الاثنين، 27 أغسطس 2018

"حراء" في الشعر الأردي..




 يتكلم اللغة الأردية أكثر من ثمانين مليونًا من سكان الهند وباكستان وبنجلاديش، وقد تأثرت بالحضارة الإسلامية وباللغة العربية التي انتقلت إليها مع الإسلام، وذلك في قواعدها وعروضها وحروف الكتابة، والكثير من الألفاظ.
ولهذا فقد أصبحت لغة الثقافة بين المسلمين، بفضل الأعمال الأدبية التي كتبها عدد من الأدباء البارعين، أمثال: “ميرزا غالب، والسيد أحمد خان، وألطاف حسين حالي، والدكتور محمد إقبال؟ وسنكتفي بالأخيرين إقبال وحالي فيما تناولاه في شعرهما وغيره عن غار حراء:
ـ الشاعر محمد إقبال:
لا يجهل أغلب المسلمين من غير الهند وباكستان الشاعر الفيلسوف الحكيم وشاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال الذي كان يرى أن الإسلام هو دين الإنسانية والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الكامل للإنسانية، فإذا ذكره ترنحت عواطفه وجاشت نفسه وفاضت عينه. ويحكي الشيخ علي أبو الحسن الندوي:

(إنني أذكر شاهدًا على ذلك، كان أحد كبار الأمراء وأصحاب الولايات في الهند، زمن الحكم الإنجليزي قد دعاه لدراسة بعض الصكوك والوثائق القديمة التي أعطاها الملوك المغول لآبائه، وليترجمها إلى الإنجليزية، فقد كان محمد إقبال محامياً كبيراً ودارساً للحقوق فهيأ له مكانًا من أحسن ما يمكن، وأثثه أحسن تأثيث يقدر عليه أمير وصاحب ولاية وحكم، وهيأ له كل ما تقع إليه الحاجة من أسباب الراحة، ثم تخوّف أن يكون هنالك نقص أو فراغ، فدخل غرفته فجأة، فرآه مستلقياً على الفراش في الأرض، ولم ينم على السرير الذي قد هيئ له، فقال:

ـــ سامحني يا معالي الدكتور، لماذا تنام على هذا الفراش وتترك السرير؟!
فتوقف قليلاً، فلما ألح قال:
ـــ والله تذكرت أن سيدي الذي أنتمي إليه، والذي يؤول إليه كل الشرف وكل السعادة في حياتي كان ينام على بساط متواضع على الأرض، فكيف يطيب لي النوم على هذا السرير الأثير، والفراش الناعم؟.. ودمعت عينه، وأثّر ذلك على الأمير وإن كان هندوسيًا).

يقول إقبال في ديوانه “أسرار خودي” وترجمته “أسرار الذاتية” متحدثًا في قصيدةٍ له عن مثله الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنوانها ” نقط النور التي تدعى الذوات”:

إن قلب المسلم عامر بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم..
وهو أصل شرفنا، ومصدر فخرنا في هذا العالم.
إن هذا السيد الذي داست أمته تاج كسرى كان يرقد على الحصير.
إن السيد الذي نام عبيده على أسرّة الملوك كان يبيت الليالي لا يكتحل بنوم..
لقد لبث في غار حراء ليالي ذوات العدد فكان أن وجدت أمة، ووجد دستور، ووجدت دولة.

لقد عاش إقبال حياته كلها تنفيذًا لوصية أبيه: (كن يا بنيَّ من البراعمِ في غصن “محمَّد”،وكن زهرةً يُحييها نسيمُ ربيع”المصطفى)“.. فكان نعم البرعم، ونعم الزهرة المحمدية. إذ كان يملكه حب النبي صلى الله عليه وسلم، والإعجاب بشخصيته المعجزة.
وبعد تجربة “إقبال” الطويلة في الحياة وعلمه ونظرته يرى”إقبال” أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل المحبوبين، فهو يخبر كل قرائه أن طرق العشق تبدأ من ذاته صلى الله عليه وسلم، فحب الرسول الكريم يعطي الجمال للحياة والدوام للعشق.

