الاثنين، 15 مايو 2017

طفلة الرؤيا في المسجد













لاأدري لماذا حلَّ عليَّ الاكتئابُ في هذه الليلةِ، مع أنها كانت ليلةٌ قمراء، وجاءت في نهاية الأسبوع والجمعة وقت راحتي، وتمادَى الحزنُ حتى انحدرَتِ الدموعُ على وَجْنَتي، دخلَتْ أمي غرفتي تُخبِرني بموعد طعام العشاء، فأذهلها وأفزعها ما رأَتْ مِن حالي، وأخذَتِ الأسئلةُ تنهمِرُ مِن فمِها، بينما كسا الهولُ والجزع وجهَها، وقرأتُ في عينَيْها أسئلةً تبحثُ عن إجابات، والمصيبة أنه لا إجابات عندي ولا تفسير!

ولكني وجدت تفسيرًا ربما راح عن خاطري، غير أنه ولا شك مستقرٌّ في رأسي، وذلك مَرَدُّه لمتابعتي للأحداث السياسية التي تصبُّها فوق رؤوسِنا نشراتُ الأخبار التي لا تَغِيب عن مشاهدها غالبًا صورُ الأطفال المشرَّدين أو المقتولينَ في بلادنا العربية والإسلامية فقط - دون بلاد وديانات الدنيا - مِن تشريد، وتهجير، ودكٍّ بالطائرات، وبألوان من المدفعية والرشاشات والبنادق في سوريا، والعراق، واليمن، وفلسطين، وليبيا، وأفغانستان، ربما كان هذا هو السببَ!

طمأنتُ أمي، وهدَّأَتْني ونصحَتْني أن أذهب غدًا لصلاة الجمعة معها في المسجد القريب في منطقتنا؛ فالصلاة والمساجد كثيرًا ما تفرِّج الهموم.
قابَلني والدي على العَشاء بابتسامتِه اللطيفة، وغالبًا ما يناديني: "طفلتي"، طمأنَتْه أمي عن سرِّ تأخيرنا، وفهِم ولم يشَأْ أن يسألني، فقد أدرك أن أمي قد قامَت بالواجبِ وزيادة، فلم يشَأْ أن يُثقِل عليَّ.

تناوَلْنا العَشاءَ الذي كان أشهى ما فيه مسامراتُ أبي ودعاباته التي أذهَبَت الحزن عن نفسي، وأنسَتْني ما كنت فيه، واستأذنتُهما في النوم مبكرًا لأصلِّيَ الجمعة مع والدتي ووالدي في المسجدِ، وقد أسعد هذا الخبرُ السارُّ والدي، الذي فاجأني بأن يكون الغداءُ أيضًا خارج المنزل، فليس لديه أعمالٌ أو مقابلات بعد صلاة الجمعة.

حاولتُ أن أنامَ دون أن أُفكِّر في أي موضوع من شأنِه أن يُعكِّر صَفْوي بعد هذا العَشاء الطيِّب، وممازحاتِ أبي التي أضحكَتْني، ومفاجأةِ الخروج معًا بعد صلاة الجمعة التي أسعدَتْني.
تسلَّل النُّعاس إلى عيني وئيدًا، فاستسلمتُ له في سرورٍ، ورأيتُ كأن سحاباتٍ بيضاءَ تطوفُ حولِي، وأنا لا أدري مكانَها، ولا ماذا تريد مني أو بي؟ وأنا في هذا المكان منزويةٌ في ركنٍ مِن أركانه، ممسكة بمِنْديلٍ أبكي كثيرًا ولا أدري من أي شيء أبكي، أو سر هذا الحزن بداخلي؟

وينقشعُ السحاب، ثم يدخل نور فِضيٌّ ينساحُ في المكان، وغلالةٌ رقيقة بيضاء تدورُ وحدَها في المكان، ولكني تبيَّنت أن طرفها في كف طفلةٍ مُمسكةٍ به، تقترب الطفلة مني شيئًا فشيئًا وكأننا يعرف بعضُنا بعضًا منذ زمن بعيد، وقد رقَّت لحالي وما أنا عليه، تقدَّمَت مني وهي تمسحُ بكفَّيها الصغيرتينِ دموعي وتمسحُها، وتتوسل إليَّ بنظراتها أن أكف عن البكاء، وأن أبتسم، ثم همسَتْ في أذني:
لا تبكي؛ فحالُك أحسنُ من حالي، وعلى الرغم مما حل بي فإني ما زلت أبتسمُ.

لم أستطِعْ أن أردَّ عليها، فقد انسحَبَت من المكان أو تلاشَتْ، لا أدري، وقد أيقظني صوتُ أمي لنتهيَّأ للخروج إلى الصلاة، وفي المسجد كانت هناك مجموعةٌ من المتَّشِحات بالسواد يبكين، وقد تبيَّن لي أنهن جِئن ليصلين على والدِهن صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة، فقد تُوفِّي ساجدًا أثناء صلاة الضحى، وبينما أنا أجيلُ النظرَ فيهن، نهضَتْ من بينهن طفلةٌ، أخذت تنظر إليَّ طويلًا، وأنا أنظر إليها كأنما أسيرُ في حُلمي الذي راودني بالأمس، ولم أَلْمَح في عينيها حزنًا أو بكاءً، بل سعادة غامرة، ثم تقدَّمت نحوي، وأخبرتني بأن والدها هو مَن سيُصلَّى عليه بعد قليل، فلمحت في عيني دموعًا فكفكفتها بكفَّيها، وهي تتوسل إليَّ ألا أبكي، وقبل أن أسألها: لِمَ لا تبكي والدها؟ أجابتني بأنها سعيدة أن الله حقَّق لأبيها ما كان يتمنَّاه دومًا في دعواته بأن يقبضه ساجدًا، كما أن وصيتَه لي بألا أبكيه، ثم التفتت إليَّ قائلة:
احمَدي الله، وداوِمي على الصلاة، وكُونِي رهنَ إشارةِ والديك، ألم أقل لك: إن حالك أحسنُ مِن حالي؟!

ثم انسلَّت من بين يدي، وأخذتُ أبحث عنها بين النائحات فلم أجِدْها، قيل لي: إنها نزلت لتُودِّع والدَها المسجَّى وتُصلِّي قريبة منه، فقد كانت كثيرًا ما تصلي خلفه في المنزل؛ ولذا فهي أولُ مَن أخبرت عائلتها بوفاته، وربما كنت معها على موعد لكي أفهم معنى أن تموتَ ساجدًا لله، ومعنى أن تنعَمَ بالحياة في مرضاة الله، ومعنى أن ترضى بقضاءِ الله، وتحمَده على ما أصابك في السرَّاء والضراء، ولا تتسخَّط منه.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/116177/#ixzz4hAJMW0zk

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...