله للتغييرات التي تلحق بالإيقاع.

فما الذي استحدثه العروضي محجوب موسى من مصطلحات أو رموز ومؤثرات كما أسماها؟ لقد بدأ بالخبْن وأسماه "حَثْن" حيث جعل حرف "الحاء" رمزًا للـ "الحذف" أينما وقع، وحرف "الثاء" رمزًا للحرف "الثاني"، وحرف "النون" رمزًا للحرف "الساكن"، وهو يرى أن هذا الترتيب ذو فاعلية؛ فالحرف الأول يوضح وظيفة المصطلح، والحرف الثاني يُعيْن موضع هذه الوظيفة، والحرف الثالث يبيْن نوع هذا الموضع، كما أنه جعل المصطلح مكونا من ثلاثة أحرف ليسهل التعامل معه، وكذلك الالتزام بتوحيد نطقه على وزن واحد وهو "فَعْل"، وهكذا جاء "حَرْن" ليحل محل "طي" ووظيفته حذف الرابع الساكن، و"حَمْن" ليحل محل "قبض" ووظيفته حذف الخامس الساكن، 

و"حَبْن" ليحل محل "كف" ووظيفته حذف السابع الساكن، حيث أشار إلى بعض الرموز ومنها: "ز" وتعني زيادة، و "ت" تسكين، و "ف" سبب خفيف، و "و" وتد مجموع.

ومن رموزه "حَكْف" بديلا عن "قصر" ووظيفتها حذف متحرك السبب الخفيف، و"حَكْو" بديلا عن "تشعيث" ووظيفتها حذف متحرك من وتد مجموع، و"حَفُّ" بديلا عن "حذف" ووظيفتها حذف سبب خفيف، و"زَفْو" بديلا عن "ترفيل" ووظيفتها زيادة سبب خفيف على وتد مجموع، و"زَنْف" بديلا عن "تسبيغ" ووظيفتها زيادة ساكن على سبب خفيف، و"زَنْو" بديلا عن "تذييل" ووظيفتها زيادة ساكن على وتد مجموع. 

على الرغم من تطبيق هذه المصطلحات على أرض الواقع ونجاحها من خلال الذين تلقوها على يد الراحل محجوب موسى أو من التزموا بها من خلال كتابه، إلا أنني لم أستطع التجاوب معها فقد أحسست بقطيعة ابستمولوجية تراثية ستحدث فجوة كبيرة، ولا شك، بين من التزم بها وبين كتب العروض أو الدراسات النقدية الشعرية، ذلك أنها خالفت شرطا أساسيا وهو التوحيد المعياري أو القياسي للمصطلحات وتموضعها في كينونة التراث الشعري العربي.

فالعلم لا يدرك إلا من خلال مفاتيحه، ومفاتيحه هي المصطلحات، فينبغي أن تكون دقيقة، ومحددة، ومستقلة في دلالتها، لأن المصطلح لفظ موضوعي تواضع عليه المختصون، بقصد أدائه معينا معينا بدقة ووضوح شديدين، بحيث لا يقع أي لبس في ذهن القارئ أو السامع لسياق النص العلمي، كما لا حظت أن أغلب العروضيين اجتهدوا لإيجاد بعض المصطلحات وبخاصة وأن بعضها كان موجودا ومتداولا، فكثرت المترادفات بشك لافت للانتباه الشيء الذي أفقد المصطلح قدرته الدلالية وميزته الاصطلاحية في الغالب، كما يقول الدكتور مسلك ميمون.

ولذا فقد كان الحل فيما دعا إليه الدكتور مسلك في كتابه "مصطلحات العروض والقافية في لسان العرب" ودعا معه أصحاب التوحيد المعياري، عندما تبين لهم أن المصطلح العروضي لا يعتمد التوحيد المعياري، إلى تخصيص مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد، وهو الأمر الذي جعل جملة من المصطلحات لها أكثر من مرادف واحد، مما يؤدي إلى الغموض والالتباس، وكان من الأوفق تثبيت معاني المصطلحات عن طريق تعريفها، وتخصيص كل مفهوم بمصطلح واضح يتم اختياره بدقة من بين المترادفات الموجودة، وعند تعذر العثور على مصطلح مناسب يلزم هنا وضع مصطلح جديد للمفهوم من بين المترادفات الموجودة.

وأعتقد أنه لو كان العروضي محجوب موسى اكتفى بالزحافات والعلل التي استصفاها لطالب علم العروض ليكون سهلا لكان في هذا الغناء، والأفضل لو كان أبقاها بنفس أسمائها لتفادى أن يسبح كتاب "الميزان" في هذه الناحية وحيدا عن بقية أسراب الكتب والدراسات الشعرية والعروضية والنقدية، والتي جعلتني أعيد مصطلحات الزحاف والعلة إلى أصلها كي أستطيع التعامل معها من خلال الكتاب، وربما عانى غيري مثلي، ومن الصعب أن نقدم الدواء وفيه بعض الداء.


