الجمعة، 16 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 9




في الحلقة التاسعة أدعوكم لتعيشوا خواطري وخواطر كل مسلم فى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، والتي ستكون مقدمة ضرورية لحلقات قادمات، ومنها أيضًا استرواحًا لنفوسكم من عناء الحلقات السابقة، واستقبالًا لنفحاته صلى الله عليه وسلم، فهيا بنا:
والسيارة تدخل متهادية مدار مدينة الحبيب، كأنها تدلف براكبها حدود كوكب درى مبتور عن جغرافية كل العالم كجزيرة لا يحدها إلا طهو رالنور .. يُعَبِّر المسجد النبوى الشريف عن وجوده قبل أن نراه بمئذنتيه الشهيرتين كذراعين من ضياء تناجيان السماء، فإذا بالروح تسبح في الملأ القدسي تعلو بالجسد حيث لا جسد ولا كينونة .الزمن البشري بكل عقارب ساعاته قد توقف داخلي، واشرأبت كل خلجة مني وكل لمحة فيَّ لتسجل بانبهارٍ حبيب عظمة تلك اللحظات.
ما كدتُ أعبر عتبة حرمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب عبد المجيد حتى وقع نظري على القبة الخضراء الشهيرة التي صارت علمًا على المسجد والقبر وساكنه، فيخفق قلبي خفقانًا يعلو وجيبه ليصم الأذنين فلا أكاد أسمع شيئا، وحولي زرافات من محبيه وتابعيه وزائريه يرفلون كالملائك فى أزيائهم البيضاء يهرولون للقائه في شوق محموم.
يملؤنى إحساس غريب بوجوده صلى الله عليه وسلم .. بأنه فى انتظارنا ببسمته الوضاءة .. يفرش لنا رداءه كيما نتحلق حوله صلى الله عليه وسلم، وخبر السماء ما زال يتنزل عليه وكأن جبريل لم تنقطع زيارته له ..
أحس بأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ فى المدينة مازال دربه موصولاً بين بيته وأحبته ساكني البقيع يصاحبه غلامه أبا مويهية رحلة العودة بعد أن يسلم ويترحم عليهم .. جميعنا من مختلف الجنسيات ومن شتى البقاع لم نأتِ لزيارة غائب بل حاضرٌ يشتاقنا كما نشتاقه، والشوق لا يكون أعظمه وأوج حرارته إلا بين أحياء وأحياء.
أقف أمام قبره وصوتٌ داخلي يسري يصاحب خُطُواتي إليه: هنا يرقد حبيبك وشفيعك الذي طالما قرأت عنه وقرأت له أحاديث شريفة غاية في الإعجاز والبيان والفصاحة ودقة اللفظ دون إبهام أو غموض مع بلوغ الهدف من مراميها بأيسر السبل .. هنا يرقد معلم البشرية الخير، من تحاول جاهدًا أن تتبع سنته وتتأسى بخطاه. هنا قبر الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
أقف .. وكل هذه السنحات تمر برأسى . أقف.. وقفة المتهيب في حضرته صلى الله عليه وسلم، أنظر خلف تلك المشرفيات . لكأنه رآنى .. أرتعش أكثر . أتهيب أكثر .. أُلقي عليه السلام بحبٍ عميق وخشوع ٍ جم .. وكأني سمعته يرد عليَّ السلام الذي عَبَرَ مسامعى وأطرافي وغزا قلبي كسريان النسيم البارد الناعم .. مُرحبّاً بى فى رحابه وحرمه ومسجده وبيته صلى الله عليه وسلم ..
يتحول نظري يمينه صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتحول قلبي عنه أبدًا ـ فألقي السلام على صاحبيه اللذين آثرا أن لا يصاحباه رحلة الحياة وحسب بل ورحلة الممات أيضًا ليظل الحب موصولاً والأنس غير مجدود، فلقد كانا ـ رضى الله عنهما وعن سادتنا الصحابة ـ للرسول صلى الله عليه وسلم بمثابة السمع والبصر وأنىَ لبشر أن يستغني عن سمعه وبصره؟!
لم تكن وقفتي عند قبر رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة للتحية وتمضي بل كلها دروس وعبر مستفادة يتوجها هذا الإخلاص من رجال تدربوا وتلقوا ونهلوا وشربوا وتضوعوا من أريج شجرة ومدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقفة تردك للماضي قبيل زمن البعثة المباركة لنستطلع فيه حال الخليفتين وما كانا عليه، ثم حالهما فى زمن الهجرة ومقامهما بالمدينة، والعودة مع فتح الفتوح لمكة المكرمة وصحبتهما للرسول القائد صلى الله عليه وسلم في الغزوات والمواقف الحرجة التي مرت بها الرسالة، ليتفجر من كل هذه المواقف تساؤل: ومن لنا بمثل الرجلين، بل ومثل الصحابة الكرام أجمعين رضوان الله عليهم؟!
لقد مضوا مع زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكأنهم خُلقوا له لزمنه هو ثم آثروا الرحيل .. فهم رجال عشقوا الرجولة حياةً كما عشقوها مماتا .. وعندما تنظر أمامك ووراءك وتستطلع محيط الكون كله لتبحث عن مثلهم .. فلا والذى سمك السماء لن تجد؛ فقد كانت أهدافهم عالية، ومحبتهم سامية لله عز وجل وللعقيدة السمحة ولرسولهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، حب لم يشكله اللفظ وحده من خطب رنانة وأقوال جوفاء، بقدر ما كان نهجه كل ما هو عملي وفهم عميق لمعنى ومبنى الرسالة التي دانوا بها؛ فإن نادى المنادي بالهجرة لم يتأخروا عنها فهاجروا بحرًا وبرا، أو دعاهم داعي الجهاد في سبيل الله كانوا أول من شارك، أو دعت الحاجة للمال بذلوه هينًا رخيصًا حبًا وكرامة لقاء الأجر من الله تعالى، يفتدون نبيهم وسيدهم بأرواحهم وأبنائهم وأهليهم إن طلب وإن لم يطلب فكلهم رهن الإشارة ورهن الأمر لا الطلب وحسب ..إنهم العترة المحمدية .. التلاميذ النجباء الأوفياء السابحون السائحون في النهر المحمدى الصافى الفياض الطاهر، نهلوا من ينابيعه، وأُشرِبوا تعاليمه، ووعت عيونهم وجوارحهم وأرواحهم وشغاف قلوبهم أقواله وأفعاله وسكناته وحركاته، فتحلقوا حوله صامتين خاشعين كأن على رؤوسهم الطير ليسري فيهم وبينهم نورُ محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون والنور النبوي يصاحبهم حتى لتكاد تصافحهم الملائك في الطرقات.
يقطع عبق وقفتي الألسن اللهجى بشتى اللغات واللهجات من شعوب مختلفة عُرب وعجم كلهم جاءوا من فِجاج الأرض يقرؤنك يا سيدى السلام، ويستظلون بروضتك الهنية، ويتنسمون روائحك الطاهرة الزكية، ويستشرفون آفاق تلك الروح العالية .. ومقامك يا سيدى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم بينهم لا تمل منهم ولا يملون منك، يستعذبون وجودك، ويرفضون مغادرة حضرتك الندية. فإذا فارقوا فالدمع الثخين ينثال لاهبًا الخدود مخافة ألاَّ يكون اللقاء بك مرة أخرى .. فيناشدونك أن تطلبهم وتدعوهم إلى مدينتك مرات ومرات.
 ......................

