الأحد، 1 يوليو 2018

لحظة مكاشفة مع الدكتور محمد حسن كامل يقدمها الدكتور السيد إبراهيم أحمد ــ ج2







     التقينا في الجزء السابق مع إجابة الجزء الأول من السؤال الذي طرحته على المفكر الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب، من خلال حواري الممتد مع سيادته، ومضمونه: (في لحظة صدق مع ذاتك ومكاشفة .. لو استقبلت من حياتكم ما استدبرت.. ما القرارات التي اتخذتها، وتمنيت إنك لم تتخذها؟)، ونلتقي اليوم مع إجابة الجزء الثاني من السؤال الذاتي:

ــ مفكرنا الموسوعي الكبير بروفيسور محمد حسن كامل: في لحظة صدق مع ذاتك ومكاشفة .. لو استقبلت من حياتكم ما استدبرت.. ما القرارات التي أثنيت على نفسك فيها خيرًا؟ 

ـ الزميل الناقد والمحاور دكتور السيد إبراهيم أحمد ،الجزء الثاني من السؤال يتعلق بالقرارات التي أثنيتُ على نفسي فيها خيرًا، أذكر منها قرار سفري لبلاد الفرنجة .. قاصداً عاصمة النور باريس ..وهنا تبدأ الحكاية :

كنت مفتونًا بحركات التنوير في العالم، التنوير الذي يحرر العقل والفكر من براثن التبعية والتخلف والتنوير الذي يرسم ملامح الشخصية حينما تسافر للماضي للبحث عن صورة ذهنية ومثل أعلى ذات قيمة وقامة، ومنارة وعلامة، وراية ودراية ...
سافرت كثيراً بين حضارات ومنارات، وأقلام وأعلام في سراديب التاريخ، وأروقة الأحداث بعدة لغات ولهجات، وتقاليد وعادات..

أمتطيتُ جواد اليراع من ذرة إلى مجرة، من العودة للمستقبل للسفر في الماضي .. من المقام إلى الترحال ومن حال إلى حال حتى حطّت راحلتي وبركت ناقتي على شاطئ القرآن الكريم عند أول شجرة وظل.. وهناك وجدت الماء والكلأ والثمار والظل للكل، واحة خضراء في قلب الصحراء هي واحة: 

[اقرأ].. فعل أمر مبني على السكون تكرر في القرآن الكريم (3) مرات بالترتيب التالي: سورة الإسراء الآية (14)، وسورة العلق الآية (1)، وسورة العلق الآية (3)..


وجدتُ أن أول آية في القرآن حسب الترتيب:(ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ)، تتوسط الآيتين: (ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ) [سورة العلق:3]..
والآية: (ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [سورة الإسراء: 14]..
وتلك هي الآيات الثلاثة التي ذكرت فعل الأمر(اقرأ) أول كلمة في القرآن وأول واحة خضراء اهتديت إليها وربطت راحلتي في ظلالها .

من هنا أدركت التاريخ الحقيقي للتنوير الذي جاء مع أول كلمة في القرآن الكريم.. اقرأ وليس كما يدعي الغرب أن عصر التنوير بدأ في القرن الثامن عشر!

إذن للتنوير عصرين:
تنوير إسلامي، أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وله السبق على مستوى العالم، لم نقرأ في أي رسالة من قبل عن تنوير عملي مثل تنوير القرآن ..
وهناك تنوير غربي، وهو تنوير ضد قيود الكنيسة في أوروبا وظهر في بداية العصر الثامن عشر ومن ثم كان عليّ أن أسافر لبلاد الفرنجة وعاصمة النور باريس لأصحح تلك المعلومة التاريخية التي روّج لها الغرب ومحو وطمس التنوير الإسلامي في أول شعاع من نور جاء من السماء في مطلع الوحي بكلمة: "اقرأ".. 