إنك لا تعلم من أين يبدأ العشق، فهو شعاع من شمس الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت حي مادامت روح الحب موجودة بداخلك، وهذا الحب يحفز إيمانك. ولهذا فإن العشق يعطي القوة للذات الإنسانية، وهذه القوة تعطيه القدرة على ضبط النفس التي بواسطتها يتصل بالله، ولكن لكي يصلا لإنسان لهذه الدرجة فلابد أن يسمو بذاته ويتعلق بالله، وهذه التجربة مثل تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء، ومن الضروري لك أيضًا أن تقيم في حراء قلبك لتحصل على جواهر الحقيقة.

يقول إقبال في دیوانه “الأسرار والرموز” مخاطبًا كل مسلم:

احکم العشق بتقلید الحبیب
حتى یحببك رب العالمین
واجلس في حراء القلب هادئًا
واترك علائق ذاتك
وهاجر إلى الله راضیًا
احکم نفسك بالحق
ثم ارجع إلى نفسك
وحطم هوس اللات والعزي..
ـ الشاعر ألطاف حسين حالي:

ذكر زعيم الشعر الإسلامي الحديث عند العجم والملقب بـ “شمس العلماء”، الشاعر الشيخ ألطاف حسين حالي غار حراء في بعض قصائده، ومنها هذه القصيدة، فيقول:

(نزل من غار حراء وفي يده إكسير من السماء، حَوّل التراب تبرًا، والحصى درًا وجوهرًا، أقبل إلى الأمة العربية التي كان يخيم عليها الجهل من قرون، فأحدث فيها ثورة جذرية انقلبت بها أوضاعها، وتغير بها مجرى التاريخ.

إن الحجر الذي رفضه كل بَناَّء وزهد فيه كل معمار، تناوله بيده الكريمة، وجعله حجر الزاوية، لقد هاجت سحابة من بطحاء مكة ملأت سمع الزمان وبصره، وشرق وغرب رعدها وبرقها، فبينما رعدت على نهر “تاجة” في إسبانيا أمطرت على نهر “كنج” في شبه القارة الهندية، لقد أحيا فيها مزرعة الإنسانية القاحلة، وعمرها البر والبحر، فما ترى في العالم من رواء وبهاء ونور وسناء إلا والفضل فيه يرجع إلى البعثة المحمدية).

الجمعة، 17 أغسطس 2018

قراءة في المجموعة القصصية "الحصان" للأديبة سميحة المناسترلي..





    
  لا يستطيع الناقد أو القارئ لمجموعة "الحصان" القصصية أن يفصل الأديبة سميحة المناسترلي عنها وذلك باقتصار النظر على موضوع السرد منفصلا عن ذات صاحبته، ذلك أن المبدعة في حالتنا هذه تجمع في إهابها الكثير من الفنون التي تعكس أشعتها على كل القصص التي تضمها المجموعة؛ فهي الإعلامية التي تعد وتقدم برامج تليفزيونية، وهي الصحفية، والروائية، والباحثة وهو ما يدل عليه إنتاجها الذي يتناول الشئون الداخلية السياسية أو الخارجية لبلدها، منها: "الثورات العربية بين الوهم والحقيقة"، "مصر إلى أين ؟!"، "الحكومات وتفشي العشوائيات"، "إلَّا مصر"، كما قدمت روايتين، هما: "الخدعة الإسرائيلية في العيد الأضحى"، و"عندما تتهاوى القيم"، ومجموعة قصصية سابقة على "الحصان" بعنوان "شيزوفرينيا بريئة".

  تتجلى ثقافة واهتمامات الكاتبة في تناولها للعديد من الموضوعات التي تتصل اتصالا وثيقًا بالقيم المجتمعية من خلال رصدها سواء في جانبها السلبي أو الإيجابي، وهو ما يكاد يشكل عمودها الفقري الفكري عبر أغلب مشروعها القصصي والروائي الذي تغذيه مقالاتها وحلقاتها التليفزيونية وكتبها التي تغوص في أعماق المجتمع المصري بكافة أطيافه ومناطقه، تستخرج منه قصصها التي لا تصنعها بقدر ما تفرزها وتخرجها للنور بعد أن تصب عليها منطلقاتها الفكرية والثقافية ونظرتها النقدية الفاحصة للجوانب الإنسانية الظاهرة والخفية، دون أن تفرض على شخصياتها مقولاتها أو مفاهيمها بشكل موجه أو مؤدلج، وهو ما يحسب لها.

