السبت، 30 يونيو 2018

مَنْ ذَا الذِي قدَّدَ البَيان؟




هذا السؤال جاء عنوانًا لكتاب: “من الذي قدد البيان؟: أخطاء وخطايا لغوية مصورة”، وهو من تصوير وتعليق الكاتبة الكويتية حياة الياقوت، وقد صدر عن دار ناشري للنشر الإلكتروني، الكويت، عام 2006م. ويقع في (147) صفحة من القطع المتوسط، ويضم ثلاثة فصول.
والكاتبة حياة الياقوت هي التي أسست ورأست تحرير أوّل دار نشر ومكتبة إلكترونيّة مجانيّة في العالم العربي ويعرفها الكافة: “دار ناشري للنشر الإلكترونيّ”، كما أسست وترأس تحرير مجلة I-MAG الإلكترونيّة، وهي مجلة ربع سنويّة تُعنى بتقديم صورة عادلة عن الإسلام للقارئ الغربي.
كما أن للكاتبة غير هذا الكتاب العديد من المؤلفات، منها:
رواية: “كاللولو”، والمجموعة القصصية: “غابة الطين”،ورواية: “عَفَار”،كتاب للأطفال:”الحروف تخرج من البيت”، سلسلة كلامستان:”4 قصص للأطفال: تاء مربوطة؛ نون، نون، تنوين؛ الحروف تمد أيديها؛ مسابقة الحركات”، رواية “ألس في بلاد الواق واق! رواية ليست للصغار”.
تنحصر مهمتي في تقديم هذا الكتاب للقارئ العربي والتعريف به، وهو من الأهمية بمكان فهو مُعين لمن يحترفون الكتابة خاصة من الأجيال العربية الصاعدة وينقصهم الكثير من أدواتها، الأمر الذي حدا بالكاتبة إلى أن تضع كتابًا شيقًا يكسر رتابة وجمود مادته التي ترتبط بالقواعد الإملائية، والأخطاء اللغوية من حيث الشكل والمضمون، ومن حيث الوسيلة والغاية؛ فقد أدخلت تكنيكًا جديدًا على هذا النوع من الكتب الذي يملأ الساحة العربية، وذلك حين زاوجت بين الصورة والتعليق في لقطات محمَّلة بالخطأ الواقع في شارعنا العربي، وحين قدمت التصويب في لقطات موجزة دون استعراض تمكنها من اللغة، أو إبراز الفذلكة والإحاطة حتى لا تشتت ذهن القارئ، فجاء تصويبها كالرصاصة المنطلقة بسرعة لا تخطئ هدفها.
أمَّا من حيث الوسيلة، جاء الشكل لصًا محترفًا يسرق ذهن القارئ المحب المهتم، والعادي اللامبالي، ليجد نفسه على الرغم منه داخل دائرة الهدف، وأمَا من حيث المضمون، جاءت المعلومات ضافية وافية تمررها الكاتبة باحترافية القاصة، وحنو الأم المحبة للغتها العربية، والمشفقة على أبنائها الذين يميلون عن جادة الصواب اللغوي فتردهم في غير عنف، ولا لوم ولا تثريب ولا تأنيب، ولا تفرض هيمنتها العلمية عليهم بل تشاركهم في التعرف على الخطأ واكتشافه، ومحاولة تصويبه، والدواعي والأسباب التي تجعل منه خطأ، والنتائج التي تصيب الذائقة اللغوية جراء ذلك، والفارق بعد تصويبه، والقاعدة اللغوية الضابطة التي تحكم كتابته بهذا الشكل الصحيح.
تقول الكاتبة حياة الياقوت في تقديمها لكتابها أنه: (يقدّم بالصورة وبالكلمة عرضًا شائقّا لأهم الأخطاء اللغويّة التي توّجه إلى اللغة العربيّة في زماننا هذا. في “مختار الأخطاء” ـ وهو الفصل الأوّل من الكتاب ـ عرضٌ لأهم الأخطاء اللغويّة عن طريق استعراض إعلانات، ولافتات، وقصاصات من الصحف احتوت أخطاء لغوية، مع تصويب لهذه الأخطاء. أمّا الفصل الثاني، فيناقش أهمّ الأخطاء الإملائيّة عن طريق عرض صور لهذه الأخطاء، ويعقب ذلك شرح تفصيليّ لأهم القواعد الإملائيّة بأسلوب قصصيّ طريف. في حين يتناول الفصل الثالث وبتعمّق علاماتِ الترقيم ويعدد استخدامات كل علامة والأخطاء الشائعة التي يقع فيها كثير من الناس).
تبين الكاتبة السبب من وراء إصدارها لهذا الكتاب، وهو ما هالها من كَم الأخطاء التي نأتيها سهوًا دون قصد أو من تلك الخطايا التي نجترحها مع سبق الإصرار على الجهل، مع تعمد الإهمال، ولهذا فهو محاولة منها لتبصير العقول ولفت الأبصار إلى جرائم لغوية تقترفها ألسنتنا وأيادينا. كما أنه محاولة جادة منها في حماية لغتنا الحبيبة قبل أن تُقّدًد أي قبل أن تتفتت وتتقطع؛ فاللغة ــ عند حياة الياقوت ــ كائن حي يعكس الحالة الحضارية للشعوب الناطقة به، فاللغة تنمو وتضمحل، وتنتعش وتموت.
