الخميس، 12 يناير 2023

المنعطف الأخير: جدلية الموت والفقر والغنى.. بقلم أسماء أبو بكر ـ الصحفية بجريدة المساء العربي..

 




    عرفت مسرحية: “المنعطف الأخير” للدكتور السيد إبراهيم أحمد طريقها إلى القارئ العربي عندما اختارتها ونشرتها الإعلامية الناقدة بشرى عمور، مؤسس ومدير موقع، ثم صدرت إلكترونيا عن “دار حروف منثورة للنشر الإليكتروني”، وفاز صاحبها بشهادة تقدير لفوزها لعامين متتالين بأنها من النصوص الأكثر تنزيلا على مستوى الوطن العربي، وتم نشرها على صفحات احد المواقع، ثم تم إصدارها مع مسرحية “العائد الذي ما عاد” للمؤلف أيضا ضمن سلسلة كتاب طيوف، وقد كتبت الكاتبة الكبيرة عزة أبو العز تقدمة نقدية عن المسرحيتين.

كما عرفت لمسرحية: “المنعطف الأخير” طريقها إلى المشاهد أو المتفرج العربي عندما اختارها المخرج الجزائري الكبير لطفي بن سبع، وقد قدمت على مسرح “باتنة” الجهوي من إخراج توفيق بن رابحي، ونجحت والحمد لله وكتبت عنها الصحافة الجزائرية، ثمتم اختيارها لتقدم في مهرجان جامعة صحار المسرحي في نسخته العاشرة الذي أقيم على خشبة مسرح الجامعة بمشاركة أربعة عروض مسرحية تنافست على جوائز المهرجان وحصل عرض المسرحية على جائزة لجنة التحكيم، وجائزة الإضاءة، وكتب عن العرض أستاذ السرديات والنقد الحديث بجامعة صحار الدكتور نضال الشمالي ضمن مقال له بعنوان: “مهرجان جامعة صحار للمسرح: الإدراك يسبق الطموح” قائلا: (وجاء العرض الثالث بعنوان “المنعطف الأخير”، ويعد من أكثر العروض إقناعًا في مهرجان صحار للمسرح، وهو نص كتبه السيد إبراهيم، يوازن بين الأداء والديكور والموسيقى والأحداث والحوار، وقد اعتمدت المسرحية من ألفها إلى يائها على شخصيتين فقط اشتغلا على حوار راقٍ بالفصحى لكنه طويل ومرهق قلة من الفنانين يستطيعوا أداءه بالشكل الذي تمّ.

وخلال الحواريّة المعقدة والمركّبة التي نشأت بين الشخصيتين الرئيسيتين جرى تمرير العديد من القضايا والثنانئيات الضدية الخلاقة، كثنائية المال والحياة، والضوء والظلام، والحياة والموت، والاستخفاف والجدية، والغنى والفقر.

وتتحدث مسرحية “المنعطف الأخير” عن أحد الفقراء الذين اضطروا للسطو على بيت أحد الأغنياء للبحث عن دراهم تعينه على صعوبة الحياة، لكنه يفاجؤ بقدوم صاحب البيت، فيفتضح أمره، فلا يجد مناصاً إلا أن يتقمص دور ملك الموت، وهو تقمّص له ما له وعليه ما عليه. المهم أن الحيلة تنطلي ابتداء على شخصية الغني، ويقتنع بأنها النهاية. وقد كان هذا التحوّل إلى تقمص شخصية غيبية مفصلاً مهماً في العمل عزّز من قيمة الحوار الماراثوني بينهما، فتعرّت الكثير من الحقائق القاسية التي نعيشها في مجتمعنا؛ بل وفي نفوسنا الضعيفة، أطلّ أدب الاعتراف جليّا لدى الغني كاشفاً عن تشوهات خطيرة في نفس الإنسان. وفي الفصل الأخير من المسرحيّة يُفتضح أمر اللص الفيلسوف فيعترف هو الآخر بما يعانيه.

ومما لفت انتباهي أن هذا النقاش لم يغيّر كثيرًا في سلوك الغنيّ مع أنه حاول أن يتصدق ببعض المال للص الفقير، لكن هذا الأخير رفض أن يأخذ المال لأنه مال مشبوه، وهنا تكمن المفارقة؛ إذ دخل هذه اللص قبل هنيهةٍ ليسرق من مال الغني، وإذا به يترفع عنه وعن ماله لتحوّل طارئ على نفسيته وقناعاته. ومما يؤخذ على هذه المسرحية عدم تناسب الموسيقى مع الأحداث، وحاجة الممثلين إلى تدريب على التلفظ الصحيح والمؤثر، إلا أنها تبقى من الأعمال المقنعة التي قدمت نمطا ثالثا من الصراع إلا وهو صراع الأفكار). انتهى كلام دكتور نضال.

وأخيرا عرف النص طريقه للمتفرج المصري مثلما عرف طريقه من قبل للمتفرج الجزائري والعماني، عندما اختاره الفنان أيمن مرجان المخرج والمعيد بالمعهد العالي للفنون المسرحية مشروعا للتخرج في مرحلة الدبلوم، وبموافقة وإشراف أستاذ دكتور سيد خاطر رئيس قسم التمثيل والاخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، وقد تم تقديمه بالفعل على خشبة مسرح المعهد.

لقد نجح الكاتب المسرحي دكتور السيد إبراهيم أحمد في أن يكتب نصا مسرحيا تسكنه الكثير من الأفكار والرؤى والاتجاهات، حاول أن يشد القارئ إلى قضايا حياتية حيوية، تتسم بالجدل سواء على المستوى الديني أو السياسي أو الاجتماعي، ولا تخلو من الأفكار الفلسفية التي صاغها باقتدار بدءا من الفكرة ثم الشخصيات واختلافاتها، ثم العقدة التي تفجر الصراع الذي يدور دوما بين “الغني الجامح والفقر الجائح” كما شبهه الكاتب في المسرحية، ثم انتقل لمناقشة الجدلية الأبدية حول تلك الأفكار الموروثة أو الإنسانية حول الحياة والموت، والحوار الذي تطرق في سلاسة ويسر في مناقشتها بين شخصيتي العمل، وقد نجح في نقلها للقارئ وكأن كل شخصية تمثل جانبا من كل إنسان، وأسئلة وجودية تأتي إجابتها من ذات الشخصية التي تنقل أحاسيسنا وأفكارنا عن الموت.

كما نجح المخرج أيمن مرجان في نقل أفكار الكاتب ومسرحيته بكل أمانة، وقد شكل المخرج والكاتب وحدهما فريق عمل من التناغم وتفهم النص وإبراز أهم ما فيه من قضايا عالمية إنسانية، لا يخلو منها مجتمع ولا يمكن أن تمر على أفراده دون مناقشتها أيضا في السر والعلن، ومثلما حاول الكاتب أن يتضمن نصه المسرحي بما يسمى بكوميديا الموقف، زاد أيضا المخرج بعضا منها حتى يخفف من الأفكار الجادة التي نقلها الحوار بين شخصيتي العرض، وهو حوار لا يمكن للقارئ أو المتفرج على السواء أن يمل منه؛ فقد جاء منضبطا في مفرداته، ووقفاته وسكناته وأسئلته وإجاباته.

لقد جاء تقديم العرض على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، وإذا كانت الإشارة قد سبقت إلى النص الذي يقترب من المسرح العالمي، لكاتبه دكتور السيد إبراهيم، وذكرت براعة ومهارة المخرج أيمن مرجان في تفهم النص وإبرازه في العرض، وقيادته لفريق عمل من أبناء وبنات المعهد على رأسهم الفنان صلاح المصري والفنان كريم عبد الكريم وهما من مثلا شخصيتي العرض، ومن قاما بمساعدة المخرج: إيمان أبو سنة وآن سليمان، ومن قامت بتصميم أزياء العرض روضة مرجان، كما كان للديكور دوره الذي جاء خادما للنص تماما وقام به سامح محمد، كما ساهمت الإضاءة في نجاح العرض وقامت بها آلاء رسلان، وقد كانت نور رامز هي المخرج المنفذ للعرض وأحد أدوات نجاحه، والواقع يشهد أن المسرحية نجحت في أن تربط المشاهدين في مقاعدهم وأنظارهم متجهة نحو خشبة المسرح بين ضحكات أثناء العرض ودموع في نهايته لتؤكد أن في مصر مسرح مازال، وأننا نمتلك من يكتب النص الجيد، والمخرج الجيد، والممثل الجيد.

