الخميس، 17 يناير 2013

لحظة دفء بقلم : السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي

لحظة دفء بقلم : السيد إبراهيم أحمد | دنيا الرأي



... خلت الشوارع الأسفلتية فى قلب المدينة من المارة ..برودة منتصف ليل ديسمبر تشيع فى الأشياء.. السيارات تمرق كالسهام يغريها فراغ الأماكن وغياب رجال المرور ، أخذتْ تمشى على عجلةٍ من أمرها بينما كانت تتدثر بمعطف أسود كثيف الفراء ، بيدها حقيبة صغيرة .. أصداء اطارات العربات فى الشوارع الجانبية تصب فى أذنيها . البرودة المتسلقة الى ساقيها العاريتين أحسستها بخطأ تسرعها فى قرارها المتعجل بمغادرة منزلها سريعاً .. سيارة تنسل من جانبها... تعتلى الرصيف . أخذتْ تسير محتمية بالمحلات المغلقة .. برودة منزلها ساعدتها فى مغادرة كل شىء ، رنين صوته الناعم مازال طنينه بأذنيها : لكِ ما تريدين ، افعلى ما شئتِ .. رفعت يمناها فى ثورة كأنه أمامها ، صوت السيارات ذكرها بالشارع، تهندم غطاء شعرها ..أريده غير هذا ، حتى الآن لم يغزُنى ، بينما صار هو مُبرداً كبيراً ، كل شىء فيه بارد بارد . هكذا كانت تصرخ فى وجه محاولات أمها الفاشلة لتجميله لها وبسعادة ورفاهية ما تعيش فيه .. الأنوار الباهرة حيناً والخافتة تترك أثرها الضعيف على الأرصفة وصفحات الشوارع ، خطواتها تنتقل بسرعة من عامود إنارة الى آخر، رفعت رأسها تستطلع نهاية الشارع ، مايزال الطريق طويلاً بعض الشىء حتى تصل الى الميدان ، نسمة هواء باردة تمر على وجهها وساقيها أشعرتها بحاجتها الأكيدة الى الدفء الذى تشتاقه وتحلم به فى مثل برد هذا الليل القارس .. لكنه ليس ساخناً . هكذا تفوهت رغماً عنها بصوت شبه مسموعٍ لها ، تلفتت حولها فى ذهول ، هزت رأسها مؤكدةً لنفسها بأن أحداً لم يسمعها، نزلت من فوق الرصيف ، ها قد لاحت أضواء الميدان لها بينما الشارع يعلن عن نهايته ، كادت تتنفس الصعداء لولا أن شعوراً بالرعب يتملكها فجأة . تراه واقفاً فى قلب الميدان تماماً.تجمدت أوصالها ، مازال طربوشه يمتطى صهوة رأسه ، ومايزال منتصباً فى شموخ ، يسراه بجانبه واليمنى تشير سبابتها الى الأرض فى لهجة آمرة حازمة ، يتوسط وجهه عينان ناريتان تحتهما أنف مدبب أشم ، تقدمت نحوه خطوات و قدمها اليمنى تصعد بخوف الرصيف الدائرى للحديقة المحيطة به ، تواصل التقدم بوجل نحو القاعدة التى تحمله . فاجأتها سبابته الآمرة التى سيطرت على بصرها ، فجثت على ركبتيها مرتعدة .تتأمل شاربه الغزير الذى يحتل تقريباً نصف فمه الجميل . غزاها بصوته الجهورى ساخطاً ، بكت .. تلذذتْ ببكائها ، صرخ فى جوانبها صرخة رتبت كل الأشياء بداخلها ، اللمبات الفلورسنتية الصفراء المتوهجة تصب أضوائها العمودية فوق حلته الخضراء الداكنة الجرانيتية . تنسكب على جسدها . تشعرها بدفء طالما تاقت لمثله منذ زمنٍ بعيد، تتحسس حجراً صلداً مغروساً فى أرض الحديقة شبه المبتل ، تتفرس بركن عينيها تجاعيد وجهه . تلذذت بقسوته . أحست بلطمة عنيفة حينما احتوت نظراتها يده القوية ذات العروق النافرة ، راحت تبكى بكاءاً مُراً ، استعذبت جبروته وضعفها ، وإعراضه وإلحاحها . بدرت منها أنة استعطاف ، لكنه لم يأبه لها .. 
برودة العشب الأخضر الذى غافلها وسرى فى ركبتيها ، أعاد الى مسامعها وقع خطوات المارة البعيدة وهدير السيارات التى لا تمنح الميدان ولا صاحبه وقتاًً للراحة والهدوء ، قامت منهكة القوى . أعطته ظهرها ، لم تنظر اليه ؛ تخشى من مجرد النظر اليه ، لا تقوى عليه ، غير أنها استجمعت كل شجاعتها وقوتها وأدارت رأسها ونظرت إليه دون أن تحرك كل جسمها .
ما تزال سبابته الآمرة تشير اليها . تبتعد ، غادرت الحديقة ، هبطت إلى الشارع البارد فى خطوات متعبةٍ كسولة ، سارت مطرقة الرأس وصوته مازال يملاء جنباتها ، راحت تعدو مسرعةً وصوت كعبها الخشبى يتردد صداه بين فراغات الأبنية الشاهقة ، بينما فرحةٌ غامرة طاغية مجنونة تسود جسدها وقلبها بعد أن ظفرت بلحظة دفء طالما تاقت اليها وتمنتها منذ زمنٍ بعيــــــــد .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...