الخميس، 28 أغسطس 2014

تكامل المعجزات في شخص خاتم الرسالات صلى الله عليه وسلم

تكامل المعجزات في

شخص خاتم الرسالات صلى الله عليه وسلم





عبر عدة دراسات عميقة تناوَلنا فيها الإعجاز البشري لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، التزمتُ فيها منهجًا علميًّا صارمًا وشاقًّا؛ حيث أثبتُّ فيه أقوال العلماء والأدباء والمفكرين من المسلمين وغيرهم، ومن العرب وغيرهم في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتصل به من سلوك بشري، أعلنوا خلالها صراحة وكتابةً بحسب لغاتهم كلمة "معجزة" في كل المواقف التي استلفتَتْهم، ومذكورة في ثنايا تلك الدراسات، ولم أكتفِ بهذا، بل أوردت أقوال غيرهم من العلماء الذين استوقفتْهم نفسُ المواقف النبوية بانبهار أقل من وصفها بـ "المعجزة"، ولكن بألفاظ مغايرة، قد تُماثلها أو تقترب منها، وكان المقصد من وراء كل هذا، هو التأكيد على الاستحقاق البشري للنبي صلى الله عليه وسلم، ممن يَدينون بدينه ويتَّبعونه، وممن هم على غير مِلَّته، ويَدرسونه ويُتابعونه.

وقد تناوَلت هذه الدراسات معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في أخلاقه على الإجمال، ثم تعرَّضت لكل مفردة على حِدَة، فكان الصدق معجزته، والوفاء معجزته، والرحمة معجزته، والثبات معجزته صلى الله عليه وسلم، ثم عرَّجت الدراسات على مَن لهم صلة مباشرة به صلى الله عليه وسلم، فكان الصحابة معجزته، والأُميَّة معجزته صلى الله عليه وسلم، ثم انتهت الدراسات بانتشار الإسلام معجزته صلى الله عليه وسلم، وآخرها معجزة الصعود والانقطاع.

إلا أن هناك أقوال لم تَرِد في تلك الدراسات، وكان من الأمانة العلمية إيرادها، والحق الأصيل للقارئ في الإلمام بها، والوقوف عليها، ومنها:
بحث الكاتب توفيق الحكيم عن مكمن المعجزة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ليجده في تلك المبارزة غير المتكافئة، فها هو العالم القديم بدياناته ومعتقداته وإمبراطورياته وشعوبه في جانب، وهذا الرجل الذي يؤمن وحْده بعقيدته في جانب وحده، ليس معه من السلاح ما يستطيع أن يدفع الضُّرَّ عن نفسه، لا أن يُجاهر بدعوته، ويطالب الناس أن يَهجُروا عقيدتهم ويؤمنوا بما أتى به وهو الحق...، ستكون مبارزة ولا شك حامية الوطيس بين سَدَنة الفكر القديم الذي لن يتنازل عما آمَن به مئات السنين، فيَقتلع جذوره تلك؛ ليُغرَس مكانها غرسٌ جديد[1]: "إذًا هناك مبارزة بين فرد أعزل، وبين عصر بأسْره يُزَمْجِر غضبًا: عصر زاخر بأسلحته ورجاله، وعقائده وفقهائه وعلمائه ومشاهيره، وتقاليده وماضيه، ومجده وتاريخه..، هذه المبارزة الهائلة العجيبة، من يستطيع أن يُقدِم عليها غير نبي؟!

على أن المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي، ورمي القفاز، وارتفاع ذلك الصوت الضعيف على شاطئ ذلك البحر الطامي العجاج: (أن اتْرُك أيها العالم دينَك القديم واتْبعني!)، ذلك الصوت الذي لا جوابَ عليه إلا سخرية طويلة وقَهقهة عريضة، وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وإبراء الأعمى، وإنما المعجزة حقيقةً أن يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الأعزل من هذه المعركة المخيفة ظافرًا منتصرًا، فإذا هذا العالم العتيد كله يَجثو عند قدَميه مُنكِّس الأسلحة، وقد انقلبت سخريته خشوعًا طويلاً، وقَهقته صلاةً عميقة!).

وفي نص طويل يُسهب شاعر فرنسا "لامارتين" في استقصاء مواطن العظمة، ومكامن المعجزة في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستعرضًا المراحل التاريخية لمسيرة تبليغ الرسالة الخاتمة، ووضْع المقارنات لاستخلاص النتائج التي تأتي في جانب منها مُتفقة مع ما ذهب إليه الحكيم في مقولته، فيقول: (لم يحدث من قبل أن عُهِد لإنسان - طوعًا أو كرهًا - بمثل هذه المهمة السامية، فقد كانت المهمة فوق طاقة البشر، بها يقضي على الضلالات التي وقفت حائلاً بين الإنسان والخالق، وبها يصل الله بالإنسان، ويَصِل الإنسان بالله، وبه يعيد لفكرة الألوهية رشادها وقُدسيتها وسط فوضى آلهة الأوثان الشوهاء التي كان القوم يعبدونها وقتئذٍ، لم يحدث من قبلُ أن قام إنسان بعمل يتعدَّى مَقدور البشر بمثل هذه الوسائل الهزيلة؛ ذلك لأنه اعتمد على نفسه كليَّةً في تصوُّر وتنفيذ مهمته العظيمة، ولم يكن يساعده سوى حَفنة من الرجال المؤمنين به في هذا الركن المجهول من الصحراء الشاسعة.

وأخيرًا، فلم يحدث أن استطاع إنسان من قبلُ أن يُحقق مثل هذه الثورة الهائلة والدائمة في العالم بأسْره؛ لأنه بعد أقل من قرنين على ظهور الإسلام، كان بالإيمان والسلاح يُسيطر على كل جزيرة العرب، ثم يغزو باسم الله بلاد فارس وخراسان، وما بين النهرين، والهند الغربية، وسوريا والحبشة، وكل شمال إفريقيا، وعددًا من جزر البحر المتوسط، وإسبانيا، وجزءًا من بلاد الغال "فرنسا".

