الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

الاقتحام الخاطئ قصة دكتور السيد إبراهيم .. ترجمة دكتور هادي عميرة

 

   إذا ضاقت بكم الصدور فعليكم بزيارة القبور .. نصيحة كانت أمه ترددها دائمًا لتجد الذريعة المناسبة لزيارة قبر والدها خوفًا من اعتراضات كانت تواجهها. لم يكن هناك بُد فقد خرج لتوه من معركة خطبة فاشلة انتهت كجنينٍ خرج قبل أن تحين لحظة ميلاده، ومثلما تنتهي معظم زيجات أيامنا هذه المنزوعة البركة كاللبن منزوع الدسم.

 

   لم يكن قرارًا سهلاً حتى تطيعه نفسه لينتقل إلى غرب المدينة الهادئ وحيدًا حيث يرقد السابقون الراحلون، لكنه أيضًا في قرارة نفسه قد ضاق بالزحام وثرثرة الأحياء وعائلته في اجترار أحداث تلك الخِطبة، وخاصةً تقريع والده له على رعونته وطيشه وتسرعه كلما رآه، مما كلفهم خسارةً كبيرة، حدَّثَ نفسه وشجعها باتخاذ قرار الرحيل إلى الصامتين، ليمارس معهم صمته بعد أن كثر كلامه في توضيح وجهة نظره وكثرة صمت من يشرح لهم تعبيرًا عن غضبهم منه.

 

    الظلال وارفة والهدوء يعم الأحياء والأموات، والقبور متراصة بيضاء كأنها فى عرضٍ ختامي للحياة، الصباح مشمس هاديء لأن اليوم ليس عطلة، والنظافة يلاحظها حتى الكفيف:

ــ  نعم.. هذه ولا شك مقابر الشهداء.

 

   هكذا حدَّث نفسه و طمأنها.. راح يمشي أمام المقابر كأنه قائد عسكري يستعرض قواته، تقع عيناه على أسماء مكتوبة بالأبيض على لافتات خشبية سوداء وتحتها تاريخ الوفاة، وقف متسائلاً:

ــ من الذى قتلهم؟ فهذا أعرفه، فما الذى قتلهم؟! ربما قتل هذا رصاصة طائشة، أو ربما انقضت على هؤلاء دبابة  أو أمطرتهم الطائرات بوابل من القذائف.. ولم لا يكون نتيجة لاقتحامٍ جريء.. أو ربما اقتحام خاطئ..

 

   لم يخرجه من تأملاته المتسائلة غير وجود طفلة بملابسها البيضاء في هذا المكان وحدها، يقترب منها، تنظر إليه في براءة وهي تلعب ببعض الأحجار الصغيرة  أمام أحد القبور لتفاجئه قائلة:

ــ باباك موجود هنا وأتيت لزيارته؟

 

لم يدرِ ماذا يقول لها غير أنه أومأ لها بالإيجاب مشيرًا إلى أحد القبور التي أمامه، فأشارت هي الأخرى إلى القبر الذي أمامها:

ــ وهذا قبر أبي ..

 

   لم يكد يسألها مع من قدمت إلى هذا المكان، حتى أشارت له على امرأة تتشح بملابس السواد قابعة تحت مظلة مُعدة عند مدخل المقابر بحيث يتاح للجالس أن تمسح عينيه جميع القبور بوضوح، وبدون أن يسأل هذه المرة أجابته الصغيرة ببراءة الأطفال المتناهية :

ــ هذه مامتي.

 

    كانت المرأة الحزينة من بعيد تتابع الموقف فإذا بها تهب واقفة تستنهض طفلتها متعللةً بأنه موعد الرحيل.. يمسك بيد الطفلة يلاعبها كأنها أحد أقاربه ماضيًا بين القبور نحو أمها التي لم تعره أدنى اهتمام ولم ترد حتى تحيته، في حين وقف هنيهة يتفرس ملامح وجهها الهادئ الجميل بلونه الأبيض المشرب بحمرة الحزن.

 

    مضت تلملم حاجتها وحاجة طفلتها في حقيبة معها.. حاول أن يتكلم، لكن نظرة منه تجاه الأسود الراقدة الرابضة أحسسته بأنهم قد يقومون بافتراسه غيرةً منهم على زوجة صاحبهم، فأحس بأنه جِرذ يلهو في غياب صاحب البيت، أحس بالحقارة فانسحب بهدوء..

 

   انصرف خارج مدار المكان، ووقف ينتظر خروجها حتى يعتذر لها، ولكن أحدًا لم يخرج، فعاود النظر من بعيد، ليجد المرأة قد عادت لمقعدها، وأخرجت حاجتها وحاجة ابنتها من الحقيبة، والصغيرة تعدو من جديد نحو قبر أبيها لتواصل لعبها أمامه، والأم تبتسم لها..

 

   أدرك أنه اقتحم علي هذه الزوجة المكلومة لحظاتها وخلوتها مع ذكرياتها اقتحامًا غير متعمد منه، مضى يضرب بحذائه الأحجار التي تقابله متمتمًا:

ــ ليتني لم أسمع نصيحتك يا أمي.. فقد ضيقتْ القبور الصدور أكثر، ولم يبدد الصمت سوى صوت أبي داخلى:

ــ أرعن.. طائش.. متهور...   

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...