   تأتي افتتاحيات مجموعة "الحصان" في اتكائها على الأفعال الماضية في أغلبها ثم المضارعة ثم أفعال المقاربة وهي التي تبعث الحركة والحيوية في النص السردي، وكذلك استخدامها لأسلوب الاستفهام والبوح أو المناجاة وكلها تصب في حرص الكاتبة أن تُدخِل القارئ في عالمها القصصي دون تقدمة أو تهيئة وهي أمر يتصل بثقافتها السينمائية والصحفية من خلال معايشة الحدث واكتشافه عبر التوغل في السرد، وهو ما كان له مردوده القوي في الإقبال على مواصلة الكشف وتقصي الأحداث التي ستتوالى مع مزيد من التقدم في اقتحام السطور.

   غالبا ما يكون لأسماء الشخصيات في قصص المجموعة مدلولات عند الأديبة سميحة المناسترلي وأنها توليها عناية في انتقائها بحيث تتشابك مع الأحداث، وهو الأمر الحادث أيضًا في تعاملها مع العنوان وخاصة عندما يتصل ببطل القصة باعتباره عتبة النص ومبلور أحداثها كما أنه هو الذي يجبر كاتبته أن تحققه في سردها وإلا عُدَّ هذا تدليسًا منها، ويكفي للدلالة على هذا قصة "هادي" فالمَعْنِي به الشخصية المحورية للعمل غير أنه يصبح إسقاطا على الصديق "حسام" ذلك الذي هداه لاكتشاف سر حبيبته المخادعة، وقد أطلقت اسم "عبد القوي" على والد أحمد بطل قصة "الكبسولة السحرية" لأنه لا يلجأ لتناول الدواء إلا فيما ندر، وحين أطلقت اسم "أونيست" على الحصان بمعنى يتصل بالشرف والأمانة، كما يكون العنوان صفة لازمة للبطل، مثل قصص: الثعلب، وطرح البحر، والإرهابي، والراقصة، وقرص الشمس، وسمسار بنات.
  
    تشكل "الرمزية" و"المكان" دلالتهما في البناء المعماري السردي في مجموعة "الحصان"، وللمكان أهميته بطبيعة الحال في مورفولوجية القصة القصيرة، غير أن الأديبة سميحة المناسترلي تجعل العلاقة منطقية وفي توازي بين البطل وبين المكان ولا أدل على ذلك من قصصها: "طرح البحر" و"شذوذ" و"ورقة طلاق"؛ ففي الأخيرة  تجعل الأمطار أو زخاتها تهبط مُكونةً بركة متسخة تتهاوى فيها ركبتا البطل، أما الرمزية فتتمثل في سقوط الأمطار التي تغسله وتفجر فيه ينبوع الطهارة التي تنتشله من وهدة الأثم وتمثلها البركة المتسخة، بينما تقيم في "طرح البحر" علاقة "عبد الله" بالبحر منذ سنوات مكانًا، ورمزيةً في احتضانه لكلب صغيرٍ ضال يشاركه التشرد. 

    أما في "شذوذ" فتجعل الكاتبة  العلاقة مكانية ورمزية في آن من حيث نظرة البطل إلى أسفل وهو ما يتطابق مع حالته النفسية والجنسية، وتجعلها مكانية تصاعدية معانقة للون الذي يتمازج بشكل رأسي مع تصاعد الأحداث تبعا لحالته من الانتقال بين الانقباض والانشراح؛ فهو ينظر إلى السجادة المتواجدة أمامه في بداية الحدث، ثم ينظر إلى نفس البقعة من السجادة التي تمثل وردة حمراء متداخلا معها ألوان متضاربة عندما يتذكر لعبه مع فتيات الحي، ثم تنقلت عينه بين الألوان القائمة المتدرجة وذلك حين أبعدته أمه عن مساعدتها كالبنات، ثم وقع نظره على ألوان رمادية وصفراء متداخلة في صخب، وألوان صارخة فاقعة تثير الأعصاب بطرف السجادة وذلك عند وصوله إلى نقطة التحول الكبيرة في حياته بسفره للخارج تخلصا من عاره كما أراد الوالد، وجعلت الكاتب البقعة عند طرف السجادة بما يفيد الانتقال من حافة الإقامة إلى حافة الاغتراب.