الأربعاء، 11 يناير 2023

لويزة ناظور: "باريسية" .. سفيرة للعربية..

   



  تعتز الشاعرة لويزة ناظور بالعاصمة الفرنسية "باريس"؛ فقد ولدت وترعرعت وأقامت فيها، مثلما تفتخر بالجزائر حيث عاشت لفترة طويلة فيها، يعتبرها البعض بمثابة الجسر الذي يربط بين الضفتين: الأوروبية والأفريقية التي تتمثل في البعد القاري، والبعد اللغوي: "الفرنسية، والعربية والأمازيغية" حيث يشكلان أصولها وجذورها، مثلما جاء ميلادها باريسيا بصرخة جزائرية، فتكونت لبناتها الفكرية من أنوار باريس والحضارتين: العربية والإسلامية.


ربما لهذا المزيج تميزت "ناظور" بالحركة الدائمة، والتنقل من دولة إلى دولة، ومن مؤتمر إلى غيره، ومن حوار إلى حوار سواء صحفي أو تلفازي أو إذاعي، أو تُلقي عددا من قصائدها هنا أو هناك، لا تستغربها الأماكن ولا تستغرقها، كأنها طائر محلق يريد أن يحتضن العالم بين جناحيه؛ فهي محبة لكل البشر من كل الجنسيات، والديانات، والألوان، واللغات، واللهجات، لا تعرف الإثنية أو العرقية أو العنصرية، أو الاستعلاء بالجنس أو الدين أو الميلاد، لا يسعك إلا أن تصدقها دون أن تبحث عن المصداقية أو حيثيات ذلك الانجذاب القلبي لكلماتها التي تحسها طازجة بلون المحبة، زاهية ببريق البراءة، وحين تطالع صفحة وجهها، وتغوص في عينيها، وتستقبل بسمتها تدرك أن قسماتها بلاد مكسوة بخضرة التسامح، تنتشي عبير الرضا والتسليم بقضاء الله .. دون أن تراجع عقلك؛ فقد سلبت قلبك!


لذا فقد كانت تجربة لويزة ناظور منفتحة على ثقافتين، ومتألقة على الضفتين المتقابلتين للبحر الأبيض المتوسط اللتين تبادلتا الأدوار الحضارية على مر التاريخ، وهذا ملمح مهم في تجربتها الإبداعية التي نهلت من مصادر متنوعة تاريخيا وثقافيا، كما يقول الدكتور ضياء الجنابي، وهو ما يعول عليه الكاتب الجزائري: (لويزة لم تكن مضطرة لتمجيد اللغة العربية في عاصمة فرنسية لا يقبل فيها بسهولة من يجسدها اليوم وأكثر من أي وقت مضى لولا الوفاء لصلب معدنها الثقافي).


وتمارس "لويزة" الكتابة الصحفية باللغتين العربية والفرنسية؛ فهي مستشارة خبيرة في تنظيم وتفعيل العديد من التظاهرات الثقافية والفكرية الهامة، وعضو هيئة تحرير لمجلة "بانوراما الشرق" الناطقة بالفرنسية في باريس، كما تشغل رئيسة مكتب باريس للمنظمة العالمية للإبداع من أجل السلام، ومقرها لندن. كان المفروض أن يكون حديثي معها حوارا ألقي عليها الأسئلة وأترك لها وحدها عبء الأجوبة، غير أني بعد طول حديث شاق مع النفس رأيتُ أنه من الأفضل لشاعرتنا وللقارئ العربي والغربي، وللتاريخ أن أنهض بمهمة "جامع الدر المنثور" فيما قالوا عن "لويزا"، وقالت، وما سأقول هنا عنها، وذلك تيسيرا على القارئ وخدمة له للإلمام بنتف أو مختارات من لقاءاتها، وآرائها، أو آراء الغير فيها مما لن يتاح للقارئ الواحد الوقوف عليه مجتمعا؛ لأن هذه اللقاءات ـ كما أسلفت ـ مكتوبة أو مسموعة، أو مشَاهدة، حسب مقتضيات الحال، دون أن أنسى مهمتها التي لا تقف على أنها "الباريسية" المولد، والسفيرة للغتها العربية في أرجائها، بل لكونها "الباريسية" المولد والتفكير والتي تحمل رسالة التنوير، والتثوير، والتواصل بين بلد المولد، وبلد الجذور، أو بلد المنبع، وبلد المصب.


تعاطت لويزة ناظور الشعر ـ على الرغم من كونها خريجة كلية التجارة ـ منذ نعومة أظفارها حتى تشكّل عندها عالمها الخاص مصحوبًا بوعي شعري جميل تنبثق جذوره من عوالم الكلمات، وينحتها من حجر المعاني الصلدة. وقد صدر لها عام 2010 ديوان "الريشة والأسفار" عن دار "لامارتان" بباريس، باللغتين العربية والفرنسية وكانت هي صاحبة الترجمة، وفي عام 2014 صدر ديوان "أوديسا الكلمات" باللغتين أيضًا عن دار "بورداريك" في باريس، وقد زاوجت فيه الشعر بالرسم، وبعده أصدرت ديوان: "تنهض بي بعيدًا" عن كل من: دار "تيمقاد"، ومنشورات "الاختلاف" الجزائرية، و"ضفاف" اللبنانية.


كما كانت لها مشاركة في الكتاب الجماعي: "باريس كما يراها العرب" بنص: "مدينة تصدح بتراتيل الحب والتاريخ" وصدر الكتاب عام 2016 عن دار الفارابي، والدار نفسها أصدرت كتاب "الرسائل المغربية" عام 2019 الذي شاركت فيه ناظور بنص "فاس طيف الغائب الذي يملأ النفس إلى حد الفيضان". ثم توالت إصدارتها لاحقًا بديوان: "وهل يرقد الموج؟" الذي صدر عام 2020م في الأردن عن دار "أزمنة" قبل أن يصدر عن دار "أونيسيتي" بباريس أيضًا ديوانها الجديد: "الريشة وعناق الياسمين" هذه السنة.


كتب الشاعر والفنان اللبناني مارسيل خليفة عن الشاعرة أنها: (طفلة مشاغبة تبوح بأسرارها، تعزف كلاما عذبا أمام المساء، وترى عوالم كاملة على ضوء شمعة خافتة ثم تحملها رياح الجنوب إلى المنفى الشمالي)، وبعد أن قرأ الدكتور وحيد عبد المجيد. مدير مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة بالقاهرة، ديوان الشاعرة لويزة ناظور: "تنهض بي بعيدا"، كتب مقالا تحت عنوان: "تكتب كأنها ترسم"، واخترت قوله: (ما أجملها الروح التي تسري في هذا الديوان .. عذوبة إنسانية تقطر من كلمات قصائدها المتنوعة، ونظرة عميقة إلي الحياة والزمن والإنسان تتجلي فيها. تكتب كما لو أنها ترسم ... لغة الديوان غنية في كلماتها، ومعانيها. لكن قيمة هذه اللغة الثرية ليست في جمال النص فقط. اللغة، هنا، تبدو وعاء لروح تُحلق في سماء منطقتنا العربية البائسة. تشعر، للوهلة الأولى، بأنها تُحلق من بعيد، من حيث تقيم الشاعرة في باريس. لكنك تجدها شديدة القرب إلي أوجاع ناسها ومشاعرهم).