ويغلق مسجدك يا سيدي أبوابه بعد التسليم من العشاء بوقتٍ قصير، فنمضي وملء جوانحنا وتحت جنوبنا ومضاجعنا نار الشوق تلهبنا .. فأطل على مآذنك السامقات لا أقطع ما بيننا من حديث ووجد، وأحيانًا ألف وأدور ماشيًا حول الأبواب كالطير روحًا خفاقة لا تمل ولا تكل .. وهل إلى مزارك ومسجدك جئتُ لكي أنم؟! وهل قطعت تلك الأميال الطوال لتكون مدينتك مضجعي؟! بل حرَّمت على عينيَّ الكرى كي تقر برؤياك يا حبيبى.
 ........................

لم يكد يسري آذان الفجر منسابًا كالنور في أنحاء المدينة المنورة حتى دبت الحياة في الشوارع تقطع سكون الليل حركة دبيب الأقدام المهرولة إلى المسجد النبوي العامر لتؤدي فرض الله ثم تتواصل مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى تباشير الصبح لتصل ما انقطع من حديث ووجد ما انقطع أبدًا .. فأنت يا رسول الله فينا قائما، حيًا داخلنا، فو الذى نفس محمدٍ بيده لم تغب عنا حتى ونحن في بلادنا وبين ظهرانينا وداخل ديارنا وبين الأهل نتعطر بذكرك، ونتذكر مآثرك، وندعو بدعائك المأثور، ونتدثر بنورك، ونستشفع بك صلى الله عليه وسلم في دعائنا لربنا سبحانه وتعالى.
وها قد دعا داعي الرحيل وعليَّ أن ألملم شتاتي لرحلة العودة، فاسْتثقلتْ الخطوات التي كانت تهرول إليك مسرعة وما لها لا تفعل فقد أتت تحمل صاحبها مودعة، ولستُ أحسن حالاً منها فالدمع يذيبني، والحسرة تملك مجامع قلبي خوفًا ويأسا كي لا ألقاك بعدها ولكم تمنيتُ الموت بالمدينة وأنا فيها إعمالاً للحديث الصحيح، والذي قلت فيه سيدي صلى الله عليك وسلم: "مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا"، حتى لا أفارق ديارك أو أبرح مدينتك، ولكن وجب الرحيل فوجب الوداع ووجب أن أقول بملء القلب:
السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته .. السلام عليك يا سيدى يارسول الله .. السلام عليك يا خير خلق الله .. السلام عليك يا من أرسله ربه عز وجل رحمة للعالمين .. السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين .. السلام عليك يا من وصفه الله بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .. السلام عليك وأسألك الصحبة، وأسألك مرافقتك في الجنة .. فاللهم عودًا إليك .. حبًا وكرامة واقتداء .. عليك يا رسول الله ومن مجامع قلبي الذي ينبض بحبك وحدبك عليك الصلاة وأزكى السلام.
والسلام عليكم أيها الأحبة أيضًا إلى حلقة جديدة من حلقات لا تنقطع بيننا بصحبة نبينا وفي نوره نسيح سياحة يسيرة إن شاء الله تعالى.. وصلى الله عليه وسلم .. فإلى لقاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...