  ويمثل الخندق في القصة الموسومة بنفس الاسم "الوطن" في رمزية أرادتَها الكاتبة ليكون هو المحضن للوحدة الوطنية في وقت الأزمات من حروب وغيرها، وكذلك في وقت البناء ليكون التماسك بين أبناء الوطن الواحد، على اختلاف عقائدهم، هو العاصم من الانكسار والهزيمة وذلك عبر جنديين مصريين مسلم ومسيحي امتدت حياتهما بالتجاور والدراسة واللعب والموت.    
  
     لا تصب الكاتبة سميحة المناسترلي كل الأوصاف التي تتعلق بشخوص أبطال نصوصها في أول طريق القارئ كعبء تتخلص منه، بل ترشرشها على مسافات متقاربة ومتباعدة أحيانًا سواء أكان الأمر متعلقًا بعلاقات وثيقة بين شخصيات العمل، أو بالصفات الجسدية، أو المراحل العمرية، أو ما يتعلق بنوعية الحياة من ماديات وتعليم ومناصب وخلافه وذلك حتى تضمن عين القارئ وعقله في ولوعه باستكمال مواصفات الشخصية، والأدلة على ذلك مبثوثة في قصص المجموعة، كما تكثر من ذكر أسماء الشخوص الرئيسية والثانوية على تفاوت في ذلك.

   تنفرد قصة "الحصان" التي تتسمى المجموعة باسمها بخلوها من أسماء الشخوص الرئيسية "السيد وزوجته"؛ فقد استطاعت الكاتبة أن تبدل الشخصيتين الثانويتين بالرئيستين وتمنحهما الأسماء وهما "الحصان" و"السايس" لتجعلهما على طرفي النقيض والمفارقة معًا بين "الحيوان" و"الإنسان"، وبين صفتي الوفاء والغدر؛ فقد استأثر الحيوان بصفة الوفاء وطَمِعَ الإنسان في صفة الغدر فحازها "السايس والزوجة"، وكان هذا مقصودًا من الكاتبة بالطبع لتبيين الفارق النوعي.

   تتصف قصص مجموعة الحصان بالتماسك في قوامها من حيث البناء المحكم، والعبارة المقصودة، والصفة المتعمدة، والحبكة المنطقية التي تتصاعد لتصل إلى نهايات منطقية لا تقفز على الأحداث أو الشخصيات، كما لا تسهب الكاتبة في الوصف الممل الذي تتصف به بعض الكتابات النسائية وهو الذي عصم النصوص من الترهل حيث اتسعت المساحة طولا وقصرًا بحسب موضوع العمل، ولا تترك الكاتبة شيئًا لسقطة درامية، بوعيٍ منها، فتبدأ بجملة:  (ارتدى الدكتور العريس قناع الغبطة)  في مفتتح قصة "ختان" لتصنع المفارقة المخجلة حين يتمسك هو بالعادة ويرمي بالعلم جانبا ويفرض على العروس اجراء عملية الختان بعيدًا عن القرية. كما تبين في آخر سطر من قصة "هادي" كيف اجتمع الصديقان في اختيارهما على فتاة واحدة ولم يكتشف الصديق ذلك؟! لتقول: (والذي لم يتخيل بدوره أن "ناني" هي نفسها نادية حبيبة هادي).

  كان نَفَس الكاتبة سميحة المناسترلي هادئًا، وسلسًا من حيث الاستعمال اللغوي، مع جمال ورشاقة العبارات وبلاغة الوصف الذي يتفق والسياق، وهو ما تجلى في لجوئها إلى استخدام الكثير من تقنيات القصة من: الاسترجاع، وأغلبه بين المثير والاستجابة، والاستباق، والتداعي، والحلم، والكابوس، والمونولوج الداخلي والخارجي، والمعادل الموضوعي في إظهار المتناقضات الاجتماعية، والسلوكيات الإنسانية، وتضاد القيم، ولم تتعسف في الانتشاء بإطلاق صفة "الذكورية" على المجتمع بل زاوجت في السلبيات والإيجابيات بين الرجل والمرأة ولم تتهم أو تبرئ أحدهما بل كانت محايدة تماما، وأجادت اللعب بتقنية كسر البديهية، وإعادة الترتيب الزمني.