يقول عنها الكاتب الجزائري: “أنور بن مالك”: (إنها تكتب عن الحياة اليومية، عن الحب، ومشقة العيش…، حتى أن لشعرها عمقا روحانيا، فحين تقرؤه تظنُّ وكأنه دعاء ومناجاة“، ربما هي بذلك تماثل الشعر الصوفي الذي يعتبر منبعا للتعبير الصادق، وما يتميز به من إيجاز لفظي ودلالة رحبة، ولطالما عبر الشعر عن المشاعر الإنسانية ورسم ملامحها أكثر من أي نوع أدبي آخر).


ويحق لي أن أقول بعد أن عايشتُ رحلاتها المكوكية من القارة الأوروبية إلى القارتين: الآسيوية والإفريقية عبر بلدان غربية وعربية، أن هذه المقاتلة المسالمة، الناعمة المظهر، صخرية المخبر، لا تبغي الشهرة، ولا تسوِقُ نفسها عبر الآلة الإعلامية الرهيبة لتقول: "أنا هنا"، لكنها مشروع مؤسسي يقوم على ركائز واعية، ويستهدف تحقيق غايات صعبة الإدراك، يتطلب من صاحبتها الجهد الجهيد عبر التنقل، والمشاركات هنا وهناك بحيث أتعبت من يمضي وراءَها يجمع درها المنثور، ولعل تقدمة العلامة المستعرب والشاعر الفرنسي البارز "أندريه ميكيل" لديوانها: "إنها تجربة فنية شعرية عطرة بنكهة الياسمين"... ويقول: (عندما نقرأ قصائد لويزة ناظور، يطل من خلالها الوطن، والبحر، والاغتراب، والسعادة وخيبات الأمل وغيرها من مظاهر ملموسة تحيلنا على قدر منفرد، منفتح على أفق يكشف لنا من خلاله قصصًا عالمية تشبهنا، وما زالت في حالة ترحال دائم وكأنها بذلك ترفع روح التحدي عند كل مغامر).


ويأت تقدير لويزة لميكيل نابعا ليس من احتفائه بقصائدها فحسب بل من احتفائه بالعربية معشوقتها وخير حامل أمين لمكنونات إبداعها المتجدد في الأساس: (لا يسعني ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، الذي أقرته “اليونسكو”، سوى أن أوجه تحية اعتزاز وعرفان وإجلال للمستعرب الفرنسي الكبير أندريه ميكيل الذي كرس جل حياته لخدمة لغتنا العربية وإبراز دورها الحضاري الخلاق ومساهمتها في الإنتاج المعرفي العالمي).


ذلك أن أندريه ميكيل أغنى بدراساته الرصينة وكتاباته الأصيلة الثقافة العربية وأسهم في إثراء الحوار بين ضفتي المتوسط منذ حوالي نصف قرن، ولمن شاء أن يراجع سيرته، ومسيرته، ومؤلفاته.


ولعل من سيطالع أو طالع سيرتها وتتبع أخبارها سيجد العديد من مساهمات لويزة ناظور التي تتمثل في تنظيم وتفعيل العديد من التظاهرات الثقافية والفكرية في المؤسسات الثقافية الفرنسية، من أجل أن تبرز دومًا أوجه الثقافة العربية المتنوعة، والرائعة، كما لا تمل من حضور العديد من المؤتمرات العلمية الدولية العربية والفرنسية، ولا تكتفي بإلقاء قصائدها بل تشارك بتقديم البحوث في مجالات الإعلام والأدب والثقافة والتربية والاستثمار الثقافي، واللغة العربية والحوار بين الثقافات والأديان. وعلى الرغم من وداعتها وهدوئها إلا أنها تغضب من بعض المثقفين العرب لغيابهم عن حضور هذه المؤتمرات والفعاليات والنشاطات في العاصمة الفرنسية باريس، لكونها تعج بالمؤسسات الثقافية والهيئات الأدبية والشعرية.


ويكمن السبب في عتابها وغضبها أن هناك: (تطفل ثقافي لبعض هذه المؤسسات التي لا ترقى لمستوى التمثيل الثقافي العربي، فاللوم لا يقع عليها بل يقع على عاتق المؤسسات المخولة للتمثيل الثقافي والغائبة عن الساحة الثقافية، حيث كان يجب أن تكثف حضورها... الدول العربية بقدر ما تساهم في تمويل معهد العالم العربي، فهي غائبة ثقافيا أمام الجالية العربية التي تصبو للتواصل مع الوطن الأم ومع ثقافات الوطن الأم).


إن لويزة تعتز بلغتها العربية ودائما ما تعلن عبر حواراتها المكتوبة والمسموعة أن اللغة العربية: (لغة راقية ولها جمالياتها، تمنحنا كل التقنيات والأدوات لقول ما نريد قوله)، وحتى حين تكتب قصيدتها بالعربية وحدها أو بالفرنسية وحدها أو تترجمها من العربية إلى الفرنسية أو العكس فإنها ترى أنها إلى حدٍ ما قد: (وفقتُ في نقل الصورة الجمالية في القصيدة العربية، واستطعتُ أن أبث نوعًا من الروحية التي تلبسها قصيدتي باللغة العربية.. لكن تبقى قصيدتي أبلغ باللغة العربية من اللغة الفرنسية رغم ما تحمله من شاعرية وجمالية في هذه اللغة).


وتضيف: (اللغة العربية هي أقربُ إلى روحي.. محظوظون نحن بمسك خيوط اللغة العربية لضغط اللغة، ومَسكِ الخيال ووضعِه هكذا على الورقة حتّى نوصِل مرّة أُخرى صداها إلى القلوب؛ لأنّ الشِعر يخرُج من القلب ويصُبُّ في القلب. اللغة العربية تُعطينا كلّ هذه القُدرات، كلّ هذه الجماليات).


وتقول لبعض العرب الذين يعيشون في بلدانهم، ولا يحسنون كتابة لغتهم العربية "الأم" أو لا يحسنون نُطقها وقراءتها بدعوى أنهم يجيدون لغاتٍ غيرها: (واللهِ لو يعلمون كم هذه اللغة لها مكانتها في الغرب، حتّى في "باريس"، أصبحت هناك مدارِس تُدرِّس اللغة، أصبح هناك وعي لأهميّة اللغة. نحن نعرِف أنّ اللغات الثلاث التي ستبقى وستُقاوم العولمة هي الإنكليزية والصينية والعربية. اللغة العربية لها مكانتها).


امتزجت في كينونة لويزة وذاتها موجات عريضة من التسامح الحقيقي، الممزوج بالحب لبني البشر من كل جنس ولون ودين، لهذا فقد تجسدت القصيدة حتى صارتا معا كيانا واحدا، فعبر كلماتها تطير إلى فجاج الأرض ترشرش مواتها، وأحقادها، وخلافاتها بزخات عاطرات من تلافيف الروح، تنزل بردا وسلاما، لتوقظ في الإنسان إنسانيته، وتنقذه من أنانيته، وتنفخ في روحه من روحها سلاما: (يا زَمَنَ تَوَرُّمِ الضَمائرِ/ سَلاماً!/ سَلاماً على بَنِي البَشَرْ…/ سَلاماً على الذي قَرَأَ بِاسْمِ رَبِّـهِ/ الذي "عَلَّمَ بالقَلَمْ"/ "عَلَّمَهُ ما لَمْ يَعْلَمْ"…/ وعلى كُلِّ نبـيِّ/ حَطَّ في حيِّنا/ مُذْ نُفِخَ رُوحُ السَّلامِ/ في طِينَةِ أبِ البَشَرْ).


وعلى الرغم من اعتزازها بجزائريتها وعروبتها وعربيتها إلا أنها تعتز بباريس ولا تحسّ بالغربة فيها: (هناك حوار وتناغُم وفي ذات الوقت أُحاول دائِماً أن آخذ الأجمل والأنبل والأرقى وحتّى ما هو بين الضفتين، الثقافتين. أتكلّم هنا عن الثقافة الفرنسية التي في قلبها "باريس" مدينة الأنوار، مدينة الفِكر، مدينة تحقيق الأحلام .... الحبُّ حبلُ وثيقٌ يشدّني إلى هذه المدينة).