فإذا اعتبرنا عظمة الهدف وضآلة الوسائل، والإنجاز المذهل - معاييرَ ثلاثة للعبقرية الإنسانية، فمن ذا الذي يَجرؤ على مقارنة أيٍّ من عظماء الرجال في التاريخ الحديث مع محمد صلى الله عليه وسلم؟

هؤلاء العظماء خلَقوا السلاح أو القوانين الوضعية أو الإمبراطوريات فقط، لم يُقيموا سوى هياكل مادية رَأَوْها في معظم الأحيان تتهاوى أمام أنظارهم، لكن هذا الرجل لم يُحرك الجيوش والقوانين والتشريعات، والإمبراطوريات والشعوب والمماليك وحدها، ولكنه حرَّك معها ملايين الناس ممن كانوا يسكنون أكثر من ثُلث العالم المأهول في ذلك الوقت، بل وأكثر من ذلك حرَّك الأرباب والمقدسات والأديان، والأفكار والمعتقدات والأرواح، على هدي الكتاب الذي تُصبح كل آية من آياته قانونًا يُنظِّم، خلق أمة روحانية، امتزجت فيها شعوبٌ بأكملها من كل عِرق ولون ولغة، ترَك فينا الخاصيةَ التي لا تُمحى للأمة الإسلامية، ألا وهي كراهية الشِّرك بالله، وعبادة الإله الواحد الأحد الذي لا تُدركه الأبصار، هكذا تميَّز المؤمنون بمحمد بالالتزام الشديد بالوقوف ضد الآلهة المزيَّفة، والشِّرك الذي يُدنس السماء، كان دخول ثُلث سكان الأرض في دينه هو معجزته، أو على الأصح لا نقول: إنها كانت معجزة الرجل، وإنما معجزة العقل، فقد كانت فكرة الإله الواحد[2] التي دعا إليها وسط أساطير وخرافات رسَّختها ممارسات الكُهَّان وخُدَّام الأوثان - معجزة في حد ذاتها، استطاعت - فورَ أن نطَق بها - أن تُدمر كلَّ معابد الوثنية، وأن تُضرِم النار في ثلث العالم.

إن حياته وتأمُّلاته في الكون وثورته هي البطولة ضد الخرافات والضلالات في بلده، وجراءته على تحدِّي سَخَط الوثنيين، وقوة تحمُّله للأذى طوال ثلاثة عشر عامًا في مكة[3]، وصبره على تعسُّف القوم وازدرائهم، حتى كاد أن يُصبح ضحيتهم كل هذا، مع استمراره في نشر دعوته، وحربه ضد فساد الأخلاق وعادات الجاهلية، وإيمانه العميق بالنجاح، وسكينته عند الشدائد، وتواضُعه عند النصر، وطموحه الذي كان مُكرَّسًا لفكرة واحدة، لا سعيًا وراء الجاه والسلطان، وصلواته التي كانت لا تنقطع، ومناجاته لله، وموته وانتصاره الساحق بعد الموت - تشهد جميعها بأننا لسنا أمام أفَّاكٍ مُدَّعٍ، وإنما نحن أمام إيمان راسخ، واقتناع لا يَتزعزع، فقد أعطاه اعتناقه القوة ليُقيم الدين، فبنَى عقيدته على مبدأين أساسيين؛ هما: أن الله واحد، وأنه غير محسوس ماديًّا، بالمبدأ الأول نعرف مَن هو الله، والثاني ترتبط المعرفة بالغيب، إنه فيلسوف، خطيب، مشرِّع، مُحارب، فاتح، مفكر، رسول، مؤسس دين عقلاني وعبادة، بلا تماثيل أو أوثان، وزعيم عشرين إمبراطورية أرضية، بالإضافة إلى الإمبراطورية الروحية التي لا تَحُدُّها حدودٌ، هذا هو محمد، فإذا نظرنا في كل المعايير التي نقيس بها عظمة الإنسان، فلنسأل أنفسنا: هل يوجد أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم؟)[4].

أما المرأة، فلها مع شخصه صلى الله عليه وسلم رؤية أُسرية، باعتباره زوجًا، وليس كأي زوج، بل الزوج العادل المنصف المتسامح، الذي لم يسمح لشواغل رسالته وعظائم الأمور حوله أن تتجاذبه فتَسرقه من أزواجه، أو يَسلُبُهنَّ حقوقهنَّ، فلم يُرْهِبُهنَّ بكونه رسولاً وهنَّ أُمهات المؤمنين أن يَتغاضينَ عن حقوقهن أبدًا..، فهذا خُلقٌ يليق بصغار الرجال الهُمل النكرات، وليس بخُلقه الكريم صلى الله عليه وسلم، وما كانت لترصد تلك المعجزة إلا امرأة، فتقول الدكتورة ليلى أحمد الأحدب[5]: (أي رجل يكون له تسعة نسوة، ثم يستطيع أن يصوغ حياته وحياة الناس من حوله بهذا الشكل العبقري؟!.... إن هذا التوازن بين الروح والمادة الذي اكتست به حياة رسولنا حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام هو بحد ذاته معجزة ودلالة على أنه نبي).

ويدعم ما ذهبت إليه الدكتورة ليلى وما فيه من تماسٍّ من علاقته صلى الله عليه وسلم بأزواجه رضوان الله عليهنَّ وبين الناس، بسمته صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تكن الحياة حوله رغيدة يسيرة، لكونه نبيًّا يستعين بمدد السماء كلما أعْوَزته حاجة، ناجى ربه، فاستجاب له.

إن الذي يؤسِّس منزلاً لحياة زوجية أو شركة، لا تراه إلا مشغولاً مهمومًا قَلِقًا، لا تكاد الابتسامة تلامس شفتيه، فما بالك بمن ينشر دينًا وينشئ دولة ويدعو ويجاهد، ورغم عظيم مسؤولياته بالقيام بأمر الدعوة الناشئة، وتأمين مَن آمنوا معه من غوائل المعتدين، والوقوف أمام ما تَبثه أفواه المنافقين من دسٍّ رخيصٍ عليه وعلى آل بيته، والإجابة على ما يطرحه اليهود من أسئلة تعجيزية - من وجهة نظرهم - بُغية إحباط نفوس الملتفين حوله من المؤمنين، فينفضون عنه ويتركونه قائمًا، ودأبه على تنظيم الغزوات وإخراج السرايا لصد الهجوم الباغي الطاغي على الدعوة لوأْدها سريعًا في مهدها، ذلك الهجوم الذي تكاتف عليه فيه اليهود والمنافقون من الداخل، والمشركون من الخارج، والدولة الرومانية وأذنابها على الحدود بعددها وعَتادها، ومعاناته في تلقي الوحي، وحفظه في السطور بعد الصدور، وإرساله السفراء بالرسائل للملوك لدعوتهم للإسلام، وتنظيم المجتمع ليتعايش فيه المسلمون وغيرهم، ثم حق آل بيته من أزواجه الطيبات المؤمنات الطاهرات وأبنائهن وبناتهن، وبناته وأحفاده، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم بالزوج المتشاغل عن أمور بيته أبدًا، وإلى جانب هذا كله أسئلة المؤمنين والمؤمنات فيما يشغلهم وفيما يَجِدُّ لهم من حياتهم الإيمانية الجديدة من أمور تعبُّدية، أو من معاملات فيما بين الرجل وامرأته، والمسلم وأخيه المسلم، مما يلزم معه لقاؤه بهم وتعليمهم، ثم قيامه بواجب القضاء والفصل في كل ما يَنشَب بينهم من بيوع ومواريث وغيره، وفوق ذلك كثير، ولو عددنا ما أحصينا ولا توقَّفنا.

برغم كل ما تقدم، لم يعهد المسلمون في نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا الوجه الأَلِق المنير ببسمة لا تكاد تُفارق شفتيه، حتى في أشد المواقف التي تكاد تَعصِف به ومَن معه، كانت بسمته دومًا سلاحه الذي يعتصم به بعد اعتصامه بالله عز وجل، وكانت الفرع الباسق النَّدِي المُطِل من شجرة رحمته؛ ليُظِل مَن حوله، فيسري الأمن إلى قلوبهم.