    تعمدت الكاتبة إحالة بعض نهايات قصصها إلى ما يُعرف بالنهاية المفتوحة وذلك لتثير القضية بين القارئ وعقله في اختيار النهاية التي يراها مناسبة من وجهة نظره وما يتفق وعلمه ومعتقده وتعليمه ومكانته الاجتماعية والبيئية كما في قصة "شذوذ" التي لم تقطع فيها برأي وأنهتها: (مناولاً ـ أي الجراح ـ  عاطف كارتًا باسم متخصص نفسي .. ساعده على اتخاذ القرار). بينما تركت، في قصصٍ أخرى، القرار للبطل ليحدد مصيره، وهو الغالب، وتدخلتْ في البعض بيد العدالة الإلهية التي لم تُرد أن تُحيَّدها أو تُخرجها من الواقع المشاهد مخالفة بذلك رأي من يرى أن العدالة في الأرض مفقودة وإذا حدثت فهي عدالة شعرية من صنع الكاتب نفسه.

  تتميز الكاتبة بنظريتها الشمولية الواعية في محاولة جرد وإحصاء القضايا الرئيسية التي يعج بها المجتمع، كما تتميز كذلك بتحليلاتها التفصيلية والجزئية لمكوناتها ومن ثم التعامل معها من منظور قصصي يجسد المشكلة وبواعثها ومن ثم التعامل مع أطرافها وصولا إلى طرح الحلول، إن أمكنها ذلك، وليس مهمتها بالطبع  لكنها على الأقل تحاول، وقد رصدت هذه القضايا الهامة عبر مجموعتها، ومنها: الكسب الحرام، الهجرة غير الشرعية، زنا المحارم، عمليات التحويل الجنسي، الخيانة الزوجية، الإرهاب، الختان، افتقاد الأطفال للرعاية الأسرية، الأقراص المخدرة، تجارة الأعضاء البشرية، الوحدة الوطنية، زواج القاصرات، الزواج العرفي، عقوق الوالدين.

   لقد نجحت القاصة والروائية سميحة المناسترلي عبر مجموعتها التي ضمت أربعًا وعشرين قصَّة في أن تتعامل مع المجتمع بمختلف أطيافه، وطبقاته، ومناطقه الجغرافية، وقطاعاته الديموغرافية، وسلبياته التي لم تعمل قط على تجميلها أو التهوين منها، بل بينتها وواجهتها ودقت أجراس الخطر للتنبيه على تفاقمها، وأشارت ببنان الاهتمام لتجعلها مسئولية أمام المجتمع كافة لمواجهتها، ودللتْ على الإيجابيات دون أن تهتف لها أو تحض عليها وإن سلطت الأضواء حولها، وذلك حتى لا تقع في براثن التقريرية والمباشرة أو القصة الصحفية الموجهة، وهو ما يحسب لها ولهذا العمل الماتع الرائع الذي أبحرت فيه واستمتعتُ به قارئًا قبل أن أكون ناقدا.
 

الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

"حراء".. في الشعر الروسي



 
                                        
  لم يغب ذكر غار حراء عن قصائد بعض شعراء روسيا الذين اهتموا بدراسة الإسلام في الأساس، وكان من أهمهم الشاعر بوشكين، ثم الشاعر إيفان بونين، وأخيرًا الشاعر نيقولاي تيخونوف: 

   ــ الشاعر بوشكين:

       في روسيا حفلت قصائد أمير شعرائها الكسندر بوشكين بالاستلهامات القرآنية والنبوية والتي تعطي لقارئها انطباعًا قويًا عن اطلاعه القوي والعميق على التراث الإسلامي، ولأن غاية ما نبتغيه من شعره هو ما يتصل اتصالاً وثيقًا بلحظة التنزيل القرآني الأول في حراء، فنجده ممثلاً بقوة في أعظم قصائده: "الرسول" أو "النَّبي" التي كتبها في عام 1826، وتأخذني الحيرة في نقلها لكثرة من ترجمها من أهل الاهتمام بالأدب الروسي بعامة وبشعر بوشكين بخاصة، ورغم روعتها في كل من ترجم لها مثل الدكتور طارق مردود، وضياء نافع، وإبراهيم إستنبولي، إلا أنني سأنقلها بترجمة الشاعر رفعت سلام لثناء جمهرة من المترجمين على جودتها: 

