الأحد، 1 يوليو 2018

لحظة مكاشفة مع الدكتور محمد حسن كامل يقدمها الدكتور السيد إبراهيم أحمد ــ ج3


   







لقد انتهى بنا الترحال عن المكاشفة والذاتية في السؤال إلى الجزء الثالث والأخير من إجابة المفكر الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب:

ــ عالمنا الجليل: في لحظة صدق مع ذاتك ومكاشفة .. لو استقبلت من حياتكم ما استدبرت.. ما القرارات التي لم تتخذها، وتلوم نفسك الآن أنك توانيت في اتخاذها؟ 

ــ محاورنا القدير الحَبر والحبر دكتور السيد إبراهيم أحمد ..تكمن الإجابة في "ساعة الكوكو" ..إجابة عاصفة للذهن!



ــ الإجابة في "ساعة الكوكو" حقًا يا دكتور؟!


ـ نعم ساعة الكوكو.. حينما يخرج هذا الطائر الصغير من ساعة الحائط ذات الصندوق الخشبي البُني اللون عند كل ساعة ليقول: "كوكو .. كوكو"عدة مرات تبعاً لعدد الساعات؛ فإذا كانت الساعة الواحدة سمعنا هذا الطائر مرة واحدة ..وهكذا..


و"ساعة الكوكو".. قصة قصيرة كتبها الأديب الرائع والنجم الساطع ميخائيل نعيمة ضمن مجموعة قصصية في كتابه الشهير: "كان ما كان" الذي كتبه في عام 1932م.

أعلم أنه قد نفذ صبرك.. وربما تسألني عن سر علاقتي بساعة الكوكو وقرار ربما اتخذته متأخراً في حياتي!

ـ نعم.. هذا ما كنت سأستوضحه منكم عن العلاقة بين السؤال والإجابة؟!


ــ سأجيبك: "ساعة الكوكو" .. تحكي قصة حب بين زمردة وخطّار، كل القرية كانت تقول زمردة لخطّار وخطّار لزمردة، في تلك الأثناء عاد إلى قريته بجبل لبنان مهاجر لبناني يحمل معه تلك الأعجوبة "ساعة الكوكو" التي أخذت عقل زمردة وراحت تقارن بين صاحب الساعة وخطّار.. قرر خطّار أن يحقق حلم حلم زمردة بإقتناء ساعة الكوكو..
ركب خطار البحر مغادراً قريته بجبال لبنان متجهاً إلى أمريكا .. وضاع مع الأيام ونسى حبه القديم . القصة تحكي مدى الإنبهار بحضارة الغرب في الوقت الذي ضاعت فيه حضارة العرب.

الجدير بالذكر أن أديبنا الرائع ميخائيل نعيمه عاش 99 عاماً أي نحو قرن من الزمن، قرن من التجارب والفكر والفن والأدب..

حاولتُ أن استفيد من هذا القرن الإبداعي الذي يختال بين دراسته في أوروبا الشرقية بجامعة بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و1911 حيث دراسة الأدب الروسي ثم درس الحقوق في أمريكا؛ فهو عربي المنشأ بينما جعبته الثقافية مملوءة من ثقافة الغرب الشرقي والشرق الغربي، بين أمريكا وروسيا. انضم الشاعر نعيمه إلى الرابطة القلمية وكان نائباً لرئيسها جبران خليل جبران في أرض المهجر بأمريكا..


ولد ميخائيل نعيمة في بسكنتا في جبل صنين بلبنان عام 1889 وتوفي 1988م .كان أديبنا الفذ واسع الثقافة والإطلاع موسوعي، ساعد في تطوير كتابة القصة العربية، فضلاً عن مدرسته في النقد الادبي بعيداً عن التعصب الديني والعرقي، معظم كتاباته كانت تدور حول الطبقة الكادحة.. 
من أهم أعماله: "كان ما كان" مجموعة قصصية من بينها" ساعة الكوكو" والتي كتبها عام 1932.


رافق الراحل نعيمه الشاعر جبران خليل جبران الذي ولد في 1883 وتوفي في نيويورك 1931م.. والدراس لسيرة كلا من الرجلين يجد أنهما من أعلام التنوير الغربي الذي بدأ في القرن الثامن عشر.