أخرج الترمذي في المناقب عن عبدِالله بنِ الحارثِ بنِ جزء رضي الله عنه، قال: (ما رأيتُ أحدًا أكثرَ تبسُّمًا من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم)[6].

وكان الصحابة من حوله صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه الرسول الحق من الله الحق، فقوله حق، وصمته حق، ومُزاحه صلى الله عليه وسلم كذلك حق، فهو المعصوم الذي لا ينطِق عن الهوى، فحفظوا له قدره، وعَظَّموه في قلوبهم، وقدَّموه على أنفسهم، وافتدوه بأرواحهم، ليس أحب منه على وجه البسيطة أحد، وليس أعظمَ منه صلى الله عليه وسلم - منذ أن خلَق الله عز وجل الأرض ومَن عليها، وإلى أن يَرِثَها ومَن عليها - أحدٌ.

يقول الدكتور محمد عمارة: "ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النموذج الأعظم للإنسان الكامل، الذي تكاملت في صفاته وشمائله وأفعاله الوسطية الجامعة، والتوازن العادل - فإن حياته وأُسوته وقدوته لم تخلُ من المُلَح والطرائف والنكات، التي نهضت بمهام الترويح عن النفس، وتجديد ملكات وطاقات القلوب، والإعانة على جد الحياة وصعابها، مع التزام الحق والصدق والعدل"[7].

فبسمته صلى الله عليه وسلم رحمة، ومُزاحه صلى الله عليه وسلم رحمة، وتواضعه صلى الله عليه وسلم رحمة، وتخفيفه لبعض التكاليف التعبدية عن أتباعه من المؤمنين رحمة، وأن يُشيح بوجهه عمن أغضبه رحمة، واختياره للأيسر لأُمته رحمة، واستغفاره صلى الله عليه وسلم عن أمته رحمة، وشفاعته لنا في مشهد القيامة والهول العظيم بين يدي الله رحمة، ومراجعته صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل في أمر الصلاة في رحلة العروج العلوية رحمة، ولو استطردنا لَفَصَّلنا وأسْهَبنا فيما أجمله الحق في قوله الفصل الجامع المانع الماتع الحق: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

يقول العقاد: "فاستراحة محمد إلى الفكاهة هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شمِلت كل ناحية من نواحي العاطفة الإنسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال، وكان محمد يتفكَّه ويَمزح كما كان يستريح إلى الفكاهة والمزاح، وكان دأبه في ذلك دأبه في جميع مزاياه، يعطي كل مزية حقها، ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها، ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمُروءة، وإذا مزح محمد، فإنما كان يعطي الرضا والبشاشة حقهما، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروءة، فكان مزاحه آية من آيات النبوة؛ لأنه كان كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي كريم"[8].

فمزاحه صلى الله عليه وسلم من تواضعه، نعم، إنه تواضُع، ولكنها رحمة على جناح بسمة هدهدت الخائف، وأمَّنَت المُروَّع، كان صلى الله عليه وسلم مبعوث الرحمة والعناية الإلهية لكافة البشر برسالة سامية جادة، يكسو البهاء والمهابة والجمال الوقور وجهه وشخصه، ومشيته وجلسته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء مَن دخل عليه فارتعدَ، فقال صلى الله عليه وسلم له: ((هوِّن عليك، فلستُ بملكٍ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانتتأكل القديد بمكة))[9].

إن أغرب ما نستطيع أن نتخيله معجزة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو "الفقر"، وهذا عين ما يراه مصطفى صادق الرافعي حين يقول: "إن فقره صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتسعُ في الكون لا في المال، فهو فقرٌ يُعَد من معجزاته الكبرى التي لم يَتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به، ومن أين تدبَّرته، رأيتَه في حقيقته معجزة تواضعت وغيَّرت اسمها، معجزة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنًا، وهي اليوم تثبتُ بالبرهان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفةِ نفسهِ: ((إنما أنا رحمة مُهداة))[10].

إن ما قاله الرافعي ليس من قبيل الكلمات الفخمة الرنانة التي لا يُؤيدها سندٌ من واقع أو فكر، فالرجل يُجلي ما ذهب إليه، فهو يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنزَّه عن التعلق بالمال؛ لأنه نبي الإنسانية ومثَلُها الأعلى، وأنه لم يكن يفتقر إلى امتلاك المال، بل امتلكه وجاد به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان ليترك المال عنده يتناسل ويتكاثر، ولهذا ختم كلامه بقوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوُتهم واختلاف مراتبهم، كيف يكون لهم عقل واحد من الكون؟ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يَفتنه أو يَصرِفه عن واجبه الإنساني، أبت نفسُهُ العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل، فيرتفع وتتهاوى ويصبح الذهب - وإنه ذهب - وليس فيه عند المؤمن إلا رُوح التراب)[11].

إن فقر الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هو الغريب المضاف إلى معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولكن "حب الصداقة"، وهي معجزة لم يكن ليتطرق إليها الفكر؛ يقول العقاد: "هي المحبة التي جعلت كثيرًا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم إياه، واطمئنانهم إليه، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والإيمان، إن عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها المقام العظيم في نظر بني الإنسان، ولكن قد يقال: إن استحقاق العظيم أن يحبه العظماء لأشرف من ذلك رتبة، وأدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان..، هذا صحيح لاريب فيه..، وهنا أيضًا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحدٌ من ذوي الصداقات النادرة.

فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الهمة، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة....، تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الإعجاز في باب الصداقات، وما استحقها محمد إلا بنفس غنيت بالحب وخلصت له حتى أعطت كل محبٍّ لها كفاءَ ما يعطيها؛ مودة بمودة، وصفاء بصفاء، وعليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار..، ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعًا بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة، وهما أشرف من نور البصر؛ لأنه نعمة يشترك فيها الإنسان والعجماوات، ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الإنسان"[12].

أما وقد استغرقتنا هذه المعجزات في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، بات من البيِّن الجَلِي أن الذات التي انبثقت منها ورُكِّبت فيها كلُّ تلك المعجزات، أن تكون معجزة في ذاتها؛ يقول خالد محمد خالد معترضًا على إلحاح المشركين في مطالبته صلى الله عليه وسلم بأن يأتيهم بالخوارق والمعجزات: "لقد جهِل المشركون أن الله جل جلاله لا يُمتحَن، ولا تناله اختبارات الناس وتفسيراتهم..، ومن ثَم فهم باطلون ومبطلون حين يتطاولون بالقول، فيسألونه سبحانه أن يريه مقدرته من خلال "محمد" صلى الله عليه وسلم من خلال قدرته وتوثيقه، وتأييده لهذه النبوة ولصاحبها..! لم يستطيعوا أن يرتفعوا بتفكيرهم إلى المستوى الذي عنده يدركون أن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي محمدٌ ذاته..، وأن أروع آياته ومعجزاته، ماثلٌ في أن الله جعله هُدًى ونورًا"[13].