ظامئًا قلبي الوحيد
قطعتُ الأراضي البورَ القاحلة
حين وجدته أمامي، ساروفيمَ المجنٌح،
صامتًا، منتصبًا،
وعلى مفترق الطرق انتظرني.
على عيوني الطينية العمياء
وضع أصابعه برفق،
وكعيني نسرٍ عند الرعب،
فُتِحتا وراقبتا الأرضَ والسماء،
لمس أذني، ثم الأخرى،
وواضحة متميزة تمامًا،
أتتني الرفرفةُ الرهيفةُ لأجنحة الملاك، 
فسمعتُ الكرمة 
وهي تغوصُ في الأرض، وترتفع في السماء، 
وهُولاتِ أعماق البحر
تنزلق في الماء كالأسماك..
اعتصرَ لسانيَ الآثمَ البارعَ من فمي،
وانتزعه بيدٍ دامية،
مال فوقي بلا شفقة
وَدسَّ ناب أفعى بين شفتيَّ الهامدتَيَن..
ثمٌ ــ غارسًا سيفه اللاَّمع ببطء ــ
شقَّ صدري،
واقتلع قلبيَ المرتعشَ المُعتمَ، الكالحِ،
وغرس بتثاقُلٍ في الفجوةِ المفتوحة
جمرةً، سرت مع اللَّهيب..
رقدتُ هناك، ميَّتًا، 
وإلهي، تكلًّم يا إلهي،
وهذا ما قال:
انهض أيها الحكيم، يا من تسمع دعوتي
افعل كما أطلب، يا من يعوُقُك العدم؛
تقدَّم على الأرض، نبيٌا، لافحَا قلوبَ الرجالِ
بكلمةِ الحق.

لا يمكن القول بأن تأثر بوشكين بالثقافة الإسلامية والقرآن الكريم كان بسيطًا؛ فقد أسهم من خلال شعره بنشر اسم القرآن في الاتحاد السوفييتي وبتعريف القراء الروس باسم "محمد" صلى الله عليه وسلم, لأنهم يقرؤون شعر بوشكين ويتابعون كل ما صدر له،  فبوشكين، كما يقول عنه الكاتب الكبير جوجول: (بوشكين معجم انحصر فيه كل غنى لغتنا وقوتها ومرونتها. إنه ظاهرة خارقة، ولعله الظاهرة الوحيدة التي تجلت فيها الروح الروسية).

  أما "الساروفيم" الوارد بقصيدة بوشكين، فهي كلمة عبرانية يَغلُب أن يكون معناها "كائنات مشتعلة"، لم ترد إلا في نبوة اشعياء بوصفها، وقد تكون تسمية للأرواح التي كانت تخدم عرش الرب وتحيط به، ويقال في التصور المسيحي أن لهم وجوهًا وأيدي وأرجلًا وأجنحة، ولكل منهم ستة أجنحة، ويبدو أن السرافيم كالكاروبيم نوعان ساميان من الملائكة الذين يخدمون الله. والكاروبيم، هم جوقة من الملائكة مذكورة في عدة مواضع من الكتاب المقدس، وتعتبر أحد أقسام الملائكة في اليهودية والمسيحية.

ــ الشاعر والأديب إيفان اليكسي فتش بونين:

     ويأخذنا رائد الواقعية التقليدية إيفان بونين ـ آخر عمالقة الأدب الروسي الكلاسيكي، وأول من فاز بجائزة نوبل من أدباء روسيا ـ إلى رائعته "ليلة القدر"، وهي واحدة من قصائده الإسلامية الغزيرة، نتيجة لقراءته العميقة للقرآن الكريم الذي لم يفارقه حتى في سفراته العديدة، ولذا فقد جاءت قصيدته تلك من فهمه الواعي لسورة القدر، والتي بدأها بآية منها:
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [سورة القدر:4].

إنها ليلةُ القدرِ. تلاقتِ الجبالُ واتحدتْ، 
وصعدت ذراها نحو السماء. 
كبّرَ المؤذّن. وقطعُ الجليدِ ما زالت حمراء. 
ولكن صقيع الظلام قد بدأ يتنفس في الثغور والوهاد. 
إنها ليلة القدر. والغيومُ ما فتئت تهبط 
وتتشتتْ على سفوح الجبال المظلمة. 
كبّرَ المؤذِّن. والنهرُ الماسيُّ يجري 
أمام العرش المعظّم، وهو يتبخّر.   
وجبريل ــ  دون أن يُسمَع أو يُرى ــ 
يلفّ العالمَ النائمَ. ربي، باركْ 
الدربَ الخفيّة للحج المقدس 
وامنحِ الأرضَ ليلة من السلام والمحبة! 

