الأربعاء، 21 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة – الحلقة 11








مع حلقتنا الحادية عشر نمضي على ضوء التمهيد الذي قدمناه بين يديها من حلقتين سابقتين استصحبت فيهما القارئ المسلم وغير المسلم ليرى بنفسه ويطالع مدى الحب الذي يكنه كل مسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال خواطر المسلم التي يرويها حين يكون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ومن شعوره بكونه حيًا مع يقينه بوفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك من خلال مسلمة وليدة حديثة عهد بالدين من غير جنس العرب وكيف آثرت الموت على أن ينطق لسانها كلامًا تقطع به عهدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياها، حتى أبين قوة رد الفعل عندما يتعرض نبيهم صلى الله عليه وسلم لأي أساءة ولو يسيرة.

وأتيت بما سبق تمهيدًا لرسالة وجهتها للرسام الدينماركي الذي أساء للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أعلنت صحيفة “يلاندز بوستين” الدانمركية عزمها القيام بمسابقة لرسامي الكارتون الدانمركيين في رسم صور لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كلٌ حسب ما يحلو ويعن له، وكان ذلك على إثر مقال نشرته صحيفة Politiken الدانمركية تحت عنوان: “الرهبة الشديدة من انتقاد الإسلام” المنشور في 17 سبتمبر سنة 2005م، والذي خصص للحديث عن الصعوبة التي لاقاها الصحفي الدنماركي “كارى بلوتكن” في إقناع الرسامين برسم صور للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بُغية تضمينها كتابه المزمع نشره، وعنوانه: “القرآن وحياة الرسول”، وهو كتاب موجه للأطفال وفي 30 سبتمبر سنة 2005م قامت الصحيفة المشار إليها بالتجرؤ بنشر (12) صورة كاريكاتيرية مهينة للرسول صلى الله عليه وسلم ضمن مقال عنوانه: “وجه محمد”، والذى دبجه وكتبه “كاري بلوتكن” وقد أعيد نشر هذه الصور تباعًا في الصحيفة النرويجية المسيحية Magazinet والصحيفة الألمانية Die Welt والفرنسيةFrance Soir وصحف أخرى في أوربا وأميركا لتعلن كل صحيفة صحيفتها في وقاحة من تهمة الخوف من انتقاد الإسلام.

وقامت الدنيا ولم تقعد لا شرقاً ولا غرباً، وكان رد الفعل صادم على جميع المستويات، فقد تصور الغرب أنه بمستطيع أن ينتقد شخصية كالنبى محمد صلى الله عليه وسلم ولا يلقي الشارع المسلم لتلك الإساءة بالاً خاصةً وأن معظم الشعوب الإسلامية تغوص حتى منبت رأسها فى زخمٍ هائل من المشاكل سواء الإجتماعية والسياسية والعسكرية ما هو كافٍ إلى جانب الفقر الجاثم على صدرها بأن يُلهيها تمامًا عن الالتفات إلى هذا الشأن وأنه سيمر مرورًا عابرًا، ولو خرجت بعض الاحتجاجات فربما ستكون على مستوى بعض الدوائر السياسية والدبلوماسية العربية والإسلامية هنا وهناك لبعض الدول وذلك حفاظًا على ماء وجهها أمام شعوبها، ومثل هذه الاحتجاجات يسهل التعامل معها ووأدها فى حينها، لتكون مثل هذه الرسومات بمثابة بالون اختبار لما سيحدث بعدها وما تتفتق عنه أذهان الحاقدين من تطوير الأداء الإنتقادى المنظم لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا ما دار بظنهم آنذاك.

ولمَّا نادت بعض الأصوات بأن مرد هذه الإساءة هو جهل الغرب بشخص ومقام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ـ رغم اعتراضنا ـ إلا أننا تعاوننا مع أصحاب ذلك التوجه، ومن ثم كتبت رسالة خاطبت فيها ذلك الرسام الأحمق الهالك عسى الله أن يرده عن غيه وقد تُرْجِمت فى حينها وأرسلت إليه، ولا أعلم إن كان قد قرأها من عدمه والأغلب أنه لم يقرأها كما سنرى، وهذا نص الرسالة:

ـ إلى الذى آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصب عليه حقد قلبه:

لقد أعادت إساءتك لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ذكرى مؤلمة لي حينما كنت طالبًا بمدرسة الأقباط الإعدادية في فصل المتفوقين وهو يضم الطلاب علـــــى اختلاف ديانتهم، وكانت بيننا صداقة وتزاور وتعاون إلا أنه فى إمتحان الدين وقبيل تسليم ورقــة الإجابة بادرنى زميلى جرجس:
هل أنهيت إمتحان محمد الذى ليس عليه الصلاة و السلام؟
فعاجلته بقولى: وهل أنهيت امتحان المسيح الميت؟

نعم، لقد عوقبنـا فـــي مجلس تأديب عند مدير المدرسة وكان مسيحيًا لنظام المدرسة القبطية، في حضور معلمين مسلمين ومسيحيين، لكن حينما فكرتُ فى الأمر وجدتُ أن جرجس كان مشحونًا من خارجه، وأنا بحثتُ له عما يؤلمه في عقيدته مثلما آلمني في عقيدتي دون داع، وتجاوزنا الحدث العارض لأن أساس العلاقة بيننا ليست نفي الآخر أو تصفيته.

