الاثنين، 2 يوليو 2018

عصام ستاتي: الْمِصّرِّيُ مَذْهَبًا..





   


    
    تتحدث الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها "شخصية مصر" عن دور الشيخ تقي الدين السبكي عندما كثرت الفِرق وزاد الخلاف بينها في القرن السابع الهجري وتأزمت الأمور، فيتطلع الإسلام والمسلمون إلى مصر لتحسم موقفها كدأبها في الأزمات الكبرى، فتقول: (فاتفق رأي العلماء على رجلنا الشيخ تقي الدين السبكي ليوفق بين المذاهب الأربعة ويخرج منها بالنفاذ المصري واللمح المصري والوجدان المصري مذهبًا ينقاد الناس له، ويرتاحون إليه، ويقرون عنده).

   فكأنها تتحدث عن رجُلِنا الكاتب والباحث "عصام ستاتي" التي شهدت مدينة "السويس" أشهر مدن جمهورية مصر العربية والعالم ميلاده في مقتبل ستينيات القرن الماضي، كما كانت شاهدة على رحيله إلى العالم الآخر في آخر يوم من شهر يونيه من العام الجاري 2018م، وبين التاريخين عاش مصريًا وطنيًا من المهد إلى اللحد، متخذًا من الوجدان المصري مذهبًا له إنسانًا وباحثًا، ويتطلع المصريون إلى النهل من علمه الواسع بالمصريات وتخصصه فيه حتى صار من أعلامه البارزة.

    ولقد عرفتُ الراحل الكريم منذ عشرين عاما وأَشهدُ أنَّهُ كان ابن مصر العاشق لبلده بعلمٍ وعمل، وتجردٍ وإخلاص، كما كان الإنسان الخلوق الذي ينصب فكره حول ما يكتب أو يعمل أو يبحث دون الدخول في دوائر الصراعات أو النفعية أو الشللية أو البحث عن دور أو مكان أو مكانة أو تَصدُّر المشهد، كان يريد أن يقول كلمته التي ستبقى بعده بكل صدق وأمانة، على أن تكون نافعة في الناس.

    عاش وأخلص "ستاتي" لمصريته: الحضارة والتاريخ والتفرد والامتداد، وعكف مثلما عكف غيره من الباحثين المخلصين في إثبات وحدة تاريخ مصر كما سبقه إلى هذا الراحل الكبير محمد العزب موسى، في كتاب له بنفس العنوان، والذي يبرهن فيه على أن التاريخ المصري هو تاريخ شعب واحد لا شعوب متعددة، وأنه تاريخ واحد بلا انقطاع، وكما أسس لهذا الدكتور جمال حمدان من قبل.

     ولئن كتب غيره كتابًا واحدًا في هذا المضمار واكتفى، كان هذا الأمر هو قضية "ستاتي" ومحور عمره الذي ارتكز عليه، ودار حوله، وعمل على إثباته عبر سلسلة            من الكتب التي أصدرها التي يمكن أن تشكل موسوعة لو ضُمَّت لبعضها، ومن أهم مؤلفاته: [السمسمية بين الواقع والأسطورة، مقدمة في الفولكلور القبطي، اللغة المصرية الحالية، شم النسيم: أساطير وتاريخ وعادات وطقوس،القلزم بين حقيقة التاريخ وأسطورية الإبداع السردي]، أما "ليالي الفطام" فهي عمل أدبي صب فيه خلاصة دراسته لعلم النفس، وفهمه العميق للنفس الإنسانية وتبحره في عوالم الأدب والقصة خاصة.

    تأتي آلة السمسية لتؤكد منهج "ستاتي" في البرهنة على أن حضارتنا المصرية حضارة واحدة .. مستمرة .. متصلة بلا انقطاع، فيقول في كتابه "السمسمية بين الواقع والأسطورة": (السمسمية هي الآلة المميزة للشخصية القومية المصرية، يبدو أنني صدمت مشاعر القارئ بهذه المقولة لكنها صحيحة؛ إذ تُجمِع الدراسات والمراجع المتخصصة على أن آلة "الكنر" السمسمية المصرية القديمة أول الآلات الوترية الكاملة الصنع والتركيب، وقد عُرِفت بالتحديد منذ أكثر من أربعة آلاف عام مضت).

   ثم يقول: (فهل بعد هذا نحن بحاجة للسؤال: لماذا السمسمية؟ فالسؤال ببساطة يعني: لماذا أنا مصري؟.. ولأن السمسمية آلة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ المصري، فوجودها حتى الآن يعطي مؤشرًا قويًا بأن حضارتنا على مر التاريخ حلقة من حلقات الاتصال وليس ثمة انقطاع كما يتوهم البعض).