ــ الشاعر نيقولاي سيميونوفيتش تيخونوف:

 ذكر الشاعر نيقولاي تيخونوف "ليلة القدر" ضمن قصيدته الفريدة "الإسلام" والتي سننتخب منها المقاطع الخاصة بتلك الليلة المباركة:

إلاّ الله.
شفاهي ــ حق وحساب!
لكم ــ البشر، لكم ــ الغيوم، لكم ــ وحوش الصحراء.
أبوه ــ جمل بأسنمةٍ كالدخان.
أمّه ذات الشعر المتجعد الأخضر ــ نخلة في المدينة المنوّرة.
لقد اقتفيتُ آثار أقدامه.
ولكن قلبه ــ قطعة جمر، وروحه ــ ضالة.
.....
وابتعدتُ ، ابتعدتُ إلى حيث الريح والطريق 
أهوَّ، يا الله، مَن سيكنس الظلام؟
وإذ بالجملِ الماسيّ يشقُّ لي صدري بحوافره،
والكلبُ المقدس يَنبحُ : نعم، هو.
ألِف، لام، ميم!
اِسمع:
ليلةُ القدر أكثر اخضرارًا من الغابة،
يا مَن دق البابَ عندي والقلبَ؟
.....
تَعِبَ النخيل من هزّ الرؤوس نحو الشرق،
النبات يصلّي، والأُسُود لا ترِدُ الماء ــ
ليس مائة قبلةٍ، بل حقاً ثلاث مرات سآخذ
منك مائة مع أول نجمة ليلية،
لكي تعود حياتي إليَّ
في ليلة القدر هذه.
وأنا قلتُ لذلك الشخص: "وقت"،
هو الأكثر بأسًا...
شفاهي حق، وشفاهي ــ حساب!
غداً سأنطلق في الدرب،
لأنني جمّال أنا، والجمل،
والأرض، والسماء فوقها...
ويوم غد ــ كالسيف.
لتنامي، يا زهرتي،
فاليومَ سلامٌ ــ في الأرض وفي المحيط.
اليومَ في ليلةِ القدر
يدخلُ الجنّةَ مع الأنبياء
حتى أشدّ المنبوذين بين الناس.


يقول الدكتور محمود الحمزة في مقاله "دور الترجمة والاستعراب في التفاعل الثقافي بين العرب والروس": (إن سورة "ليلة القدر" العظيمة، وعلى الرغم من قصرها، قد أعطت دفعة قوية لمثل ذلك الإلهام الشعري الرفيع، و تسبب الاطلاع عليها بنشوء تيارات عميقة من الرؤى والتصورات في الأدب الروسي).

الجمعة، 10 أغسطس 2018

شقتوا .. ستاتي






شقتوا عنين ستاتي
جايبة لغاية فين
تاريخ يوَلي وآتي
ولسه فيه بعدين
مصر نهارها ليلاتي
ملوكها والمساكين
معاه منين ما يواتي
ما يغيبش عنه يومين
تقولش ده "ابن مماتي"
"مانيتون" يا محترمين
لو عشت معاه يوماتي
تحسه م الفراعين

يقولي: مصر حياتي
وجيناتي مصريين
عشت لها أوقاتي
ومشيتها ع القدمين
دي حروف كتاباتي
من دمي مكتوبين
عايشها ف سكاتي
دنيا معايا ودين
ونفسي في مماتي
تحضني ميه وطين

عايش فينا ستاتي
ولو من الراحلين
بقول في كلماتي:
العُلَما فينا عايشين
من قلبي دعواتي
وادعوا يا مستمعين
ف الجنة يا ستاتي
ياربي قولوا آمين

“حراء”.. في الشعر الألماني

   
حَلَّقت لحظة نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم في سماوات قرائح بعض شعراء الأرض قاطبة سواء من العرب أو من العجم، من المسلمين ومن غيرهم، قديمهم وجديدهم، يستوي في ذلك من استدعى تلك اللحظة صراحة أو من وصفها بحسب تاريخية وتراتبية الحوادث فيها من قبل حدوثها وأثناءها وبعدها، وشخوصها، ومنهم من استدعى الغار كرمز له دلالة حداثية يُسقِط عليه الواقع سقوطًا عموديًا لاستجلاء المشهد الحادث على ضوء المشهد التليد.