وتقول لويزة ناظور في وعن "باريس" موطن ميلادها: ("باريس" التي استحقّت ألقاباً كثيرة يحلو لي أن أُناديها بمدينة الحبّ، فالحبُّ وحده الذي استطاعت أن تبعثه في ذاتي من دون سابق إنذارٍ هو ما يجعلني أعتزُّ بها وأعود وأتصالحُ معها كلّما عاتبتها على ما تحملُ من مُفارقاتٍ قد تستفِزّني أحياناً إلّا أنَّ حبّي لها يشتدُّ كلّ مرة. كثيراً ما أتساءل وأنا أجوب شوارِع مدينة الجنّ والملائِكة التي تُحرِّضُ مُخيِّلتي من حينٍ إلى آخر، هلّ أنا الآن في رصيف الجنّ من شارع المدينة أم في الرصيف الآخر عند الملائِكة؟ أتساءل أيضاً:


من أيّ مكانٍ في هذه المدينة أطلق عميدُ الأدب العربي "طه حسين" عليها تسمية "عاصمة الجنّ والملائِكة" كي تبقى "باريس" إلى الأبد في ذاكرة الإنسان العربي؟ ربّما، عند اجتيازنا المقابر الباريسية التي تتوّقها الحدائِق نكون على شارع الجنّ مثلاً؟ أسأل نفسي بخُبثٍ ثمّ أضحكُ من نفسي على نفسي، فحتّى المقابر في "باريس" لها نصيبٌ من الجمال والإغراء حين تفتح لنا أبواب بوابات التاريخ والجمال على مصراعيها لنتأمل بإمعان إنجازات أبرز المشهورين في العالم من كُتّابٍ وموسيقيين وفلاسفة ورسّامين يرقدون تحت ضرائِح هياكل مُنجَزة بشكلٍ مُتميِّز وعريق في آنٍ واحِد).


لهذا حرصت لويزة أن تتواصل مع القارئ الفرنسي، فترجمتْ ما كتبتْ، لأنها ترى أن: (الفرنسية هي الجسر الذي يمد بيننا وبين القارئ الفرنسي ليعرف إبداعاتنا وثقافتنا العربية، وبما أنني أؤمن أن اللغة الأولى للإحساس وللشاعرية هي اللغة العربية كان لا بد أن أنقل تلك الشاعرية للقارئ الفرنسي، ليدرك ما يميزنا من جمالية وثراء لغوي وإبداعي).


على الرغم من أنها ترى أن: (جمالية اللغة العربية تجعل ولا أيّة ترجمة تُضاهي النصّ الجمالي للغة العربية)، لكنها لا تُنكِر أن: (ازدواجية اللغة التي ساعدتني في إحضار صور لغوية وجمالية موجودة في الأدب الفرنسي، فكل لغة لها حضورها وجماليتها.. فحين نمسك بخيوط الترجمة يساعدنا ذلك في استعارة الكثير من الصور الجمالية الموجودة باللغة الفرنسية، وحين نتقن الترجمة فبالتأكيد نتقن تلك الخيانة المحبذة).


لقد صدق قول الدكتور "مُعجب الزهراني"، مدير عام معهد العالم العربي في "باريس"، حين قال عن لويزة ناظور أنها: (هذه السيّدة عاشِقة للغة العربية وعشق اللغة هو شرط أساسي لكلّ مُبدِع سواء كان يتكلّم العربية منذ طفولته أي كانت لغته الأمّ، أو كان تعلّمها في فترة لاحقة كما حدث لـ "لويزة الناظور" الأمازيغية).


تعي الشاعرة والإعلامية والمترجمة لويزة الناظورة كونها باريسية المولد عربية الانتماء أن دورها الجوهري يكمن في أن تكون جسرا للتواصل بين الثقافتين: الفرنسية والعربية معا، وأن دورها في الترجمة هو من أهم الأدوار التي تلعبها من أجل فهم أفضل للعالم العربي المعاصر وتاريخه، حيث تساهم الترجمة في التنوع الثقافي للبشرية، كما تدعم الترويج للغة العربية كلغة حضارة وليست لغة إرهاب، والتوسع في تعليمها لغير الناطقين بها، وترى تعليمها لأبناء المهاجرين العرب ضرورة ملحة، من أجل أن تظل العربية كلغة جسرًا بين العربي المغترب ووطنه الأم.


ولذا تقول لويزا الناظور سفيرة لغتها العربية في الغرب: (لغتنا العربية، التي تميزت باستمراريتها التاريخية وقوة جمالياتها وتعابيرها، فيها كل المقومات لتجاوز العتبة الرقمية، لتمتطيها فرسًا يقفز إلى عصر ما بعد الحداثة بكل ما تقتضيه هذه الفترة من إرهاصات وتحولات قد يُستفاد منها أيضا في عموم الساحة الأوروبية).


الأحد، 8 يناير 2023

بين الشعر والحرب والتعليم” ..حوار مع الشاعر محمد الجعمي

 



  تطابق قسمات وجهه نبضات قلبه التي يحتويها مشروعه الشعري الذي يعرف العدالة الإبداعية في تعامله مع وطنه العربي بعواصمه، ومعالمه، وشعوبه، فمازال يقف صامدا أمام تقسيم وتقزيم وتهميش ربوع هذا الوطن، حاملا بين جنباته حنينه للوحدة العربية، إنه الشاعر والتربوي اليمني محمد ناصر شيخ الجعمي، الذي يعمل مستشارا بوزارة التربية والتعليم، ومدير لاتحاد المثقفين العرب بعدن، والذي صدر له العديد من الدواوين الشعرية المشتركة، منها ديوان: "شعراء اليمن"موسوعة الشعراء الألف، و"ديوان العرب" مع مجموعة من أبرز الشعراء في الوطن العربي، وديوان العراق في عيون الشعراء، وديوان فلسطين في عيون الشعراء، وديوان سوريا في عيون الشعراء، كما صدر له مؤخرا ديوان: "على بعد حلم".

   نال العديد من الجوائز والشهادات التقديرية من خلال اشتراكه في عدد من المسابقات الدولية، وله العديد من المشاركات القلمية عبر مقالات ودراسات بالمجلات والصحف، والإذاعات العربية،  ومع سيادته سيدور حوارنا حول عدد من المحاور الهامة في هذه المسيرة الإبداعية والحياتية الحافلة، فلنبدأ:

ـ أنتم واحد من الشعراء الذين مازالوا ينافحون ويتمسكون بالقصيدة العمودية العربية، وقد أبدعت فيها واشتهرت، وصببت في شطراتها موضوعات بالغة الأهمية. فنرجو إلقاء الضوء على مسيرتك الشعرية؟

شكرا لكم معالي الدكتور السيد إبراهيم الكاتب والأديب  الموسوعي على  هذا  الحوار الذي  يدار برصانة وعمق في الطرح لم نعد نجدها في الكثير من الحوارات في الوقت الراهن،  بالنسبة لمسيرتي الشعرية ، لقد نشأت في بيئة كانت تتنفس الشعر والأدب، والدي كان  شاعرًا  شعبيا معروفًا وشخصيةً قبليةً ومناضلًا ثوريًا مع المد الثوري القومي العربي التحرري آنذاك، وتعرض للسجن في مراحل كثيرة، وكان يتغزل في الوطن من  خلف قضبان السجن، كما كان له علاقات واسعة مع أعلام الأدب والفن في عدن بعد أن  ترك ولاية "دثينة" وهي موطنه الأصلي في جنوب اليمن، وقرر العيش في محافظة عدن بعد سنوات قضاها في السجن،  ومَازَالَ أثَرُ الندوب بَاقِياً على يديه وقدميه حتى بعد خروجه من السجن والعيش في عدن، وقد كون علاقات طيبة مع الصفوة من رجال الأدب والفن في محافظة عدن.