تكررت كلمة "اقرأ في" القرآن الكريم ثلاث مرات تتساوى تماماً مع مراحل الشعور في الإنسان .. يبدأ الشعور بالإدراك عن طريق أي حاسة من الحواس مثلاً رؤية زهرة هذا إدراك والوجدان تولد شعور نحو تلك الزهرة بالإعجاب مثلا هذا يسمى وجدان والنزوع هو التحرك بالقول أو الفعل نحو الزهرة مثل قطف الزهرة مثلاً ... كذلك القراءة تبدأ بإدراك كما قال الحق في مطلع سورة العلق:
(ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ)..

بدأت بآية الإدراك ثم آية الوجدان وهي المشاعر الناتجة عن تلك القراءة وهي الآية الثانية التي حملت كلمة "اقرأ" من حيث الترتيب في التنزيل: (ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ) أمَّا الآية الأخيرة التي ورد فيها فعل الأمر اقرأ هي الآية 14 من سورة الإسراء وتحمل النزوع والحركة وهي:
(ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)..

هذا المنهج الشعوري للنور والتنوير أتى به القرآن الكريم لم ينتبه إليه أحد، بينما راحت أبواق الغرب تروج لفكرة ظهور عصر التنوير على أيديهم في بداية القرن الثامن عشر..
الأمر الذي يجعلنا أن نطرح سؤالاً على بورصة المعرفة في العقل عن ماهية التنوير أو تعريف التنوير؟
التنوير مشتق من النور والنور نقيض الظلام , ظلام العقل قبل ظلام العين !
ظلام في الإدراك يعقبه ظلام في الوجدان ويختم عليه ظلام النزوع....ويأتي التنوير مرادفاً للمعرفة بداية من الإدراك مروراً بالوجدان ثم استقراراً في مقصورة النزوع شريطة سلامة المنهج المتبع..


التنوير إضاءة للعقل وخروجه من قصوره الذاتي وحالة الكسل والفوضى والجبن لإعادة ترتيب الصور الذهنية في العقل ومناقشة مصادرها وألياتها وإعادة صياغتها بمنهج علمي حديث يستخدم آليات العصر من إستباط فكر ووضوح رؤيا تدفع البشرية للرقي والتقدم .. وهذا ما جاء به الإسلام دون تعصب أو ميل أو هوى ... وهذا ما ترجحه المناهج العلمية الحديثة بلغات متعددة.

ـ أشهد لكم مفكرنا الموسوعي العالمي الدكتور محمد حسن كامل رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب بأنكم رائد من رواد التنوير، وحامل لمشعل التغيير في مناهج الثقافة الغربية التي اكتفت بتنويرها ورفضت كل ما يأتي به الشرق من تنوير وتثوير، حتى ذلك الفيلسوف برتراند راسل وثلة من التابعين له...

ولهذا فأنت تقدم رؤية جديدة تتفق مع ثلة من مفكري الإسلام الكبار نحو بداية التأريخ للتنوير في العالم بظهور نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.. ورَفَضَها ــ للأسف ــ من أبناء المسلمين جماعة صاروا يؤمنون بكل ما هو غربي، وأصَّلوا وأطَّروا لعصر النهضة وشايعوه وانتصروا له..
بل نادوا بنقل تجربة التنوير الغربي بحذافيرها، ومحاولة غرسها في التربة الإسلامية، رغم التباين الشديد بين التربتين والثقافتين، والديانتين، وما يزال الصراع قائمًا حتى الآن بين المناهض والمشايع لهم..

بورك لكم مفكرنا الكبير في طرحكم، وبوحكم، وإجابتكم التي تنقلنا في سياحة فكرية ماتعة بين الشرق والغرب من خلال الرصد والتأصيل، وبارك اللهم في وقتكم وعلمكم، وعمركم، وسننتقل إن شاء الله إلى الجزء الثالث والأخير من إجابتكم على سؤالنا حول المكاشفة لذاتكم الكريمة..
خالص مودتي وتقديري لشخصكم الكريم أستاذنا، ووافر تقديري وشكري واحترامي لمن يتابعوننا من السيدات والسادة الأعزاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...