   ولقد بذلتُ جهدًا جهدًا كبيرًا في جمع الشعر العالمي المتعلق بغار حراء، ذلك إنه إذا كان هناك شعراء من الشرق والغرب قد احتفوا بالإسلام في بعض قصائدهم أو مدحوا نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، إلا أن الوقوف على ذكر غار حراء لم يستوقف الكثير منهم، ولهذا فكل ما غنمته من هذه الأبيات التي سيرد ذكرها ولاأستطيع أن أجزم أنه كل ما ذُكِر في هذا الشأن، خاصة أنني لم أجد في هذا الميدان دراسات سابقة اهتمت بهذا الجانب تعينني على الجزم بأنها كل ما كتب في حراء، وسأتناول عبر المقالات القادمة تباعًا: “حراء” في الشعر الروسي، وفي الشعر الأردي، وفي الشعر الهندي.

ــ الشاعر “يوهان ولفجانج جوته”:

ولو بدأت باستنطاق الشعر العالمي فيما قاله في غار حراء، فيطيب لي أن أبدأ من قارة أوروبا، وتحديدًا من ألمانيا وأن أبدأ بأديب ألمانيا وشاعرها الكبير “يوهان ولفجانج جوته” ذلك المحب لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم والذي تتحدث عنه الكاتبة الألمانية كاتارينا مومزن في كتابها “جوته والعالم العربي”، فتقول: 
(إن علاقة جوته بالإسلام ونبيه محمد .. ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاةً للدهشة في حياة الشاعر، فكل الشواهد تدل على أنه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم كانت بعد معرفته بالكتاب المقدس أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى. ولم يقصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل).

نظم جوته وهو في الثالثة والعشرين من عمره قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أٌنْزِل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وستزداد دهشتنا عندما نطالع العبارة التي صدَّر بها ديوانه “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” والتي يقول فيها إنه هو بنفسه : (لايكره أن يقال عنه أنه مسلم).وهو الذي قال عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (بحثتُ في التاريخ عن مثَلٍ أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمدٍ صلى الله عليه وسلم).
سافر جوته بخيال فؤاده إلى لحظة اللقاء السماوي الأرضي الباهر وكأنه أمام ساكن الغار صلى الله عليه وسلم قد توحد معه بلحظات حياته كلها فصارا معًا، وأصبحنا نحن خارج الحدث، فإذا به يشير إلينا بل إلى كل واحد منا قائلاً في انبهار:

(انظر إلى ينبوع الجبل يتدفق صافيًا كشعاع ٍ درىٍ فوق السحب .. أرضعت ملائكة الخير طفولته في مهده، 
ساحبًا في إثره أخواتٍ من العيون كأنما هو مرشدها الأمين..
وأما في البوادي فالرياحين تنبثق عند قدميه، والمروج تحيا من أنفاسه، لايثنيه الوادي الظليل ولاالرياحين 
التي تطوق ساقيه، وتحاول أن تستهويه بلحظاتها الفواتن..
وها هو العباب زاخرًا يندفع لايثنيه ثانٍ، مُخلِّفًا وراءه المنارات والصروح ذلك هو “محمد بن عبدالله”).

توفى جوته ولم يكن قد نشر بعد إحدى أجمل وأروع قصائده في حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعنوانها: “بعثة محمد” التي عثر عليها تلاميذه وأصدقاؤه، ويصف فيها برهافة صادقة اللحظات الأولى لتلقي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوحي والنبوة، يقول فيها:
(حينما كان يتأمل في الملكوت..

جاءه الملاك على عجل..

جاء مباشرة بصوت عالٍ ومعه النور..

اضطرب الذي كان يعمل تاجرًا..

فهو لم يقرأ من قبل..

وقراءة كلمة تعني الكثير بالنسبة له..

لكن الملاك أشار إليه..

وأمره بقراءة ما هو مكتوب

ولم يبالِ.. وأمره ثانية: اقرأ

فقرأ..لدرجة أن الملاك انحنى..

واستطاع القراءة..

واستمع الأمر وبدأ طريقه).