الاثنين، 22 أبريل 2019

"وراء الشمس"..أمنية!


 
 


   جاءت مسرحية "ورا الشمس" التي قدمتها فرقة مسرح قصر ثقافة السويس تجربة نوعية بحق وهي من تأليف السيد فهيم، وإخراج محمود عثمان الذي استطاع أن يقدم عرضا متماسكا حافظ فيه على روح النص ـ في أغلبه ـ وحواراته، غير أنه استطاع أن يعدد أكثر من شخصية للبطل الرئيسي للمسرحية حيث استفاد من هذا التعدد في ربط جيد برر دخول تلك الشخصيات مستشفى المجانين، وهو ما لم يكن موجودا في النص الأصلي للمسرحية.

  كما استطاع الاستفادة من دمج أكثر من شخصية، وهي: أبو زبيدة، والعسكري، والمحقق ليقوم بأدائهم ممثلا واحدا بطريقة بارعة في كل شخصية، وهو ما لم يكن في النص الأصلي، كما حاول المخرج الإفلات من طريقة الكاتب التي اعتمدت على الخروج من المشاهد قطعا ووصلا دون اللجوء إلى وقفات بينهم، وهو ما استعاض عنه المخرج بدخول وصلة غنائية تشبه "الفَرشة" أو "التقدمة" لما هو آت في القادم من الأحداث أو التعليق على الأحداث التي فاتت منها، غير أن هذه التقنية كان من الأفضل أن تكون مسجلة وبصوت أكثر تأثيرًا وبموسيقى تتعاون في إبراز روح الكلمات التي ضاعت لأسباب فنية ففقدت تأثيرها على المتلقي.

   جاء نص المسرحية محملا بالمضامين المجتمعية والاقتصادية والسياسية التي يشير بعضها إلى زمن كتابة المسرحية في 2010م، ومنها: البطالة التي تصلح للكتابة عنها في كل وقت ويتجاور معها من ناحية الانعكاس السلبي "المغالاة في المهور" التي هي حديث المجتمعات العربية لا المصرية وحدها، وقد نجح المخرج في تناول الجانب السياسي بأقل صراحة مما تناوله الكاتب حيث ترك مساحة من الفهم للجمهور لاستنباط الدولة المعنية بالحديث عنها في الحوار.

  عبر الكاتب عن مضمون رمزي بما "وراء الشمس" الذي يفهمه الكافة من العامة والمثقفين على السواء، وهو ما أفلح فيه الكاتب والمخرج معا والممثلين في قلب المعنى من حيث الترهيب من الذهاب إليه، إلى أن يصير أمنية تستحق أن يتوسل المواطن للمسئول بأن يرسله إليه، مما خلق مشهدا مرتبكا جعل المواطن حرًا في اختياره حين نضح عن جسده الخوف الدائم من فزاعة "ورا الشمس"، ليسجن المواطن المحقق الذي أفلس من إيجاد فزاعات أقوى ليخيف بها المواطن اليائس ويثنيه عن اختياره، وقد أفلح بطل المسرحية في التعبير طوال العرض عن أمنيته تلك.

  جاء قرص الشمس على غير المعتاد ديكورا لأن الصورة الذهنية عنه ليس وراء الشمس جغرافية بل رمزا ورمزا مشوشا، كما جاء أداء الممثلين متناغما فيما بينهم وفيما بين المخرج من تفاهمات انعكست بالإيجاب على جو المسرحية، كما نجح المخرج في إعداد النص وخاصة عندما عالج تعدد صور البطل في المحاكمة ليردها إلى الأصل بتحرير البطل وعودة المتهمين الآخرين وهما في الأصل (مجنون1) و (مجنون2)، كما تناغمت إدارة المسرح والإضاءة والملابس وتنفيذ الديكور في إنجاح هذا العمل النوعي ببراعة.

  إن هذه التجربة النوعية الفريدة التي استطاع فيها محمود عثمان أن يحافظ على جوهر النص ونقله من خلال الإعداد، والممثلين من خلال الأداء، البرهنة على وجود فنانين في الأقاليم لا يقلون مهنية ولا احترافية عن أولئك الذين يعملون في العاصمة، ولهذا فقد تفاعل الجمهور حضورا ومشاهدة وتصفيقا معهم تماما كأي مسرحية تجارية يشاهدونها، وقد أحسن المخرج حين تم تسجيل هذا العرض وهو ما كنت أناشد كل مخرجًا أقليميا ومنهم المخرج محمود عثمان إلى هذا الصنيع ليكون مرجعا، وهو ما يعني أن ما فاته العرض يستطيع أن يراه وأن من رآه يستطيع أن يستعيده، كما أنه يمثل تراثا فيما بعد يضاف لتاريخ مدينة السويس الفني والنضالي معا.