وجمع د. عبدالمعطي الدالاتي للرسول صلى الله عليه وسلم بعض ما سبق؛ ليجعله معجزة: "لقد كان القرآن معجزة الإسلام الأولى، وكان الرسول بذاته وأخلاقه وسيرته، وانتشار دعوته - معجزة الإسلام الثانية، وحق للذات التي تجمَّعت فيها نهايات الفضيلة الإنسانية العليا أن تكون معجزة الإنسانية الخالدة"[14].

كم ماتت رسالات بموت رُسلها وأنبيائها، بل كم ماتت أفكار ونظريات سريعًا بموت أصحابها، وتفرَّق بعدها من آمنوا بها ودافعوا عنها ونافَحوا، ومات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كما يموت البشر بأمْر ربِّ البشر سبحانه وتعالى، ومع هذا فما زالت رسالته باقية خالدة، وستبقى، ويزداد عدد المؤمنين بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورسالته، لتشهد بصدق الإعجاز الخالد للرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول ر. ف. برادلي: "وفي الواقع إنها لمعجزة أن ما جاء به محمد لم يمُت بموته، إن هذا لشاهد آخر على شخصية الرجل، وعلى قوة الدين الذي أسَّسه".

يُبين ديدات أن النجاح ظل ملازمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته وبعدها، فيقول: "إن هذا الرجل - يقصد ديدات الرسول صلى الله عليه وسلم - نجح في حياته، واستمر نجاحه بعد موته على يد أتباعه، فقد صنع الأبطال، إنها مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم التي خرَّجت الأبطال والدعاة الذين جابوا الأرض شرقًا وغربًا لنشر دين الله ونوره، وتبليغه إلى الناس"[15].

إن تزاحُم الكمالات داخل شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أدهشت عقول مَن هم من غير أهل مِلَّتنا..، ولِمَ لا فقد كان سراجًا منيرًا يضيء بالكمالات فوق ما يخطر في بال الكُمَّل وفوق ما يخطر في بال الشخصيات؟ لقد كان نورًا باهرًا بهَر أحبابه وأصحابه، كما بهر أعداءه وخصومه صلى الله عليه وسلم، فكان الفريقان يَعجَبان منه أشد العجب من هذه الكمالات التي لا يتوقعها أحدٌ من بشر[16].

وبدأ تلك المحاولة الفيلسوف الهندوسي ك. س. رامكرشنة راو، فيقول: "إنه من الصعب جدًّا أن نصل إلى الحقيقة الكاملة لشخصية محمد، إنني لم أستطع الحصول إلا على لمحة سريعة منها، يا لها من تعاقب مثير لمشاهد رائعة! فهناك محمد النبي ومحمد القائد، ومحمد الملك ومحمد المقاتل، ومحمد التاجر ومحمد الواعظ أو البشير، ومحمد الحكيم ومحمد رجل الدولة، ومحمد الخطيب ومحمد المصلح والمجدد، ومحمد ملاذ اليتامى، ومحمد حامي العبيد، والمدافع عنهم، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، والحَكَم، ومحمد القدِّيس، ولقد كان محمد بطلاً في كل هذه المهام الجليلة، وفي جميع مجالات النشاط الإنساني على حدٍّ سواء"[17].

ولقد جمع الرجل بين الصفات التي يتحلى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين المهام التي يقوم بها؛ بناءً على قياسات لأقوال خلطت بين الأمرين؛ إذ يضع الفيلسوف "رينيه ديكارت" أن الواعظ الماهر ضمن أندر أصناف الرجال في العالم؛ لأنه جمع بين بالقدرة الفائقة على الوعظ والحديث الجاد، وهو أمر نادر الحدوث، كما ذكر ذلك الزعيم الألماني "أدولف هتلر" في كتابه "كفاحي"؛ حيث يقول: "من النادر أن يكون واضع النظريات قائدًا عظيمًا..، أما المحرك الاجتماعي أو السياسي، فامتلاكه لتلك الصفات التي تُرشحه للقيادة أرجح إلى حدٍّ بعيد، فهو دائمًا قائدًا أفضل، فالقيادة تعني القدرة على تحريك جموع البشر، والقدرة على تقديم الأفكار لا علاقة لها بالقدرة على القيادة"…، ثم يُصدر حكمَه الباتَّ في أن اجتماع الكمالات أمر عظيم ونادر الحدوث، كمن يشهد في ذات الوقت لجامع تلك الكمالات ضمنيًّا بالعظمة، فيقول: "إن اتحاد صفات وضع النظريات والتنظيم والقيادة في شخص واحد، هي ظاهرة من النادر جدًّا حدوثها في هذا العالم، وهنالك تكمُن العظمة".

وبناءً على تلك الاستقراءات التي جمعها رامكرشنة راو ورصدها، يصدر حكمه النهائي والأخير والمتجرد والمحايد، فيقول: "وقد شاهد العالم هذه الظاهرة النادرة تتجسد في شخص عاش على الأرض هو نبي الإسلام".

حقًّا لقد جاء حكم رامكرشنة محايدًا؛ لأنه استهلَّ دراسته بعِدة ملاحظات تمهيدية، أفصح فيها عن هندوسيته المغايرة للإسلام، وأنه لم يعتنقه، كما دعا إلى محاولة المرء للتعرف على جميع أديان العالم؛ لأنه شيء مرغوب فيه، وذلك بالروح الصحيحة، من أجل تشجيع التفاهم المتبادل والتقبل الأفضل لمن يعيشون معنا على المدى القريب والبعيد[18].

فالثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه كمالات بلَغ في كلٍّ منها الذِّروة، واجتماع هذه الكمالات في ذات واحدة معجزة وليس عبقرية..، فالعبقرية هي أن يتفوق الفرد في صفة واحدة وحسب..، أما أن تكون ذواته مَجمع كمالات، فهنا تكون "نبوَّة"، وتكون المعجزة هي ذاته صلى الله عليه وسلم التي جمعت الكمالات، وبلغت في كل كمال ذِروته؛ إذ كانت ذاته كسلوك وخُلق وسيرة، هي المعجزة التي تسعى على الأرض..، كما يرى مصطفى محمود[19] أن من يرى إدراك تلك الكمالات بمستطاعة لقصور نظره؛ إذ إنه يحسَبُها جملة واحدة، والأصح أن يعاينها مفردة، مفردة، فيظهر في ذلك التفصيل سر الإعجاز، فلئن بلغت ذات الكمال في صفة واحدة - فتَبُزُّ فيها وتتفوق على أقرانها - فهذه هي العبقرية، وأما أن تَمتحنه الأيام في كل صفة، فتبلغ فيها غاية المدى - دون مدرسة أو معلم - فهذا هو الإعجاز بعينه.