    على صعيد الشعر الفصيح ـ ربماـ اكتشفت نفسي بداية من خلال شغفي بالشعر العمودي تحديدا من خلال الإذاعة وما كنت أحصل عليه من أستاذي وابن عمي الأستاذ الراحل محمد سليمان شيخ؛ كونه كان أديبًا واسع الأفق ـ رحمه الله . وكنت أستفيد من الرباعيات الشعرية التي كان يختارها لكبار الشعراء ويقوم بتعليقها على الجدران،  وكذلك من المساجلات الشعرية  التي كانت تدار بيننا على الرغم من فارق السن بيننا؛ فقد كان يدرس في روسيا دراسته الجامعية، بينما أنا أدرس في الابتدائية..

وكذا من خلال مكتبة والدي التي تحوي بعض الإصدارات الأدبية المحدودة، وارتبطت بعدها بمجلة العربي الصادرة من دولة الكويت، وكنت من متابعي لغتنا الجميلة للأستاذ فاروق شوشة، وبعض الإصدارات الأدبية في الوطن العربي: كمجلة الدوحة القطرية، ومجلة الكويت الصادرة من الكويت.

كانت أول تجربة حقيقية لي في الشعر الفصيح:

أحب الربيع وسحر الربيع         وأعشق فيه الجمال البديع

أحب التغاريد فوق الغصون    وأعشق ضوء  الصباح الرفيع

مررت بمنزل الأستاذ الفنان والأديب الكبير محمد مرشد ناجي قبل المغرب ذات ليلة، وكان قد عاد من مشاركته في مهرجان صيف "أبها" عام 2002م بالسعودية، ومن الصدف الجميلة أن القصيدة التي شارك بها قد نالت جائزة أجمل نص، وأجمل لحن وأداء، كانت من كلمات والدي رحمه الله، فذهبت لزيارته وتهنئته بالفوز وقرأت له بعض القصائد الفصيحة التي كتبتها، وكان المرشدي أديبا كبيرا بحسب الدكتور المقالح فنال ما كتبته إعجاب العملاق المرشدي، وقال لي: (يا ولدي.. "الديك الفصيح من البيضة يصيح"، هنيئا لعمود الشعر العربي بك.

ـ لقد ذكرت الراحل محمد مرشد ناجي وقرنت ذكره باللحن والأداء، ومن ثَمَّ وجب تعريف القارئ العربي بشخصه؛ فهو المطرب والملحن والمؤرخ الموسيقي اليمني الشهير، بل يعد من أعلام الأغنية اليمنية المعاصرة، ومن أبرز من مد يد التجديد والتطوير والثراء فيها، لما يزيد عن ستين عام، ، وكان له دوره الكبير في إحياء ونشر التراث الغنائي اليمني في بلده اليمن والجزيرة العربية، عمل على توثيقه بعدد من الإصدارات والمؤلفات القيمة، وبالطبع أسعدك رأيه في إبداعكم؟

 بالطبع، فقد كان رأيه أجمل قلادة تعلق على صدري من قامة فنية وأدبية لا تعرف المجاملة البتة، بل هو على درجة من الصراحة، وحاشاه أن يحابي في أمور تتعلق بالأدب العربي واللغة العربية.

ـ واستمرت مسيرتكم الإبداعية؟

   نعم، كنت قبل ذلك أتابع بشغف أشعار نزار قباني ومنه تعرفت على دمشق وأحببتها من خلال قصائده وقصائد الشاعر الكبير سعيد عقل، ثم زرت دمشق وأنا في التاسعة عشرة من عمري، وتكررت زياراتي  للفيحاء وكتبت  بعد سنوات، قصيدة: "أشواق دمشقية"، وأختار منها:

لولا دمشقُ لمَا لاحَتْ مرفرفة                راياتنا  واحتَفَتْ بالنّوْرِ بلدانُ

دمشقُ من روعة الأزمان شاهدة              فكيف يجهل بالتاريخِ إنسانُ

ها جئتُ تَحملُني الأشّجَانُ منْ يمنٍ تلهو       على صَدْرهِ  فُرْسٌ  وعُرْبَانُ

وعلى جناح الشعر الذي طاب التحليق بفضل من الله في فضاءاته الساحرة،  سافرتُ على جناح المجاز إلى  الأندلس ودخلت قصر الحمراء وكتبت قصيدتي "أحلام أندلسية"، وتجولت بقصائدي في غرناطة وطليطلة وقشتالة:

هُنَا "الحمراءُ " فالتمعتْ دموع ٌ        ورَفرفَ  في  مآقِينَا  الغمامُ

هُنَا الحمراءُ  يا وَجَعَ الأغَانِي       يَفِيضُ  عُرُوبَةً  هَذَا   الرُّخَامُ

يشعُ ّالمَرْمَرُ  المُوضُون  نُورًا       كمَا  يَخْضَرُّ  بِالغَرْزِ  الوشَامُ

زهور الروض  وَشوَشَة السَّوَاقِي    تطوفُ بِهَا   البَلابِلُ  وَ اليَمَامُ

"أمازيغيةُ" العينين لاحتْ                يفوح ُ بِهَا القُرنفلُ والبشَامُ

ثم كان  سفري إلى القاهرة مصر العروبة التي تختصر فيها كل مشاعر العروبة والوطنية،  وعنما وقفت على كورنيش النيل استرجعت التاريخ وتذكرت أمير الشعراء وشاعر النيل حافظ إبراهيم وصلاح عبد الصبور  تذكرت طه حسين،  ونجيب محفوظ،  والمشايخ عبد الباسط عبد الصمد،  والمنشاوي،  والطبلاوي. وكوكب الشرق،  والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، تذكرت سعد زغلول ومصر عبد الناصر فكتبت قصيدتي:  "تَرْنِيْمةُ النِّيل"، التي اختار منها بعض الأبيات لضيق المقام، فبدأت بقولي:

عَانَقْتُ يَا مِصْرُ  فِيكِ الأهْلَ وَالوطَنَا    غَازَلتُ  صَنعَا وَأهْدَيْتُ المُنَى عَدَنَا

في مَيعَةِ الصُّبحِ كَانَ النِّيلُ مُبْتَسِماً       يُرَاقِصُ  النُّورَ  وَالأَموَاجَ وَ السُّفُنَا

    إلى أن قلت:

لإِنَّهَا  مِصْرُ  تُقصِي الظلمَ  سَطْوَتُهَا     في  كَفَّةِ  العدلِ كَمْ   مِيزَانُهَا  وَزَنَا

كُلُّ  الفُراتَاتِ تَهْفُو  وَهْيَ ظَامِئَةٌ          وَالنِّيلُ يا مِصرُ يَرْوِي الرُّوحَ والبَدَنَا

يا مِصْرُ كَمْ  شَعَّ في  أحْدَاقِنَا  قَمَرٌ         لَكِنَّهُ قَبْلَ أن يُهْدِي الضِّيَا شَطَنَا

عُرُوبةُ  الشِّعرِ  لَنْ  تَخْبُو   أَعِنَّتُهَا        كأنّهَا  عَارِضٌ   بالغيثِ   قَدْ هَتَنَا

 لقد  كان حزن العراق أوسع وأعمق من أن يرمم أو يلتئم، وكان العراق العظيم  يئن من بين أضلعي كلما رف طيف دجلة والفرات، وكنت أبكي كلما سمعتُ الشاعر محمد مهدي الجواهري يلقي قصائده بلهجته العراقية التي أحبها  فكتبت  بعد سنوات قصيدة":

قلبي فراتٌ عراقُ العُرْبِ نكهتهُ           وهذه الأرضُ من طيني ومن حجري

كَمْ أغرقوا في بحورِ الخوف ِذاكِرتي           وما نسيتُ تفاصيلي ولا صوري

للسومريين هذا اللحنُ  تعزفهُ                   نوارسُ الحبِّ والأنسامُ بِالسّحَرِ