  يتخذ ستاتي السمسمية مَعْبَرًا من الإقليمية إلى الهوية المصرية بشكل عام حتى لا يتقوقع في محافظته أو إقليمه، يبدو هذا الاتجاه لديه جليًا عندما أسس فرقة للأبحاث والفن الشعبي فأطلق عليها "كنر" انعتاقًا وتحررًا من سويسيته إلى مصريته التي يَعملُ لها بحثًا وتأسيسًا فكريًا. مع كونه سويسيًا عاشقًا لها وغارقًا في قنالها وشوارعها، التي يصفها في مقاله: "السويس التي لا تُنسى": (على جانب من القناة ارتسمت أحلى صورة لمدينة السويس وظهرت عروس البحر الأحمر بفستان أزرق متموج يضمه ترس وأربع عجلات تدور كعقارب الساعة يتوسطه شعلة بلون الدم والجمر)..

    وليس أدل على عشقه للسويس أن يكون مفتتحه في التصنيف والتأليف كتابه "السمسمية بين الواقع والأسطورة" منتهيًا بكتابه "القلزم بين حقيقة التاريخ وأسطورية الإبداع السردي"، والرابط بين عنوانيهما كلمة "أسطورة"، غير أن هويته المصرية هي الأبقى ومن أجلها يناضل.

   يثبت ستاتي انحياز المصري لأصوله عبر الاستشهاد بكلمات من العامية المصرية المتداولة التي يراها امتدادًا للغة المصرية القديمة، فيرى أن المصري استفاد كثيرًا من اللغة الفرعونية واللغة العربية لينحت منها لغته الخاصة فيما عرف باللهجة العامية كلغة وسيطة بعد أن تخلصت من الصرف والتنوين.

   إن غاية الراحل عصام ستاتي هو الانتصار للهوية المصرية لأنه يراها تحتوي الأديان ولا تحتويها أي ملة لنفسها أو تحتكرها لها، ولعل من يطالع مقدمات كتابيه عن الفلكلور القبطي وشم النسيم سيلاحظ هذا جيدًا، حيث لا يرى أن الفولكلور القبطي منفصلًا عن الهوية المصرية، فهناك فولكلور وطني مصري؛ لأن كلمة قبطي في اللغة الفرعونية تساوي كلمة “مصري”، وأن المصري حالة من التواصل لا ينكر ما سبقه، بل يضخ فيه دمًا جديدًا، يتوافق مع روح المجتمع الذي يعيش فيه.

   ليس ه
َم ستاتي أن ينتصر لمصر المسيحية أو مصر المسلمة بل الانتصار لمصر بكل ما فيها ومن فيها بلا ادعاء أو مزايدة، مصر المتواصلة بتاريخها القديم في عصرها الحديث، ولذا فهو يدعو المصريين للاحتفال بشم النسيم باعتباره عيدًا عالميًا، فيقول: (هيا نكتب لمصر تاريخًا آخر غير تاريخ الملوك والسلاطين والحكام.. نكتب تاريخ المصريين الحقيقي).

   إن ستاتي يريد أن ينقل التاريخ الحقيقي من قلوب وأفواه بسطاء المصريين من خلال عاداتهم وتقاليدهم وأساطيرهم.. لأنه يرى أنه آن الآوان لإماطة اللثام: (عن علامات تبين وحدة المعتقد الشعبي الذي هو وقود الوحدة الوطنية وصاهرها في بوتقة تشكل جسد وقلب مصر التي حماها الله بفضل هؤلاء البسطاء منتجين عبقرية المصريين الذين اكتشفوا جوهر العقيدة كما يراها الله، وهو الدين لله والوطن للجميع)..

    حين كنت ترى عصام ستاتي يمشي متئدًا، ويتكلم هادئًا، كأنه مصري قديم من طيبة أو منف، يحمل فوق كتفيه مسوح الحكمة النابعة من الأجداد، فترى الثورة الهادرة في نظرات عينيه، كما تحس مراجلًا مشتعلةً في صمته، تظن أنه لا ينتمي لزماننا، مصري قديم خرج من تابوته وسيعود إليه بعد أن يبلغ رسالته في المصريين المحدثين، ولعل من يطالع صفحته على "الفيسبوك" سيأخذه الدهش من كلماته التي يعلن فيها موقفه على ما يجري دون أن يصطدم بأحد، وتصل رسالته لكل أحد بقدر فهمه وعلمه ووعيه مع كونها من حكم وأمثال حضارة مصرنا القديمة.

    لقد رأى الرجل أنه أنهى مهمته، وقال كلمته، وترك بصمته في آذان وعيون وقلوب من يقرأونه روحًا اتخذت من الوجدان المصري مذهبًا تميل للتوفيق، وتبتعد عن التطرف، وتحب التوسط والتسامح والاعتدال، وهذا كله كان في شخص ستاتي "الحكيم" الذي تركنا جسدًا وبقيت كلماته التي ستعانق الخلود مثلما فعل المصريون القدماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

     منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات ا...