لقد تربينا في الشرق على المحبة؛ فلا تكاد تجد فى تاريخ كثير من الأسر إلا وله أصدقاء ليس من ديننا فقط بل أصدقاء من غير ديننا، ومنهم صموئيل صديقي الذي كان يشاركني صــوم رمضان، وآخر كنت مدعوًا على الغداء عنده وحان وقت الصلاة وصليتُ فـي غرفة والده على قطعة قماش نظيفة قدمها لى بديلًا عن سجادة الصلاة، وكم كنت قارئًا نهماَ للديانة المسيحية وغيرها من الديانات السماوية وغير السماوية، ولا تزال مكتبتى يقبع داخل ركن منها ظاهر مجموعة من الكتب الدينية قد يعزـ ربما ـ على المسيحي أن تكون فى متناول يده.

في أحد أيام شهر رمضان المعظم وبعد انتهائنا من قيام الليل وجدتُ حارسًا شاباً لإحــدى المحلات التي يمتلكها أحد المسلمين يقرأ في كتيب صغير ظننته يختم القرآن الكريم، فإذا هو مسيحي يقرأ في الإنجيل فتناولته منه وكان يضم الأناجيل الأربعة فقط، وقلت له:

إن كتاب الحياة الذي عندي يضم إلى جانب ذلك أعمال الرسل.
وتصافحنا وشجعته. كم كان جوًا روحانيًا جميلاَ أن يقرأ المسلم في مصحفه، والمسيحي فــى إنجيله تضم هذا وذاك عباءة رمضان الحنون الرحيم التي منحـت لياليه لكليهما السكينة والرحمة، والإيمان للعالمين مثلما كان نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

تربيتُ منذ الصغر على حب الآداب والفنون والقراءة عن الأديان في الشرق كما في الغرب، وطالعت أديان الهند الكبرى وفلسفات اليونان وأفكارهم، وقرأت شكسبير، وسومرست موم، ومسرح راسين، ويونسكو، وشعر بودلـير، وجيته، ودانتى الليجيرى، وفولتير، وبول فاليرى، وسارتر، وتولستـوي، ودستويفسكي، وإميل زولا ويوجين أونيل، وويليامز، وأوزبون، ودورنيمات، وطاغور، ولا أجد غضاضة في أن أتجول في كل حدائق العلم فهذا مما حضني ديني عليه.

وبقدر إعجابى بفولتير بقدر تألمي منه حين كتب مسرحية عن سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم مملؤة بالمغالطات ليسترضي البابا الغاضب عليه، كما غضبت من دانتى الليجيرى الذي صدمني فى “الكوميديا الإلهيـة” حين وضع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وابن عمه الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه فـــــى الخندق التاسع من الجحيم وعذبـــهما بطريقة إجرامية، وللأسف كنــا نقرأها مترجمة دون هذا المقطع الذي كانت دور النشر تحذفه حتى لا تثير مشاعرنا.

ولم نعدم أن نجد على الطرف الآخـر ثلة رائعة من أمثال: برنارد شو، وجوته، واليكس كارليل، وجارودي، وبوكاي، وهونكه، وآن ماري شيمل، وبيرل باك وغيرهم كثير من علماء وعقلاء المسيحيـة الذين اعتنقوا الإسلام والذين لم يعتنقوه وهم يكتبون بحب وبوعي، وفى مصر أيضًا، مثل الأستاذ خليـل اسكندر قبرص في كتابه: “دعوة نصارى العرب إلى الدخول في الإسلام”، وهو مسيحي عربي، والمنصف المحايد الدكتور نظمي لوقا وكتبه، ومنها: “محمد الرسالة والرسول”، و”محمد فى حياته الخاصة” وغيرهما، وهو مفكر مسيحي، وكذلك المفكر المسيحي المعاصر دكتور نبيـل لوقا بباوي فـــي كتابه: “محمد والخناجر المسمومة الموجهة إليه”، وغيره من كتبه عن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، غير أن كتاب بباوي عن الخناجر المسمومة لم يضـم بين دفتيه آخر تلك الخناجر وهو خنجرك أيها الدنماركي المتجاهل، ومع هذا كنا نتقبل تلك الطعنات من مستشرقين ومستغربين فنردها إمَّا إلى حرية التعبير التي تحظي بها أوربا وأمريكا، وأحياناَ إلى السطحية العلمية والجهل المصحوب بالحقد، كما كنا نشيد بكل من أضاف إلى فهمنا مفاهيم جديدة غابت عننا من ديننا وتاريخنا، وأولئك هم المنصفون من العلماء والمفكرين بحق.

غيـر أن الذي رأيناه فى الآونة الأخيرة مـن تدنيس للقرآن عن عمد والبصق والتبول عليه وتمزيقه وحرقه، وتعذيب المسلمين وقتلهم وهتك أعراضهم رجالًا ونساءَ واستباحة أراضيهـم، وتسفيه دينهم، وتأليف قرآنًا جديدًا لهم، والضغط على الحكومات المسلمة بالمعونات لتقليل حصص مادة الدين الإسلامى خاصةً وتغيير منهج تلك المادة لتحذف منه آيات وقصص الجهاد، ومنح العفو لليهود فلا نسميهم أخوة القردة والخنازير على سبيل الكناية، وحتى الدعاء لله عليهم لما اقترفوه ومازالوا يقترفونه من آثام في حق أهلينا بفلسطين وغيرها، حرمونا منه ولو في صلاتنا، وما نراه كذلك من سياسة الكيل بمعيارين، وأيضًا استقواء بعض من يشاركوننا الوطن أقباط الداخل برئيس أمريكا وأعوانـه علينا نحن المسلمين من أبناء وطنهم، لـم نجد فى هذا حرية تعبير، ولن أحدثك عن الهولوكست تلك الدائرة الحمراء التي لا تقوى أنت ولا غيرك على الاقتراب منها.

وبهذا القدر أكتفي من رسالتي لذلك الرسام الدنيماركي، ونستكملها معًا في حلقة الغد، أترككم على أمل اللقاء بكم مجددًا على خير..

http://www.zelmajaz.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85- 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...