للبابليين هذا العطرُ ترسلهُ                    حدائقُ الوردِ  بين الماء والشّجَرِ

ـ يُحسَب لشاعرنا محمد الجعمي أن قوميته العربية الشعرية امتدت أمواجها لتلامس "فلسطين" السليبة؟

    صدقتْ، لقد كانت فلسطين حاضرة دائما في ذاكرة الشعر العربي، وللأسف أن البعض يقلل من هذا الحضور المحوري لقضية العرب الأولى، وفي اعتقادي أن الشعر وهو ديوان العرب مازال يروي أيامهم ويدون أخبار أمجادهم وخيباتهم، وهذا يكفي حتى لا يتم تغييب الوعي الجمعي عن شباب هذه الأمة ومقدساتها وتراثها وثقافتها وقبل ذلك عقيدتها ودينها.. ومن قصائدي التي أحبها هذه القصيدة والتي اخترت لها عنوان: " مآذِن ُالقُدس"، وبطبيعة الحال سأنتقي منها بعض الأبيات:

يا (قدسُ) يا روعةَ التّاريخِ في دَمِنَا          إليكِ كم حَجَّ  هذا القلبُ واعْتَمَرَا

تَعِبْتُ أكْتُبُ  وَالأوجَاعُ  مَحْبَرَتِي         كَمْ أَرّقَ  الشعرُ في  مِحْرَابِهَا  الشُّعَرا

من أرض بلقيس  هذا الشوقُ تحمله            نسائمُ الليلِ  وَالغيمُ الذي عَبَرَا

ما بينَ (عَكَّا وَحَيفَا وَالخَلِيلِ) أنا            مسافرٌ كُلّمَا  طَالَ  النَّوَى  اصْطَبَرَا

قيثارتي  الآن ِ يا (بيسان)ُ في كدرٍ      باتت من الحُزْنِ يَقْظَى  تبعثُ الكَدَرَا

ـ بعد هذا التطواف الطيب في مسيرتكم الشعرية الرائعة، أريد التعرف على موقفك من قصيدة النثر أو التفعيلة، وشعر الهايكو؟ ومن وجهة نظركم: لماذا لجأ البعض إلى الإبداع فيها؟ هل صعوبة العروض ـ كما يدَّعون ـ  أم ماذا؟

    لقد غلب على شعري الطابع الرومنسي القومي الوطني العربي لأن من حق هذه الأمة التي تُصادر أفراحها، وتُسلب حريتها، وتُدَمر أوطانها بقرارات دولية وفي مؤتمرات للأمم التي لا تتحد إلا من أجل التنكيل بهذه الأمة التي من حقها علينا أن نهديها هذا الألق المُقفى والعمودي، حفاظًا على تراثها وخصوصيتها من التطاول،  والاندثار وعوامل الهدم  المختلفة.

   واللغة العربية من أكثر لغات العالم فَصاحة، وباتساع معجمها اللغوي، إضافة إلى الكلمات المترادفة والمتقابلة، كما يعد الأدب العربي من أكثر أنواع الأدب العالمي ثراءً، وذلك بتنوع أشكال التعبير الأدبي في كلّ جنس من الأجناس الأدبيّة المختلفة، ويشمل ذلك الشعر العربي المتمثل في القصيدة العمودية والتي يحضرني ما قاله عنها الشاعر العراقي الكبير الدكتور محمد حسين آل ياسين: (قصيدة العمود كانت وما زالت بخير، وستظلُ كذلك، ما دامت قد ولدت من رحم أمتها ولغتها وعاشت بين ظهراني أهلها أكثر من ستة عشر قرنا رغم اختلاف العصور والأجيال).

  أما قصيدة النثر فرأيي كرأي الكثير من الشعراء العرب فيها ينحصر في اعتراضي على التسمية؛ إذ أرى فيها إشكالا "أجناسيا"، ولا أماري في كونها نصاً أدبيا،  أما بالنسبة لقصيدة التفعيلة والتي تعتمد على البحور أحادية التفعيلة، كانت هناك تجارب جميلة للعديد من كبار الشعراء العرب، على الرغم من أن للعقاد رأي شديد فهو يتساءل:  (الشعر الحر يتحرر من إيه؟!  من الوزن والقافية .. معنى هذا أن الشعر يتحرر من الشعر).

بالنسبة لاعتراض البعض على القصيدة العمودية بحجج واهية، وسعي البعض للتغيير لا لشيء وإنما من اجل التشبه بلغات أخرى رغم أن تلك اللغات الأجنبية لها أسس وقواعد تختلف عن اللغة العربية،  وقد أسهب العقاد في حديثه المصور تلفزيونيا حول الشعر الحر، وهو يقصد قصيدة التفعيلة، وقد تناولتُ ذلك مفصلا في دراسة نقدية بعنوان: "بين الشعر والنثىر" ُفي عمودي الشهري بمجلة "أقلام عربية" اليمنية الصادرة من صنعاء، ومما ذكرته قولي في بيت شعر:

وأمة تقرأ القرآن في عجل       ولا تفرق بين الشعر والهذر..

    وأنا بالطبع لا أقصد بالهذر إلا كل كلام ليس له معنى، وكنت أتحدث إلى نفسي في حوار بين الشاعر والناقد، الذي أمثلهُ له معاتبًا ما قاله "باوند": (اعمل معولك في غرورك)، فتبسم ساخرًا، وقال: (ما لي أنا وباوند وأناشيده؟  هل نسيت أمير البيان المتنبي وهو يقول: أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر الناس جراها ويختصم).. فتبسمتُ ضاحكًا: (أنا أحب نرجسية العملاق "المتنبي" ولكني أحب بساطة وأناقة "درويش"، حين يقول: (أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وتكبر في الطفولة يومًا على صدر يوم وأعشق عمري لأني إذا متّ، أخجل من دمع أمي!).. وأحب "نزار"، حين يقول: (صباحُ الخيرِ يا حلوة... صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة... مضى عامان يا أمّي على الولدِ الذي أبحر برحلتهِ الخرافيّة، وخبّأَ في حقائبهِ صباحَ بلادهِ الأخضر وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر، وخبّأ في ملابسهِ طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر)..

   ثم أحلق مع "السيّاب" حين ينساب في ملحمته ورائعته الشهيرة نشودة المطر":

سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "

أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...

يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "

فيرجعُ الصَّدَى

كأنَّـهُ النشيجْ :

" يا خليجْ

يا واهبَ المحارِ والردى . "

وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،

عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار

وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظلّ يشرب الردى

من لُجَّـة الخليج والقرار ،

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ

من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .

وأسمعُ الصَّدَى

يرنُّ في الخليج

" مطر .

مطر ..

مطر ...

في كلِّ قطرةٍ من المطرْ

حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد

أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ

في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "

وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..

كنت أقرأ في كتاب: "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" للأديب السوداني عبدالله الطيب ـ رحمه الله ـ  وقد ذكر أن شكوى النقاد والشعراء المعاصرين من نظام القافية أشدُّ وأمرّ؛ُ إذ القافية في نظرهم قيدٌ ثقيلٌ يمنع من التعبير الصحيح ويشغل الشاعر عن الاسترسال في معانيه بالتفتيش عن أحرف الروي المناسبة .

هذه الحجة ضعيفة جدًا لأن اللغة العربية واسعة جدا، وبنيتها تساعد على كثرة القوافي؛ إذ فيها أكثر من ستين ألف أصلٍ والأصول لها نظائر عدة ينتهي بمثل الحرف الذي ينتهي به ذلك الأصل نحو: (ضرب، كتبَ، طربَ، سلبَ، هرب، ٌ تعبٌ، اربٌ، راغب،) وهلمَّ ما جرَّا ونحو: (هدم، ولثم، وإرم، وبرمٌ، علمٌ، الم). ثم أن هذه الأصول فيها نحو عشرين ألف أصل، ذي فروع ومشتقات تنتهي بها أصولها في الغالب نحو: (كاتب، وكتب، وكتّب، وكتائب، وسلبَ، وسليب، وسالب، وأسلاب) وما لا ينتهي بحروف أصولها نحو: (فرحان من فرح، وحسناء من حسن)، يقع في صيغ تعين على كثرة القوافي كباب فعلان وفعلاء وفعلن كصيفن ولا تنسى الضمائر فإن لها في تيسير القوافي أثرًا عظيمًا. هذا الكتاب قال عنه الدكتور طه حسين: (هذا الكتاب ممتعٌ إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث).