ولهذا فإن تزاحُم الكمالات في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخلق تناقضًا أو تضادًّا، بل تتناغم وتنسجم فيما بينها وتتكامل، وفي هذا يقول بديع الزمان النورسي: "ونقطة الإعجاز أن الأخلاق الحميدة لا تتخالف ولا تتباين فيما بينها، فإنها تتزاحم في درجة الكمال، فلو تفوقت إحداها ضَعُفَت الأخرى...، فاجتماعُ كمال الحلم مع كمال الشجاعة، وكمال التواضع مع كمال الشهامة، وكمال العدالة مع كمال المروءة والرحمة، ومنتهى الاقتصاد والاعتداد مع منتهى الكرم والسخاء، وغاية الوقار مع منتهى الحياء، وغاية الرأفة مع منتهى البغض في الله، وغاية العفو والصفح مع منتهى العزة بالنفس، وغاية التوكل مع منتهى الاجتهاد والسعي...، فاجتماعُ أمثال هذه الأخلاق الراقية المتزاحمة في شخص واحد - كل في ذِروتها دفعة واحدة، وانكشافها من دون تدافع وتزاحُم - هو معجزة المعجزات"[20].

نعم، معجزة المعجزات؛ إذ إن كل مفردة من الكمال هي بذاتها معجزة، واجتماعها في شخص واحد معجزة، وبلوغ كل مفردة من الكمال قمتها معجزة، واتساقها لا تضادُّها في نسقٍ واحد معجزة.

واجتماع تلك الكمالات في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بلُبِّ شيخ علماء الشريعة في عصره الإمام محمد أبو زهرة، مُقرًّا بعجزه عن الإحاطة بكل الكمالات المجموعة في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: "يا رسول الله، إننا نكتب في العظماء لنصور نواحي عظمتهم، ولكل عظيم ناحية واحدة من العظمة، فالاتجاه إلى تلك الناحية هو مفتاح عظمته، فتسهل معرفته، لكنك يا رسول الله فوق عظمة الأشخاص؛ لأن وجوه عظمتك تعدَّدت؛ حتى يَعجِز المحصي عن الإحصاء، والمستقرئ عن الاستقراء، وإذا نَفِدَت الطاقة أقرَّ مطمئنًا بعجزه، ومؤمنًا بأن وجودك في هذا الوجود معجزة البشر..، فكل شيء في حياتك الأولى كان من الخوارق التي علت عن الأسباب والمسببات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع، وإن كان مُحققًا، ولكنك كنت صنيع الله، فكنت معجزةً بشخصك وكونك ووجودك، ففيك البشرية، وفيك المعجزة الإلهية صلى الله عليه وسلم"[21].

المتأمل في تلك المقولات، وإن بدَت أمامه مختلفة الرؤى، إلا أنها كلها يضمها ويستوعبها شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فصدقه من أخلاقه، وأفكاره من شخصيته التي صنعت سيرته التي أصبحت خير مثال لأن يقتدي بها أصحابه رضوان الله عليهم، فيخرج منها هذا النور الرباني الذي ملأ الوجود من حوله صلى الله عليه وسلم، وتعطرت الدنيا بالعبق السماوي بنور الرسالة وهدي خير رسول، لتؤكد عن يقين وتشهد بحقٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بحد ذاته معجزة الإنسانية الخالدة، بل هو معجزة المعجزات، أُثبتها له كما أثبتها له كل من سبقوا حبًّا وكرامة، دون غلو أو شططٍ، إن لم يكن قد شابها التقصير، فلم ترقَ إلى بلوغ عظمته التي شهِد له بها ربه عز وجل في كتابه، وحسبي جهد المقل، وأن يكون ما كتبته في هذه السلسلة العطرة بنانًا تومئ إلي تلك العظمة في آفاقها...، وأختمها بتلك الأبيات التي فاضت بها على القلب نفحات طيبات من معايشة تلك الدراسات في حقه صلى الله عليه وسلم:
يا خيرَ مَن لمس الثرى، زين الورى 
نسبًا وطبعًا بالجمال تفرَّدا 
مَن ذا يُطاول قدره؟ بالله من؟ 
والله من ناداه ذا علم الهدى 
إذ بشَّرت كتب الكرام الأنبيا 
بقدومه هذا الأمين محمدا 
هذا الذي أنواره قد أشرَقت 
فالكائنات هوَت لربها سُجَّدا 
هو رحمة للعالمين ما إن أتى 
عمَّ السلام على البرايا سَرْمَدا 
مِن معْجزات الله أن صانَ اسْمَه 
لا قبْله نُودي سواه أحمَدا 
صلوا عليه وسلموا تسليمًا 
لا تَسْأَمُوا من ذكره إذ رُدِّدا 


[1] توفيق الحكيم؛ تحت شمس الفكر، ص 32 -33.
[2] يقصد "لامارتين" بفكرة الإله الواحد بـ"التوحيد"، وهي من عند الله تعالى، وليست فكرة من عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
[3] كانت بالنص الأصلي خمسة عشر عامًا.
[4] نقلاً عن الإسلام والمسيحية؛ ألفت عزيز الصمد.
[5] الدكتورة ليلى الأحدب؛ الموسوعة الإسلامية المعاصرة في حقوق المرأة، ص 14.
[6] المناقب باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم (5/601).
[7] د. محمد عمارة؛ المنهاج النبوي في المداعبة والمُزاح، مجلة منبر الإسلام، العدد 3/3/2008.
[8] عباس محمود العقاد؛ عبقرية محمد، ص140.
[9] رواه ابن ماجه في الأطعمة (3312) ، والحاكم في المستدرك، كتابالمغازي والسرايا (2/50)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولميخرجاه، ووافقه الذهبي، عن أبي مسعود، وصححه الألباني في صحيح ابنماجه (2677).
[10] مصطفى صادق الرافعي؛ وحي القلم، ص 44.
[11] المصدر السابق، ص 49.
[12] عباس العقاد؛ عبقرية محمد، ص 81 - 82.
[13] خالد محمد خالد؛ الإسلام ينادي البشر إلى هذا الرسول، ص110.
[14] عبدالمعطي الدالاتي؛ ربحت محمد ولم أخسر المسيح، ص 11.
[15] أحمد ديدات؛ الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، ص 15.
[16] د. محمود أحمد الزين؛ حديث عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، موقع تعرَّف على الحبيب صلى الله عليه وسلم.
[17] ف ك. س. رامكرشنة راو؛ فيلسوف هندوسي وأستاذ للفلسفة بجامعة ميسور في الهند.
[18] أحمد ديدات؛ محمد صلى الله عليه وسلم المثال الأسمى؛ ترجمة وتعليق: محمد مختار، ص 38-42.
[19] مصطفى محمود؛ محمد صلى الله عليه وسلم محاولة لفَهم السيرة النبوية، ص14.
[20] بديع الزمان النورسى؛ شعاعات معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ص155.
[21] محمد أبوزهرة؛ محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ص 12.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/75197/#ixzz3Bg8sBikq