بعد تلك الدراسة قررت الإنتباه لدراسة أدب أوروبا الشرقية والسفر لتلك الدول والإقامة فيها سنوات بعد الدكتوراه الأولى في فرنسا، باحثاً عن ساعة الكوكو في إقليم البلقان بين المجر ورومانيا وبلغاريا، وفوق جبال الكاربتس وعلى ضفاف دلتا الدانوب الذي يشق عشرة دول أوربية .. شاهدت أطلال حضارة المسلمين في بلاد أوروبا الشرقية .. مساجد تحولت الآن إلى متاحف، مساجد أثرية تحمل عبق التاريخ والفن والحضارة الإسلامية تُباع بالمزاد العلني وهي تبكي دماً قبل أن تبكي دمعاً في الوقت الذي تُلقى فيه ملايين الدولارات في الحانات من بشر يُقال انهم مسلمون.. 

درست بعض لغات تلك البلاد وقرأت آدابها بالرومانية ولاسيما للأديب الشاب العبقري "ميهاي أمينسكو" الذي ولد في مقاطعة مولدوفيا عام 1850 وتوفي عام 1889 ....وهو بالطبع من أعلام التنوير في أوروبا الشرقية في القرن الثامن عشر..


عشت تاريخ الدولة العثمانية في تلك البلاد ....رأيت مخطوطات عربية أصلية ....صليت مع الناس في بلغاريا وحضرت ليلة القدر في مسجد يرجع تاريخه إلى القرن الخامس عشر ..عشت حلاوة الماضي ومرارة الحاضر..


لم أشعر بهويتي الثقافية التي بدأت تفيئ بظلالها الوارفة إلا بعد تلك الرحلة التي أخذت مني سنوات حتى أسطيع الطيران والتحليق في الفضاء بمزيج ثقافي عربي مسلم أوروبي غربي وأيضاً أوروبي شرقي، فضلاً عن زيارتي للمتاحف وديار الأوبرا العالمية..

شعرت بأنني ولد بار من أبناء تلك الطبيعة الساحرة التي تحنو عليّ بعلمها وفكرها وفلسفتها، ثم رحلة التأمل والتصوف والدلوج لمعامل الكيمياء والفيزياء وحسابات والمثلثات وغيرها وصولاً إلى التفكير في العلوم الكونية من أفلاك وذرات ومجرات، ومحاولة كتابة خواطري العلمية نحو القرآن الكريم بكل إحساس عشته مع هذا الكتاب الكريم الذي هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فضلاً عن قراءة العهدين القديم والجديد وفهم روح نص الحكمة من خلالهما .

تلك هي خاصية التلقيح الثقافي التي تقود المرء نحو فكر معتدل ورؤية أوضح وسلام نفسي ينسجم مع الكون كله ويحقق قيمة العبودية والعبادية لله رب العالمين .
هنا كانت ساعة الكوكو تصمت لا تريد إخراجي من تلك العباءة الكونية من الفكر والإبداع في كل مرة أصغي لساعة الكوكو التي تعنفني عن التأخير في القيام بتلك الرحلة التي قمت بها خلال السنوات الأخيرة من حياتي..

حاولت أن أقرأ القرن الفريد من عمر ميخائيل نعيمه...أن أكون وسطي الثقافة وشرقي وغربي العلم والفكر والإبداع .

الآن دقت الساعة وخرج الطائر ليأذن لي بالرحيل، لقد حانت ساعة الكوكو: (كو كو ....كو كو)..

ــ تبًا لتلك الساعة التي أنهت تلك الجلسة الماتعة في حضرة سعادة المفكر الموسوعي الدكتور محمد حسن كامل الذي أمتعنا بتلك الإجابة الصادمة للذهنية، والنقلة تاريخية، والسياحة فكرية، والمراوغة الدبلوماسية المحترفة في الفرار من قبضة سؤال كالضوء ساري عبر مفازات حياتكم الفتية الغنية...
ولكن ما حيلة المحاور مهما كانت ثقافته واحترافيته في المناورة والمداورة مع مفكر بحجمكم، وخبراتكم التي أحاول جاهدًا مطاردتها ومداهنتها عبر دهاليز الأسئلة، وليس عليه سوى التسليم والقناعة بما فاز به من صندوق أسرار محاوره..

خالص شكري وتقديري لشخصكم الكبير والكريم سفير الفكر والثقافة .. ولكل من تابعنا من السيدات والسادة الأعزاء.. على وعد باللقاء في تناول جانب من محاور الحوار الثرية بكل جديد ومفيد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...