ـ عرف الشارع العربي الشعري الشاعر عبد العزيز المقالح، ثم البردوني، فمن الذي تراه من علامات الشعر اليمني المعاصر الذي كان بقامتهما ولم ينل شهرتهما؟

أعتقد بأن هناك أصوات شعرية عديدة وأجيال من العمالقة الذي يحتفي بهم الإبداع الشعري بكل أطيافه من العمود والتفعيلة والنثر، لقد سبق وأن وجه هذا السؤال في مسامرة صيفية لصديق البردوني،  والمقالح الشاعر الكبير عبد الودود سيف فعلق قائلا:  (ثمة فرصة متاحة لي قبل الإجابة وهو الاعتذار عن الإجابة لإعفاء نفسي من أية مسؤلية وسوء لبس أو سوء فهم. ولكنني حقا عليَّ أن أستعيد السؤال المطروح لأنظر له من زاويتي أيضا ماذا يعني؟

البردوني في نظري شاعر اليمن في كل العصور.. لولا متاهة التجديد التي خاضها بدون تأصيل عميق بمتطلباتها. المقالح قيمته العظمى والتي لا ينازعه فيها أحد عظمته في تأسيس جيل واسع من الأبناء والأحفاد الأكاديميين من موقعه الجامعي، وعبد الودود سيف متذوق فطن لمعاني حواس الإبداع وقد وضع لبنة النقد اليمني المعاصر.. وتأسيس حاسة التطلع للتجديد. محمد حسين هيثم قلعة راسخة من الشعرية والنزوع إلى التحديث لو استبان جيدًا أعماق مملكة الرمز. ومحمد سعيد جرادة وإبراهيم الحضراني ومحمد لقمان غصون في دوحة الابداع الخارقة. أما لطفي جعفر أمان فله حضور رومانسي مبكر متميز بخصوصيته عن رومانسية لقمان ومحمد عبده غانم وإبراهيم الحضراني.

  وأخيرا محمد الجعمي وجيله وهم كثيرون متعددون سنابل ذهبية في حقل الشعر اليمني.. بلون البردوني غالبا).

        ثم واصل الحديث قائلا: (قسما بمن مدها في كل اتجاهاتها أنني باستثناء عدم اتضاح الصورة لي الآن لجيل الشباب؛ فقد قلت ماقلت عن ترو وإطالة نظر وتمعن. وأنني فوق ذلك راض بحكم التاريخ والمؤرخين على ما قد يصدر في حقي من حكم على تقلد مسؤلية هذه الشهادة. الاستثناء أن جيل الأستاذ محمد الجعمي مليء بكثير مما لم تتضح صورته. والمعيب حقا في هذا التصنيف أن يتم وضع مثل محمد الجعمي الممتليء بالتراث والتاريخ في وضع العديدين من زملائه).

بالطبع أنا لم أكن أحب أن يرد أسمي وجيلي في هذه الشهادة طالما أن ملامح جيلنا لم تتضح بعد، وربما تسرع الأستاذ الشاعر والناقد الكبير في هذه الشهادة كما أنني أرى أن هناك من هم أقدر مني في تجربتهم الشعرية ومسيرتهم الإبداعية.

ـ يجهل الشارع العربي ما يدور على أرض سوريا وليبيا والعراق، وبالتبعية يجهلون ما يدور منذ سنوات في اليمن. وبصفتكم يمني الجنسية، وتعيش رحاها حتى الآن، هل تفسر لنا في جلاء حقيقة ما يجري؟ وما موقف الشعب اليمني من هذه الحرب؟

الحروب التي تدار في اليمن  كما يفسرها أهل السياسة ترجع للموقع الجغرافي المهم لليمن على الموانئ الدولية والثروة النفطية التي ما زالت تحت كثبان الرمال، يقال بأن هذه الأسباب الرئيسة لكل هذه الحروب العبثية والتي تلت الربيع العربي والفوضى الخلاقة التي جلبت الدمار والخراب للوطن العربي، فلم يعرف العرب في تاريخهم كارثة أشد من الربيع العربي؛ فقد كانت نتائجه كارثية ، وأهمها: غياب الدولة، والذي أسهم في انحدار منظومة الأخلاق العامة وتدني مستوى التعليم واتساع رقعة الفقر والنزوح  والتشرد، وظواهر أخرى كالبلطجة والتنطع مع انتشار الكراهية والغل في المجتمعات العربية، وبين النخب الحاكمة والمعارضة في الوطن العربي كل ذلك كان كفيلا بخراب الديار، وهناك بلدان عربية يتم تقسيمها وبكل بجاحة وبموافقة النخب في الحكم والمعارضة وكأن الوطنية الكلمة والمفردة قد خَفَتَ بريقها في هذا الزمن ولم يعد يروج لها لا في  وسائل الإعلام الرسمية ولا في صحف المعارضة.

ـ هل يرى الشاعر الجعمي أن إصدار الشعراء لدواوينهم على فترة من الزمن، لا يعدو أن يكون تكديسا أو تجميعا لقصائده في صفحات، أم يجب أن تكون قصائده مواكبة لنضوجه السياسي والمعرفي والحياتي، بحيث يكون خط إبداعه تصاعديا، ويمكن تحقيبه لدراسته؟

هذا يعتمد على الشاعر إن  كان يحمل رسالة .. فقبل التفكير في  جمع قصائده للطبع  عليه أن يكون على قدر كبير من الذكاء والمسؤلية؛ فالشاعر يرصد الأحداث بدقة لا يدركها إلا الناقد الحصيف،  ويواكب الأحداث حتى  تنضج  تجربته، فكلما ازدادت تجربته الشعرية عمقا ودراية؛ كلما كان خط إبداعه تصاعديا  والعكس صحيح.

ـ يلمح القارئ لقصائدكم تلك العاطفة الجياشة نحو ربوع وطنكم العربي، وقصائدكم الدينية الرائعة. ومن المؤكد أن خلفهما موقف وثقافة، يا حبذا لو أطلعتنا عليها؟

تعلقي بالشعر العربي جاء مواكبا لأيام الصبا، بحكم تربيتي في عائلة محبة للوطن،  ولهذه الأمة الإسلامية والعربية المبدعة في لغتها وتقاليدها وعقيدتها في سيرة نبيها ﷺ، وفي الوسطية التي كانت تمثلها هذه الأمة  في عدلها  وإنسانيتها وهي  تحمل مشاعل الحب والنور لكل بني الإنسان في هذا العالم.