الاثنين، 18 أغسطس 2014

في حضرة النقد حوار مع الدكتورة ديانا رحيل | دنيا الرأي

حوار في حضرة النقد مع الدكتورة ديانا رحيّل

السيد إبراهيم أحمد - شبكة الألوكة - الكتاب والمفكرون














لاتنفصل صورتها عن كتاباتها؛ فهيَّ ناطقة بالصراحة والجدية، ورغم قلة المادة العلمية المطروحة عنها، إلا أن قراءة مقال واحد لها فيما يشبه الدراسة، بألفاظها المحكمة، وأهدافها الممنهجة قد أفاد كثيرًا في استكشاف مدى ما تتميز به من علمية منهجية نظرية، وخبرة واحترافية تطبيقية..
ولمعرفة الأكثر والأعمق حول بعض القضايا النقدية والأدبية والحياتية الأخرى كان هذا الحوار مع الدكتورة ديانا رحيل أستاذ النقد الأدبي المساعد:

ــ ما لا نعرفه عن الدكتورة ديانا رحيّل؟ عن الوطن ؟ 
ــ أكاديميّة أردنية، حاصلة على دكتوراه لغة عربية تخصص أدب ونقد من جامعة اليرموك سنة 2013، وماجستير لغة عربية تخصص أدب وتحقيق التراث من الجامعة الأردنية سنة 2009.
أؤمن أن العلم هو الإمكانية الكبرى لبناء الإنسان، ملحة في الدعوة إلى الثقافة والكتاب، مقتنعة بأن الأمر ضروري لتحقيق التحرر الفكري وبناء الشخصية.
أما وطني الأردن فله عشقي على الدوام، حاضن للروح، دعواتي بألا يريني الله بأسًا به.

ــ كلنا نتمنى للأردن ولكل الدول العربية كل خير، ولكن لدي ملاحظة استوقفتني، لماذا لم تحفل الشبكة العنكبوتية بكتبك ودراساتك ولقاءاتك؟ حتى أطروحاتك في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ماذا كان موضوعهما؟
ــ منذ تخرجي من الدكتوراه العام الماضي بدأت أكتب قراءات نقدية لبعض الأعمال التي وجدت فيها زوايا أحب البحث فيها، والناقد ــ الذي يريد أن يكون مبدعًاــ يحتاج للقراءة باستمرار لصقل موهبته النقدية، فالدكتوراه لا تصنع ناقدًا، بل هو مَن يصنع نفسه، بالقراءة ثم القراءة ثم القراءة، وأيضًا القارئ ليس ساذجًا، بل يستطيع أن يميز الناقد الحق من غيره، لذلك أقول أنني ما زلت في طور القراءة، لكن أكتب بعض القراءات وأنشرها في صحيفة الدستور الأردنية، وبعض المواقع الإلكترونية. 
أما أطروحة الدكتوراه التي ستصدر قريبًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عنوانها: "بنت الشاطئ ودراسة التراث الأدبي وتحقيقه" بيّنت فيها جهود الدكتورة عائشة عبد الرحمن في خدمة التراث، وما قدمته من تحقيقات ملتزمة فيها بالمنهج العلمي الدقيق. أما رسالة الماجستير التي صدرت عن دار أروقة للنشر والتوزيع سنة 2013 فهي بعنوان: "الفصول المختارة من كتب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، لحمزة بن الحسن الأصفهاني- دراسة وتحقيق" هي عبارة عن رسائل للجاحظ جديدة تُنشر لأول مرة، غير تلك التي نشرها عبد السلام هارون وحسن السندوبي والحاجري وعبيدالله بن حسان، وقدمت دراسة لمضمون هذه الرسائل.

ــ خبر جيد برسائل للجاحظ جديدة، ولكن مَن الأساتذة الذين تأثرتِ بهم بشكل غير مباشر، أو مَن اتصلت بهم وكان لهم جميعا أثر في حياتك؟
ــ تأثرت بمشرفي في مرحلة الدكتوراه الأستاذ الدكتور يوسف بكار، تعلّمت منه الكثير. وتأثرت بشكل غير مباشر بالأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد اطلعت على أغلب تحقيقاته، لفتني سعة اطلاعه. أما مَن يؤثر بي بكل كلمة كتبها هو إدوارد سعيد، مفكر عزّ تكراره.

ــ المفكر الراحل إدوارد سعيد، صدقتِ فهو رجل متفرد بحق، وما دام الأمر كذلك فلماذا لم تضعين كتابا حتى الآن في النقد الأدبي الحديث يواكب المد الثوري العربي الحادث الآن؟
ــ لأنني ما زلت حديثة العهد في مجال النقد، لا أملك رصيدا من ثراء الخبرة، ما يؤهلني لنصح كاتب أو ناقد، أو وضع أسس للنقد، لكن في المستقبل القريب إن شاء الله، سيكون عبارة عن موقفي تجاه الأعمال النقدية التي قرأتها، وسأشدد على حق الكاتب المغمور، الذي لم يُعرف بعد في الوسط الأدبي، في التعريف بعمله إن كان جادًا، لأن بعض النقاد يلجأون للكتابة عن الكتاب المعروفين، ويهملون الكتاب الجدد.

ــ ما شاء الله صراحة تحسدين عليها دكتورة ديانا، ولكن هل يخاف الناقد المبدع من الانتقاد؟
ــ يجب أن يقتنع الجميع بأن الاختلاف في الأدب يجب أن يكون اختلاف تكامل وليس اختلاف تضاد، والناقد إذا تحرّى الصدق في عمله النقدي، لن يخشى النقد، وعليه أن يحترم الاختلاف، فليس عيبًا أن يختلف في رؤية أو رأي، لكن العيب أن يدين الآخر لمجرد اختلافه عنه.
والأصل النقدي الذي يحرك النقد من الفكرة إلى الفعل هو الشعور العملي لما وراء النقد من فائدة ( للمستمع/القارئ) لاحقا دون تعسف نقدي، وقصدية ملحة تسعى خلف الإجراء النقدي وتجعلها غايته.

ــ هل الناقد المبدع يؤازر ويدعم نوع الأدب الذي يمارسه فقط كما قال ت.س إليوت؟
ــ إذا كان مبدعًا فلا يقتصر عمله النقدي على جنس أدبي، فالناقد الحقيقي يتعامل مع كل الأجناس الأدبية، بمبدأ العمل الأدبي بما فيه والناقد بما لديه، لكن قد يجذبه الشعر مثلاً فيخصه بقراءات أكثر، لكن دون نبذ الأجناس الأخرى، لأنها جميعا تصدر عن تجربة الشاعر الذاتية.

ــ حتى الآن يحاول أكثر من أستاذ في النقد البحث عن نظرية عربية نقدية خالصة، فما العوائق التي تمنع من هذا من وجهة نظركم كأستاذ للنقد؟
ـــ إن النقد الرصين هو ما يعوزنا لتغيير الخارطة الثقافية، وتهميش كثير من قناعاتنا (ذات الطبع المنتصر لغيره) وتسييد الاعتراف بالمنجز على حقيقته الأصيلة لا على ما نحكم عليه ارتهانا على الشعور.
وأظن أنه ليس بالإمكان وضع نظرية في النقد الأدبي محدودة بشروط معينة، لأن كل عمل فني يحدد المنهج والأحكام التي تطبق عليه، وتختلف من جنس أدبي إلى آخر، وأيضا من عمل أدبي إلى آخر.
ولكن قد تكون خطوطا عامة وهي التي أوجزها الدكتور إحسان عباس _رحمه الله_ بعائقين: الأول: عدم امتلاك الناقد للإحساس النقدي. والآخر: اختلاف المنابع الثقافية واختلاف المستويات الثقافية، وحدّة الانقسامات الجزئية في إيديولوجيات كثيرًا ما تكون متقاربة.