تعلن حياة الياقوت عن ثورتها في وجوه جميع الناطقين بالعربية، ولا تكتفي بهذا بل تضعهم جميعًا على خط واحد من المساءلة، وتحمل المسئولية، واتهام الذات قبل اتهام الغير، فتقول: (إنّها محاولة، إنّها راية حمراء أرفعها، علامة استفهام أُشهرها، لعلّنا نعلم كيف أننا نقوم ـ بوعي أو بعدمه ــ وكيف أنّنا نسمح ــ بجهل أو بتجاهل ــ بأن تُقدد أوصال لغتنا. هذا الكتاب وُلد لنعرف أنّنا جميعا شركاء ورقباء في حمل الرسالة قبل أن نقول: من ذا الذي قدَّد البيان؟).
وتُتْبع الكاتبة صرختها الثورية بصيحتها التحذيرية: (خذوا حذركم وانفروا! فثمة فتاة مزعِجة تجوب البلد لتلتقط أخطاءنا اللغوية). ذلك أن حياة الياقوت تجوب الشوارع والدروب والمولات والأسواق لتلتقط كل ما يقع تحت عدستها اللغوية، على أن عدستها التي تحرر المخالفة كالرادار على الطرق السريعة الذي لا يرحم من أسرع، وكذلك بنت الياقوت لا ترحم ولن ترحم من أخطأ في حق البيان العربي أو سيخطئ.
ولعل إطلالة سريعة على بعض لقطاتها بعدستها لأكثر من إعلان تجاري كُتِبَ بطريقة تؤذي عين وعقل العربي الفصيح، سليم البيان سترينا المنهج الذي اتبعته وابتكرته الكاتبة، ونبدأ باللقطة الأولى، وعنوانها: “دسمه فارغ”:
الخطأ: حليب خالي الدسم.
الصواب: حليب خالٍ من الدسم أو حليب منزوع الدسم. من يقرأ عبارة “حليب خالي الدسم” يفهم أنّ للحليب دسمًا لكنّ هذا الدسم خالٍ ولا تسألوني كيف يكون ذلك. بينما الصواب هو قولنا “حليب خالٍ من الدسم” أو “حليب منزوع الدسم” والثانية هي الأدق حيث إنّ الحليب بطبعه دَسِم
لكنّ هذا الدسم يُنزع.
أما اللقطة الثانية، فعنوانها: “مجزرة حروف الجر”:
الخطأ: شاركونا الأجر في حضوركم.
الصواب: شاركونا الأجر بحضوركم.أو شاركونا في الأجر بحضوركم. يجوز أن نقول شاركه الشيء وشاركه في الشيء، لكن ما لا يجوز قوله هو “في حضوركم”، والصحيح هو “بحضوركم”.
أي أنكم بواسطة حضوركم، تشاركوننا الأجر.هذا فضلا عن الخطأ في كتابة «مساءا»
إذ إن الصحيح كتابتها “مساءً”.
بعد أن حالفني الحظ في قراءة هذا الكتاب للمرة الأولى، أوصيت بقراءته كل من قابلت من الأدباء الشباب والكبار، لما فيه من تصويباتٍ ثرية، ومفيدة؛ فغالبًا ما تفوت كل منا فائتة من كتابة تعودها، أو أسلوب ألفه.
وكم لامني كثير من الأصدقاء ممن لهم كتب في نفس الموضوع بانحيازي لهذا الكتاب الشائق، وكنت أبين أن السبب راجع إلى ذكاء الكاتبة قبل علمها، وأنها لم تستند فقط على معرفتها بالقواعد فنثرتها في وجه القارئ ومضت، بل أحسنت العرض، ورصدت الخطأ، وبينت الصواب، بأسلوب جديد لا يبعث على الملل، ويجذب القارئ، ولا يجد المخطئ غضاضة في اتباع تعليماتها عن رضا.
ولئن شقَّ على البعض صعوبة عنوان الكتاب مع سهولة مادته، فربما كان هذا أيضًا من بواعث تشويق القارئ لمتابعته، وتحفيزًا له لفك تركيبة السؤال، وعندما جاء العنوان في صيغة الاستفهام، كان هذا نداءً للأفهام في تحري معرفة من قدَّد البيان.
ومن هنا أنصح كل من يتعامل مع العربية كتابةً وقراءة، ولو لم يكن من غير المتخصصين فيها، وليس كاتبًا أو مبدعًا: عليك أن تقرأ هذا الكتاب جيدًا، وهو قصة مصورة جميلة، تنتقل بك عبر لقطات مرصودة بعناية، وتعليقات قصيرة مكتوبة بدقة وحرفية وتركيز، تجعل تطبيق ما فيه عمليًا ويسيرًا في أسرع وقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...