كان شغفي بالقصيدة العمودية ليس له حدود، وكنت استمع للإذاعة وللبرامج الثقافية من القسم العربي للاذاعة البريطانية في لندن، وإذاعة دولة الكويت وباقي الاذاعات العربية. من هذه المنابر تعرفت على  نزار قباني ودرويش والجواهري وبشارة الخوري، لذا كنت أردد مع سعيد عقل: "غنيتُ مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعي عيدا"، وبصوت السيدة فيروز أيضا كنت أزهو:

قرأتُ مجدَكِ في قلبي وفي الكُتُـبِ     شَـآمُ ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ

                إذا على بَـرَدَى حَـوْرٌ تأهَّل بي        أحسسْتُ أعلامَكِ اختالتْ على الشّهُبِ

كنت أختال مع عمود الشعر العربي، وكم كان يطربني نزار وعمر أبو ريشة  وأمير الشعراء أحمد شوقي وهو  يُعدّ صاحب الريادة في النهضة الأدبية والفنية في مصر :

وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ                 نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي

ثم نهج البردة وغيرها من روائع الشعر التي  كان لها التأثير الكبير في ميولي إلى كتابة الشعر برومانسية وطنية ـ إذا جاز التعبير ـ لقد   كان بشارة الخوري  يقف في طليعة الشعراء الذين عرفتهم من خلال أثير الإذاعة:

أين من مقلتي الكرى يا ظلام   أنصف الليل والخليون ناموا

‏قصيدة "يا نسيم الدجى" لبشارة الخوري 1885-1968 من أشهر من تغنى المطربون بقصائده غنتها فيروز في حفل تنصيبه أميراً للشعراء ببيروت1961، وما زلتُ أطرب لمحمد مرشد ناجي فنان اليمن الكبير وهو يصدح بكلمات الشاعر  لطفي جعفر أمان:

يا لنهر النيل يروي كل قلب عربي    فأملاي كأسك من فيض دمائي واشربي

يا بلادي .. يا بلادي يا بلاد العرب!

 أما بالنسبة للقصائد الدينية، فلم أنشر إلا القليل،  كتبت نبي الهدى ﷺ، شعرت بإن الشعر يخونني،  من أين يبتدي الفقير إلى  ربه  وهو يطمح أن يعطر قصائده بعطر النبوة:

هذا الرّبَيعُ الذي تَزْهو خَمَائِلُه ُ                 بالخَيْرِ والبِشْرِ بالآمالِ والنّعَمِ

مِنْ غيمةٍ من حياضِ الخُلْدِ نَاضحَة         بالمِسْكِ جَادَ بِهَا ذُوْ الجُوْدِ والكَرَمِ

هذا اليتيمُ الذي دانتْ لحكمته              كل ُّالطواغيتِ مِنْ عُرْبٍ ومِنْ عَجَمِ

صلّى عليكَ إله الكونِ ما عبقت              قصائدُ الشّعْرِ بِالأخلاقِ والقيمِ

ـ كيف يرى الشاعر الجعمي مستقبل الشعر العربي في ظل تراجع مهارات تعلم اللغة العربية بين أبنائها؟ وما الحلول التي تقترحها للمحافظة على هويتنا اللغوية من الضياع والذوبان؟

مستقبل الشعر العربي ومستقبل الأمة العربية، مرتبطان باللغة العربية.. ماذا يتعلم الطفل في سنوات عمره الأولى حتى يتشرب اللغة والثقافة العربية والإسلامية؟ ما مدى مخزونه اللغوي؟ تذكر                           دراسة أجريت في فرنسا أو بريطانيا ـ بحسب الأديبة الكويتية "بثينة العيسى" ـ أنه عندما وصل العرب إلى الأندلس  وجدوا أن المخزون اللغوي  لدى الطفل في تلك الفترة وهو في السابعة من عمره لا يقل عن ستين ألف كلمة نتيجة حفظه للقرآن الكريم، فكانت الفكرة لمحاربة هذا التميز المعرفي اللغوي الذي يستطيع الطفل من خلاله تشرب كافة العلوم  بكل ثقة ومقدرة لذلك تم اقتراح  إنشاء رياض الأطفال ومنع تعلم  قراءة وحفظ القرآن  وادخال مواد الرسم والتلوين واللعب وبذلك أصبح المخزون اللغوي عند الطفل أقل من ثلاثة ألف كلمة وحتى الكلمات العربية التي يتعلمها الطفل في رياض الأطفال والمدرسة عند عودته للبيت تواجه بكلمات عامية  فتتبخر المعلومة التي حصل عليها من المدرسة نتيجة لهجة عامية يستخدمها الأهل مع اطفالهم في البيوت..

بالنسبة لمستقبل الشعر أعتقد أن قصيدة العمود قادرة على الثبات والتطور المستمر وما تشهده  اليوم في ظل انتشار وسائل التواصل من انتشار للشعر العمودي وهو الشعر العربي وتألق العديد من الأصوات الشعرية العربية ماهو إلا دليل على مستقبل الشعر فالقصيد العمودية  التي  عاشت بين ظهراني أهلها أكثر من ستة عشر قرنا رغم اختلاف العصور والأجيال قادرة على الأستمرار وبقوة في المستقبل بمشيئة الله ثم بالأهتمام بالشعر والشعراء،  فمن المؤسف ان يكون للراقصة أو الفنان والفنانة مبالغ خرافية مقابل ساعات قليلة على شاشات التلفزة بينما لا يمنح الشاعر شيئا يذكر مقابل ظهوره على الشاشات ورفده للمكتبة العربية بالدواوين الشعرية والنقدية ،ويسري ذلك على الأدب ولا نعلم هل أصابتنا حرفة الأدب كما يقال في الموروث الأدبي العربي.

ـ كيف قرأ الإنسان العربي المتمثل في الشاعر محمد الجعمي، مباريات المنتخب المغربي، وانتصاراته، وما أظهره العرب من مشاعر مكبوتة؟

  على أثر  فوز  المنتخب المغربي  البارحة  ومشاعر الفرح المحبوسة والمكبوتة في العالم العربي التي تجلت في طريقة التعبير عن النصر،  بطرق مختلفة تتجاوز الفرحة بنتيجة اتصار منتخب عربي  في مباراة لكرة القدم وأن كانت في  بطولة كبطولة "كأس العالم".

لقد قال أحد المشجعين العرب معلقا: (فتحنا الأندلس ورب الكعبة! بينما شبه أحد الشعراء حارس المنتخب المغربي  بـــ  "عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية." المعروف بلقب (صقر قريش وعبد الرحمن الداخل).

تذكرتُ السقوط الأخلاقي للغرب في كأس العالم ممثلا في "المنتخب الألماني أنموذجا"، وبالمقابل الرقي الأخلاقي والإنساني للعرب "دولة قطر أنموذجا".

  لقد عادت بي الذاكرة لكتاب قديم بعنوان: "شمس العرب تسطع على الغرب" لمؤلفته "سيجريد هونكة"،  فوجدت هذه الأقتباسات من الكتاب:

(لا إكراه في الدين، تلك هي كلمة القرآن المُلزِمة، فلم يكن الهدف أو المغزى للفتوحات العربية نشر الدين الإسلامي، وإنما بسط سلطان الله في أرضه، فكان للنصراني أن يظل نصرانياً، ولليهودي أن يظل يهوديا كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحد أن يؤدوا شعائر دينهم، ولم يكن أحد لينزل أي أذى أو ضرر بأحبارهم أو قساوستهم ومراجعهم وصوامعهم وكنائسهم).

(إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حداً قريب من الكمال، وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلثات الدائرية، وبصرياتهم الدقيقة، كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبة إلى مكانة، مكنتها عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا).

  يقال إن التمحور حول الذات هي حالة يعيشها الغرب  عبر العصو  من خلال نفي المختلف من الشعوب والأمم والديانات والثقافات المختلفة، بينما نحن المسلمين  نعتقد بأن الاختلاف من سنن الكون قال تعالى:

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود:118]. الآخر هو ثقافة ونظرة الغرب التي تتصف بالتعالي والكبر، ولا تعترف بالشراكة الإنسانية ولو تشدق الغرب بشعارات حقوق الإنسان والعدل  والمساواة، والتي انحدرت بمنظومة الأخلاق العامة إلى الهاوية والمتمثل في هذا السقوط الأخلاقي للغرب في الدفاع المستميت عن المطالبة بحقوق المثليين، وما في ذلك من تجاوز لكل القيم والأعراف الإنسانية والأديان السماويةـ في حين تنظر هذه الدول إلى الفضيلة والعادات والقيم الإنسانية النبيلة بنظرة غير منصفة ويتم إدراج ذلك ضمن الإرهاب الفكري الذي يخالف حقوق الإنسان، ويقيد من الحريات العامة أو يكمم الأفواه كما فعلت المانيا ومنتخبها المشارك في كاس العالم في قطر.