ــ هل نحن كعرب متخلفون في النقد عن الغرب؟
ــ لا لا، لكن لم نتقن بعد ثقافة النقد، لا نزال نعد النقد قدحا في شخص الكاتب، وتقليلا من شأنه، لذلك ندعو دوما الكاتب أن يتحلى بسعة صدر، ويتقبل النقد ويأخذ به، ويتدارك هفواته بالقراءة، لأن النقد يرفد العمل الأدبي ولا يقلل من شأنه.

ــ من وجهة نظر من يرفض أن يكون للناقد الأدبي شأن بالسياسة والأحداث الجارية لاختلاف الأدوات بين النقدين بينما هناك من ينخرط فيه حتى صار قضيته مع أي الرأيين تقف الدكتورة ديانا؟ 
ــ أنا مع أن يكون للناقد شأن بالسياسة والأحداث الجارية، فكثير من الإبداع الأدبي مشتبك بالهم الوطني. والنقد موكول له أن ينتج الأسئلة التي ترافق حالة الأدب، ويقترح مقاربات لمختلف الظواهر التي تحيط بالأدب، من تحولات تاريخية واجتماعية وسياسية.
والنقد هو شكل من التفكير في الممارسة الأدبية وفي سياق تلقيها وفي شروط محيطها. والنقد خطاب منتج للمعرفة، يثير الأسئلة حول وضعية الأدب في الممارسة والقراءة، وفي التعليم والثقافة، وفي السياسة والمجتمع، فالنقد ليس مجرد قراءات، بل القراءات ما هي إلا عنصر من بين عناصر أخرى تشكل الخطاب النقدي الذي يؤسس في النهاية لرؤية فكرية، فالنقد ثقافة ورؤية.

ــ من خلال مقالتك العميقة "العمل الأدبي ما بين الناقد والكاتب" وضعت يدك على أوجاع مفصلية في النقد العربي ولكنك شخصت الداء ولم تصفين الدواء؟
ــ جاءت هذه المقالة كرد فعل، بعد اطلاعي على قراءات نقدية عدة لمجموعة من الأعمال الأدبية، وكانت القراءة جيدة، أما العمل الأدبي فضعيف وركيك ولا يستحق القرءاة العادية، فكيف بالقراءة النقدية؟! وخصوصا أنها كانت من ناقد محنك، له باع في النقد، دفعني هذا الأمر للكتابة عن ثقافة النقد، وتعرية بعض النقاد الذين أسميتهم "المؤلفة أقلامهم"، يخونون أقلامهم لأجل مصلحة شخصية، وكان الخاسر الأكبر بذلك هو النقد.
الدواء الشافي هو أن يمنح الناقد نفسه مساحة كافية من الحرية، وتقبل الآخر، وعليه ألا يتجاهل الحقائق، أو يتعصب لرأي، أو يهمّش آراء الآخرين، وألا يشهّر بالآخرين كي يشتهر على حسابهم. فالناقد بما يملكه من أدوات تؤهله دون غيره لكشف جوانب الإبداع في العمل الأدبي، بعيدا عن الشللية أو التصادم أو المحاباة.

ــ من أكثر أمراض المجتمع الأدبي العربي (الشلليّة) فهل ما زالت تقف عائقا أمام ترسيخ ثقافة النقد؟
ــ في أكثرها نعم للأسف، لأن بعض النقاد يعتمدون أسلوب المحاباة في نقدهم، يغالون في مدح عمل معين رغم رداءته، ويقينه من ذلك، وهذا موجود ونقرأ عنه، في المقابل يهمل بعض الأعمال الأدبية الجادة التي تستحق القراءة، لأن هذه الفئة من النقاد يمارسون وظيفتهم النقدية اعتبارا للعلاقة بينه وبين الكاتب، فأعمال أصدقائه يعمل على قراءاتها ونقدها نقدا إيجابيا، مهما كان مستواها الإبداعي، ويجعل منه مبدعا، وخلاقًا، ويصنع من أشباه الشعراء والكتاب رموزا في الشعر والأدب، ولكن حين يقرأ عملا لآخر لا يعرفه، يكيل له قدحا وذما.
لكن لا نعدم الخير في الفئة الجادة من النقاد، الذبن يقومون بجهود رائعة من أجل ترسيخ ثقافة النقد، بعيدا عن كل الضغوطات، لكنها غير كافية، نحتاج مزيدا من الجهد، وتوسيع قاعدة العمل.

ــ ما معالم الصحوة الأدبية التي دعوت إليها؟
ـــ الصحوة هي أن نعيد للأدب هيبته، وللعقول عقلانيتها، فالأدب الآن مليء بالغث والسمين، ويدور كثير من اللغط حوله في وسائل الإعلام المختلفة، ويقع الأمر على عاتق الكاتب والناقد على حد سواء؛ فالكاتب الذي يمتلك رغبة في الكتابة عليه أن يقرن رغبته هذه بأسلوب أدبي رصين لغة ومضمونا، رغم أننا لا نملك أن نمنع أحدهم من الكتابة، لكن عليه أن يعي ذلك تماما، فالكتابة المبدعة لا تأتي من فراغ، ولا تستجيب لدواعي العشوائية من الكيف، أما إن كان يبوح للورق عليه أن يعرف أن هذا لن يخلق منه مبدعا.
أما الناقد فعليه أن يقدم نقده بأسلوب حضاري يقوم على الصدق، والرغبة في الإصلاح، وليس ذلك الذي يقوم على الغلو في التأويل، والتهويل في الاستنتاج، ويحترم تعددية الرأي. 
وأيضا نريد صحوة أدبية تنتهي معها العلاقة المأزومة والتصادمية بين الناقد والكاتب، التي تصل إلى درجة القطيعة بينهما، وهذا كله يعتمد على ترسيخ تقافة تقبل الآخر.

ــ هل تبدو في الأفق بوادر جيدة لخروج جيل مبدع قوي، وجيل آخر ناقد واعٍ في عالمنا العربي؟
ــ لا أنكر وجود عدد من النقاد الذين لا يزالون محافظين على دور الناقد ورسالة النقد، ولم ينجرفوا في الفوضى النقدية، فلو نهض كل ناقد للنقد الرصين للأدب شعرًا ونثرًا، لاختلفت حسابات كثيرة. ولكن يظل الأمل معقودا على جيل جديد من شباب النقاد.




http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=428832



الأحد، 17 أغسطس 2014

'ليلة مع عالم الواو'..بقلم:السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي

'ليلة مع عالم الواو'..بقلم:السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي

    


بدعوة كريمة من الصديق المهموم بالعمل السياسي والوطني الشاعر محمد عبد القوي حسن مقرر لجنة شعر العامية بإتحاد كتاب مصر، وبتأكيد على الحضور من الشاعرة القاصة سونيا بسيوني مقرر شعر العامية بذات اللجنة والتي حضرت للحفاوة بي رغم مشغولياتها الجمة، لحضور ندوة عن رائد فن الواو الشاعر الكبير عبد الستار سليم.

    على كثرة ما حضرت من ندوات داخل وخارج البلاد، لم أقابل مثل تلك المودة التي تحف الحضور سواء من ارتقى سدة المنصة أو كان ممن التزم مقاعد المتفرجين، الكل في إقبال وسعادة وديناميكية كأنه مهرجان، فقد كانت بحق ندوة جامعة؛ إذ حضرها الشاعر المسلم وغير المسلم، والمصري والعربي، والشاعر والروائي والقصاص،الشباب والكبار، وابن الوجهين القبلي والبحري، والقناة، وأبناء العاصمة، ورغم كونها لجنة تخصصها شعر العامية إلا أنها احتضنت أختها الكبرى "الفصحى" وأفسحت لها مكانًا كبيرًا ولم يصبها الضجر من وجودها سرًا أوعلانية، فكاذب من يدعي أن أهل العامية يستاءون من الفصحى ويناصبونها العداء ويحاربونها، وأقول كاذب لأن كل من ينتمون لتلك اللجنة ممن يعشقون الفصحى وتتصل أعمالهم بها من أهل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، وكتاب ومعدين برامج، ووظائف أخرى مختلفة من رئيسها وكل أعضائها.

    الجميل أنك حضرت لتستمع لشاعر واحد وهو ما يحول دون اشتراك غيره معه، كما عهدنا في منتديات عدة، إلا أن كل من حضر أو أغلبهم كان له نصيب جيد من القول، فحظيت بمتابعة أصوات شابة واعدة، وأصوات رصينة حنكتها التجربة.

    بكل الترحاب والود كانت كلمة الناقد السينمائي الشاعرالأمير أباظة رئيس لجنة الشعراء، والذي ترك إدارة الندوة للشاعر ناصر دويدار رئيس تحرير مجلة شعر العامية الذي أدارها بكل اقتدار، ويضفي حضور الأستاذ مصطفى القاضي سكرتير عام الإتحاد ونائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية، الصفة الرسمية والاهتمام بالحضور جميعًا بلا استئناء.

  أما شاعرنا الكبير عبد الستار سليم فتحس وأنت جالس أمامه أن الصعيد كله خلف ظهره، جاء يحمل تراثه في قدسية، وكأنه يؤدي طقس متواصل متوارث تشرّبه من أجداده، وسقاه من إبداعه ما أينعت به قريحته وأزهرت وأثمرت. كان بيننا من عشق فنه ممن يحفظون أكثر ما يقول، ومع ذلك حضروا لأن الرجل وأنت عند مصبه لا تمل من المكوث في نهره، فمهما أغدق عليك من الحكم المبثوثة في شطرات أبياته تتلذذ بالسماع الذي يحرك القلب ويسكن العقل فتطلب المزيد، فكنا جميعًا وكأنه شيخنا ونحن المريدون نتلقى مواجيده، وقد أصابتنا حالة من النشوة والسكون.
  
   والرجل خير دلالة على تناغم الفصحى والعامية في الذات الشاعرة؛ إذ كان في الأساس شاعر فصحي ونال جائزة الدولة التشجيعية عن ديوانه "مزامير العصر الخلفي" عام 2005، ولكن وجوده بالبلد الذي عاصر من أنشأ هذا الفن "ابن عروس" جعله يهتم بدراسة الفن الشعبي خاصة فن الملحون "الواو"، الموشح، الموال"، حتى جمع أكثر من مجلد فيه.

  ولكن ما هو فن الواو لمن لا يعرفونه؟.. "الواو" فن شعرى يعتمد على اللهجة الشعبية، غني بموسيقيته، يشابه الموال الرباعى لكنه يختلف عنه فى الوزن والقافية، وقصيدة الواو تتكون من عدد من المقطوعات القصيرة وكل مقطوعة منها عبارة عن بيتين من الشعر يكونان أربع شطرات على وزن بحر شعرى معين، غير أن  قافية الشطرة الأولى تشابه قافية الشطرة الثالثة وقافية الثانية تشابه الرابعة وتشابه القوافي لا يعني توحد معانيها بل اختلافها، وسنتبين ذلك عنما نقرأ رباعية للشاعر عبد الستارسليم، مثل: "ﻏّﺑر ﻓﻰ وﺷﻰ ﺑﺎﺑورك / ﻋﺎﻣﻠﮫ ﻟﻰ ﻟّﻣﺔ وﻏﺎره / رﻣﺗﯾﻧﻰ ف اﺧر طﺎﺑورك / وﺑﻠﻌﻧﻰ ﻟﯾل اﻟﻣﻐﺎره ".
  
   وتتضارب  الآراء  حول سبب تسمية هذا الفن بالواو، وأميل إلى من يرى أن السبب هو تكرار ترديد حرف الواو بين شطرات المربع، وأميل بدرجة أقل مع من يرى أنها أتت من مفتتح القوال بقوله: "وقال الشاعر" قبل أن يلقي رباعيته.

    هذا الفن أحد الأسلحة الهامة في معارضة كل الأنظمة في كل العصور بما يتحلى به من حكمة وتورية وجناس، يفهمها المثقف كما يفهمها الأمي، وليس غريبًا أن يفهمه الأميون فمن ابتدعوه منهم، وهناك نوعان من المربعات هما المربع "المفتوح" الذي يسهل فهمه واستيعابه و"المربع المغلق" الذي قد يعسر فهمه، وربما كان التنوع فيه بين التخفيف والتعقيد هو ما كتب للواو الاستمرار حتى الآن.

 نجح حفيد ابن عروس الشاعر القنائي عبد الستار سليم في بعث فن الواو الذي كاد أن يندثر، فقام بالتعريف به، وتقديم دراسات مستفيضة عنه، وجمعه وتسجيله؛ فهو فن شفاهى غير مدون تعيه الصدور فنقله إلى السطور، ولم يكتفِ بذلك فطوره أيضًا،  وأصدر ديوانًا  شعريًا من تأليفه "واوعبد الستار سليم". 

   ويجوز قراءة عنوان مقالتي "ليلة مع عاَلَمْ الواو" وهو ما كان بالفعل، أو أن تقرأه بالكسر "ليلة مع عالِم الواو" وهو أيضًا ما تحقق حيث أن الريادة ثبتت للرجل في هذا الفن، ولكن المدهش أن الرجل في الأساس متصل بالعلم دراسة وتخصصًا ومهنة، إذ كانت دراسته الجامعية "علوم في الرياضيات البحتة والتطبيقية"، وهذا شأن كثير ممن ينتمون للحقل الأدبي والثقافي من خارج سرب الكليات المتخصصة في اللغات والآداب.

المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2014/08/17/338995.html#ixzz3AgcA7d8H